بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أثنى الله ـ تعالى ـ على الراسخين في العلم بأنهم إذا تُتلى عليهم آياتُهُ سلّموا بها، ولم يعترضوا عليهاº بل إنهم قد عرفوا ضعفَ عقولهم وسلّموا بقصورهم، كما قال الله - جل جلاله-: (هو الذي أنزل على عبده الكتابَ منه آياتٌ مُحكَماتٌ هنّ أمٌّ الكتاب وأُخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله وما يعلم تأويلَه إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلُّ من عند ربِّنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب).[1]
فقد كانوا - رضي الله عنهم- على تمامِ علمِهم أكملَ الناسِ تسليماً وبُعداً عن الخوض فيما لا يعلمون، كما نقل ابنُ رجب في (فضل علم السلف على الخلف) عن عمر بن عبد العزيز قوله: \"إنّ السابقين عن علمٍ, وقفوا، وببصرٍ, قد كفٌّوا، وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا\"!
فالعاقلُ يُدرك معنى (وقل ربِّ زدني علماً)، (وفوق كلّ ذي علمٍ, عليم)º وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- لجبريل - عليه السلام- حين سأله عن الساعة: (ما المسؤولُ عنها بأعلم من السائل)º[2] وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم- أعلمُ الناس بربّ العالمين، وأنه لم يكن من المتكلِّفين.
وكان - صلى الله عليه وسلم- ربّما سكت عن الجواب وانتظر الوحيَ من جبريل - عليه السلام-، أو لم يردّ على السائل إلا بعد حينٍ,، كما روى أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنه- أنّ بشير بن سعد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: (أمرنا اللهُ تعالى أن نُصلّي عليك يا رسول الله فكيف نصلّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم-º حتى تمنّينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: قولوا: اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيتَ على آل إبراهيم...) [3]، وقد ترجم البخاري في هذا المعنى (باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يُسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري، أو لم يُجب حتى ينزل عليه الوحي)، و أورد فيه حديث جابر - رضي الله عنه-: ((مرضت فجاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعودني وأبو بكر وهما ماشيان فأتاني وقد أُغمي عليّ، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثم صبّ وضوءه علي فأفقت، فقلت: يا رسول الله ـ وربما قال سفيان فقلت أي رسول الله- كيف أقضي في مالي؟ كيف أصنع في مالي؟ قال: فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث)[4].
وقد كان التوقف عن الجزم لأدنى شكٍّ, من شِيَمِ كبار العلماء الأمناءº حتى إنّ أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج كثيراً ما يشكّ في الحرف الواحد من الحديث كما يراه طالبُ العلم في صحيح مسلم من تكرار: (شعبة الشّاكٌّ)!
وقد اشتدّ نكير العلماء على من قال بغير علمٍ,º فروى مسلم عن مسروق قال: (كنّا عند عبد الله[5] جلوساً وهو مضطجعٌ بيننا، فأتاه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الرحمن إنّ قاصّاً عند أبواب كندة يقصّ ويزعم أنّ آية الدّخان تجيءº فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزّكام، فقال عبد الله ـ وجلس وهو غضبان ـ: يا أيها الناس اتقوا اللهَº من علم منكم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلمº فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم: اللهُ أعلمº فإنّ الله - عزّ وجلّ- قال لنبيّه: (قل ما أسألكم عليه من أجرٍ, وما أنا من المتكلِّفِين)...).[6] وفي روايةٍ, (من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: اللهُ أعلمº فإنّ من فقه الرجل أن يقول لما لا علمَ له به: اللهُ أعلمº إنما كان هذا أنّ قريشاً لمّا استعصت على النبي - صلى الله عليه وسلم- دعا عليهم بسنين كسنين يوسفº فأصابهم قحطٌ وجَهدٌº حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى بينه وبينها كهيئة الدّخان من الجهد...).[7]
فـ(لا أدري) علامةٌ على الرسوخ في العلمº خلافاً للرؤوس الجهال الذين يفتون بغير علمٍ,º فيضلّون ويُضلّون! ولهذا تجد هذه الكلمة المباركة منصوصاً عليها في مناقب مالك ومآثر الزهري. بل نُسبت إلى أهل المذاهب الأربعة! ورحم الله الشيخ عبد الله بن إبراهيم الشنقيطي حيث قال:
فالكلٌّ من أهل المناحي الأربعة *** يقول: لا أدري فكن متَّبِعَه![8]
وروى مسلم في مقدّمته النفيسة عن أبي عقيل يحيى بن المتوكّل قال: كنتُ جالساً عند القاسم بن عُبيد الله ويحيى بن سعيد، قال يحيى: إنه قبيحٌ على مثلك عظيمٌ أن تُسأل عن شيءٍ, من أمر هذا الدّينº فلا يوجَد عندك منه علمٌ ولا فَرَجٌ ـ أو علمٌ ولا مَخرَجٌ ـ فقال له القاسم: وعمّ ذلك؟ قال: لأنك ابنُ إمامَي هدى: أبي بكرٍ, وعمر! قال له القاسم: أقبحُ من ذلك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علمٍ, أو آخذ من غير ثقة!\"[9]
ولا ريب أنّ (لا أدري) دليلٌ على ورع أهل العلم، وتواضعهم، وإخلاصهم لله - ربِّ العالمين-º وإلا فإنّ الأنفسَ الضعيفة والقلوبَ المريضةَ تتوق إلى التشبٌّع بالعلم، وتستنكف عن الظهور بمظهر الجهلº ومن هنا فإنه لا يقدر على هذه الكلمة إلا المخلصون المُوَفَّقُون. كما قال الشيخ عبد الله بن إبراهيم الشنقيطي يشرح نظمَه للمراقي: \"إذا كان المراد التهيٌّؤ والصلاحية لا يقدح في أئمة المناحي الأربعة ـ أي المذاهب ـ قولهم (لا أدري)º فاتبع ذلك القولº فإنه يدلّ على الورع. ولله درٌّ القائل:
ومن كان يهوى أن يُرى مُتصدِّراً *** ويكره (لا أدري) أُصيبت مَقاتلُه!\"[10]
ولا شكّ أنّ من وفقه الله وبارك في علمهº فاعتاد على هذه الكلمة المباركةº أمكنه ردٌّ ما لا يعلمه إلى العالم به ـ كما تراه في مذهب السلف في إثبات الصفات ـ وتيسّر له التسليمُ للشرع في كلِّ شيءٍ,، وسهل عليه اليقينُ بما لا تُدركه حواسٌّهº وحُفِظَ من أن يُقدِّم بين يدي الله ورسولهº وتأمَّل هذا المعنى البديعَ في موقف أبي بكر وأم رومان - رضي الله عنهما- حينما اتٌّهمت عائشة بالإفكº فجعلت أمٌّنا عائشةُ - رضي الله عنها- تقول لهما: أجيبا رسولَ اللهº وهما يعرفان قدرَ رسول الله - صلى اله عليه وسلم-، ويُدركان براءةَ ابنتهماº فيقولان: والله ما ندري ما نقول![11]
وقد كان هذا شأن علماء الإسلام الأمناء على العلم ولو كانت في فنون اللغة وغيرهاº فقد ذكر السيوطي في (المزهر) أنّ من وظائف الحافظ \"الإفتاء في اللغة وأن يقصد التحرّي والإبانة والإفادة والوقوفَ عند ما يعلم، وليقل فيما لا يعلم: لا أعلم\" حتى ذكر - رحمه الله- أنّ رجلاً قال لأبي العبّاس ثعلب: أتقول: لا أدريº وإليك تُضرَب أكبادُ الإبل وإليك الرّحلة من كلّ بلدٍ,؟ فقال للسائل: لو كان لأمّك بعدد لا أدري بَعرٌº لاستغنت![12]
وهذا الفقه الجليل لكلمة (لا أدري) لا يُدركه أهلُ المكرِ والغدرِº فهو خصيصةُ أهلِ العلم والذِّكرº فكلما زاد المرءُ قرباً من الله - عز وجلّ- ومعرفةً بعلمهº زاد من قوله فيما لا يعلم: لا أدريº ورحم الله عامرَ الشعبيَّ، فقد روى السيوطي أنه \"قيل للشعبي: إنّا لنستحيي من كثرة ما تُسألº فتقول: لا أدري، فقال: لكن ملائكةُ الله المقرَّبون لم يستحيوا حين سئلوا عمّا لا يعلمون أن قالوا: (لا علم لنا إلا ما علّمتَنا إنك أنت العليم الحكيم)[13]\".[14]
-------------------------------------
[1] آل عمران 7.
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] شرح النووي على مسلم 4/124-125.
[4] فتح الباري 15/223.
[5] يريد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[6] شرح النووي على مسلم 17/140-141.
[7] المرجع السابق 17/142.
[8] نشر البنود على مراقي السعود للشيخ عبد الله بن إبراهيم الشنقيطي 1/16. دارالكتب العلميّة. بيروت. ط1. 1409هـ.
[9] شرح النووي على مسلم 1/90-91.
[10] نشر البنود على مراقي السعود 1/16.
[11] انظر القصة بطولها في المغازي من الصحيحين.
[12] المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي 2/314-315. دار الفكر.
[13] البقرة 32.
[14] المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي 2/315.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد