سدِّدوا وقاربوا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

من عظمة ديننا الحنيف أنّه دين علمٍ,، ومنهجٍ,، وقواعدº فهو يهتمّ بالكلِّيّات، ولا يُغفل شيئاً من الجزئيّات مهما كثرت وتنوّعت!

 

فلا تجد فرعاً من فروع الحياة ـ سياسةً واقتصاداً وثقافةً واجتماعاً ـ إلا وله أصولٌ ثابتةٌ يقوم عليها، وله قواعدُ راسخةٌ تحكم أفعال المسلم من حياته إلى مماته (قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين) (1)، وتضبط بصره وسمعه وفؤاده بميزان الشرع (إنّ السمع والبصر والفؤاد كلٌّ أولئك كان عنه مسؤولا) (2)، وتحصي كلماته عدّاًº حتى إنّه (ما يلفظ من قولٍ, إلا لديه رقيبٌ عتيد) (3). وتلك ـ لعمري ـ من روائع علم الإدارةº بحيث تصبح الحياة رسالةً ومسؤوليةً وأمانةً. قال السعدي:\"فحقيقٌ بالعبد الذي يعرف أنه مسؤولٌ عمّا قاله وفعله، وعمّا استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يُعِدّ للسؤال جواباً\"(4).

 

ومن قواعد الإدارة في هذا الدين: التسديدُ والمقاربةُ والتوسّطُ والاعتدالُ، وتوخِّي القصد، واجتناب الغلوّ والإسراف والعنت وتحميل النفس من الأعمال ما لا تطيق.

 

فهذا المَعلَم يقابلك حيثما حللتَ في إدارة المسلم شؤونه الخاصة ومسؤولياته العامة. ففي طهارته هو مخاطبٌ بالاعتدال والقصد. كما قال القحطاني:

 

واحذر وضوءك مُفرِطاً ومُفَرِّطاً  *** فكلاهما في العلم محذورانِ

لا تُكثِرَنَّ ولا تقلِّل واقتصد  *** فالقصدُ والتوفيق مصطحبانِ!

 

وفي شؤونه الاقتصادية والاجتماعية هو مأمورٌ باجتناب الإفراط والتفريط. كما قال الله - عز وجل -: (وآتِ ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذِّر تبذيرا) (5). وقال - عز وجل -: (ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) (6). قال ابن كثير:\"يقول الله - تعالى - آمراً بالاقتصاد في العيش، ذامّاً للبخل، ناهياً عن السّرف (ولا تجعل يدك مغلولةً في عنقك) أي لا تكن بخيلاً منوعاً لا تعطي أحداً شيئاً...(ولا تبسطها كل البسط) أي ولا تُسرف في الإنفاقº فتعطي فوق طاقتك،وتُخرج أكثر من دخلكº (فتقعد ملوماً محسوراً)\"(7). وقد مدح الرحمن عباده بأنّهم: (إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) (8). قال السعدي:\"(لم يسرفوا) بأن يزيدوا على الحدّº فيدخلوا في قسم التبذير، وإهمال الحقوق الواجبة. (ولم يقتروا) فيدخلوا في باب البخل والشحِّ، (وكان) إنفاقهم (بين ذلك) بين الإسراف والتقتير (قواماً)...وهذا من عدلهم واقتصادهم\"(9).

 

إلى غير ذلك مما لا تعيره الملل الأخرى اهتماماً وعناية وهو في أمتنا دينٌ وهداية! مثل كراهة المشي في نعلٍ, واحدة، والنهي عن القَزَع (10). والأمر بغضّ الصوت والقصد في المشي. قال ابن كثير ـ في تفسير قول الله - تعالى - على لسان لقمان: (واقصد في مشيك) ـ:\"أي: امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبِّط ولا بالسريع المُفرط. بل عدلاً وسطاً بين بين\"(11).

 

ولا ريب أنّ هذا المَعلَم الأصيل في الإدارة الإسلاميّة ينبع من أنّ الشريعة مبنيّةٌ على التخفيف والتيسير، كما قال الله - تعالى -: (لا يُكلِّف الله نفساً إلا وُسعها) (12). قال السعدي:\"أصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوسº بل هي غذاءٌ للأرواح، ودواءٌ للأبدان، وحِميةٌ عن الضرر\"(13).

 

وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطأ المنهجيّ الذي يقع فيه بعض الناسº إذ يَعُدٌّون الغلوّ والمبالغة علامة التقوى والخشية. فقال - صلى الله عليه وسلم - لأولئك النفر الثلاثة ـ كما في حديث أنس عند الشيخين ـ: ((أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم لهº لكنّي أصوم وأُفطر، وأصلِّي وأرقد، وأتزوّج النساءº فمن رغب عن سنّتي فليس منّي)).

 

وعبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ضياع الأعمال وذهاب الجهود المبذولة فيها سُدًىº لأجل خُلُوِّها من القصد والاعتدال. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن ابن مسعود ـ: ((هلك المتنطِّعون))! قال النووي:\"المتنطِّعون: المتعمِّقون المشدِّدون في غير موضع التشديد\"(14). وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: ((تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم))º ولكنّهم ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة))!

 

ومن التوجيهات الإدارية العظيمة ما نبّهنا إليه نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - الذي أُوتي جوامع الكَلِم: من اغتنام أوقات النشاط، وفراغ القلب، والاستلذاذ بالعملº فإنّ ذلك من شأنه أن يبلِّغنا المقصود من غير تعب ولا ملل. فقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة عند البخاري ـ: ((إنّ الدين يُسرٌ ولن يُشادّ الدّينَ ـ أحدٌ ـ إلا غلبهº فسدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدٌّلجة)). وفي رواية: ((القصدَ القصدَ تبلغوا)). قال النووي:\"معناه: استعينوا على طاعة الله - عز وجل - بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكمº بحيث تستلذّون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودكمº كما أنّ المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات، ويستريح هو ودابّته في غيرهاº فيصل المقصود من غير تعب\"(15).

 

وقد صرّح النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن إتيان الأعمال في حال الإرهاقº إذ إنّ ما يترتّب على ذلك من المفاسد أعظم مما ينتج عنه من المصالحº فإنّ العمل مع الضعف والفتور لا يأتي بخير. وقد روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها -أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا نعس أحدكم وهو يصلّي فليرقدº حتى يذهب عنه النومº فإنّه إذا صلى وهو ناعسٌ لا يدري لعلّه يذهب يستغفر فيسبّ نفسه))!

 

كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إتيان المنشِّطات عند استفحال التعب وذهاب القوى وحلول النوم وما إلى ذلك من مقتضيات البشريّة. فقد روى أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين قال:\"دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا حبلٌ ممدودٌ بين الساريتين. فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: هذا حبلٌ لزينبº فإذا فترت تعلّقت به. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حلّوهº ليصلِّ أحدكم نشاطَه، فإذا فتر فليرقد))\". وتأمَّل هذا الفقه الجليل فيما رواه مسلم من حديث عائشة: ((لا صلاة بحضرة طعامٍ,، ولا وهو يدافع الأخبثين))!

 

ولاشك أنّ هذا يوضح لنا معرفة الصحابة الكرام بهذه المعاني الإداريةº فقد كانوا على بيّنة من أنّ المبالغة في طلب النجاح في شيء واحد تعيق نجاحات في ميادين أُخَر. كما قال سلمان لأبي الدرداء ـ في البخاري ـ:\"إنّ لربّك عليك حقاًّ، وإنّ لنفسك عليك حقاًّ، ولأهلك عليك حقاًّº فأعطِ لكلّ ذي حقٍّ, حقّه\". فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق سلمان))!ومن هذا الباب توجيه النبي ـ بأبي هو وأمي ـ حنظلة بن الربيع بقوله - صلى الله عليه وسلم - له: ((يا حنظلة ساعةً وساعةً))!

 

وأما ما يتوهّمه بعض الناس من تحرّي حصول المشقةº طلباً لزيادة الأجر، وتحميلا للنفس فوق طاقتها، فأمرٌ نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما روى ابن عباس في البخاري ـ:\"بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذا برجلٍ, قائمٍ,. فسأل عنه. فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مروه فليتكلم، وليستظلّ، وليقعد، وليتمّ صومه)).

 

ومن تفكّر في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف (كانت صلاته قصداً وخطبته قصدا) (16)\"أي بين الطول والقصر\". وتوجيهه عبد الله بن عمرو إلى تخفيف العبادة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّك لا تدري لعلّك يطول بك عُمُر!))، عرف فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في النظر إلى المآلاتº فإنّ الذي يُحمِّل نفسه أكثر من طاقتها ويهمل حاجته إليها في المستقبل، ينقطع في نصف الطريق إن لم يكن في بدايته! كما أخرج البزار وابن المبارك في الزهد (18): ((إنّ هذا الدين متينٌº فأوغلوا فيه برفق، ولا تُبغّضوا إلى أنفسكم عبادة اللهº فإنّ المُنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى))! ولله درّ البخاري حيث ترجم في كتاب الرقاق (باب القصد والمداومة على العمل)، والنووي حيث أورد في (باب الاقتصاد في الطاعة) من (رياض الصالحين) حديث عائشة:\"كان أحبّ الدّين إليه ما داوم صاحبه عليه\"º إشارةً منهما إلى العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد وبلوغ المراد!

 

ورحم الله القحطاني حيث قال:

يا أيها السنّيٌّ خُـذ بوصيّتي ***واخصُص بذلك جملةَ الإخوانِ

واقبل وصيّةَ مُشـفقٍ, متودّدٍ, ***واسمع بفهمٍ, حاضرٍ, يقظـانِ!

كُن في أمورك كلّها متوسّطاً ***عدلاً بلا نقصٍ, ولا رُجحانِ!(19)

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة الأنعام: 16 2.

(2) سورة الإسراء: 36.

(3) سورة ق: 18.

(4) تيسير الكريم الرحمن: 457.

(5) الإسراء: 26.

(6) الإسراء: 29.

(7) تفسير القرآن العظيم: 3/53-54.

(8) سورة الإسراء: 67.

(9) تيسير الكريم الرحمن: 586-587.

(10) وهو حلق بعض الرأس دون بعض.

(11) تفسير القرآن العظيم: 3/385.

(12) سورة البقرة: 286.

(13) تيسير الكريم الرحمن: 120.

(14) رياض الصالحين: 105.

(15) رياض الصالحين: 106.

(16) رواه مسلم عن جابر بن سمرة.

(17) رياض الصالحين: 107.

(18) فتح الباري: 13/87.

(19) نونية القحطاني: 22.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply