بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام نبينا محمد، وآله، ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
ففي هذه القصة التي أسوقها لك، أريد أن نعالج معا موضوعا مهما يمس أغلى ما نملك، وهو الوقت، وكيف نستفيد منه، ونحاول تخيف الزخم الهائل من الصوارف والشواغل..
وليكن بعد هذه الحكاية..
قرأتُ في كتاب \"الطالع السعيد الجامع أسماء علماء نجباء الصعيد\"
للمؤرخ الفقيه كمال الدين أبي الفضل جعفر الأُدفُوي الشافعي
في ترجمة الإمام العلامة المجتهد ابن دقيق العيد.
قال الأُدفُوي ص580:
وأخبرني شيخنا الفقيه سراج الدين الدَّندري أنه لما ظهر الشرح الكبير للرافعي(1) اشتراه [ابنُ دقيق العيد] بألف درهم(2)، وصار يصلي الفرائض فقط، واشتغل بالمطالعة إلى أن أنهاه مطالعة، وذكر عنده هو، والغزالي في الفقه فقال: الرافعي في السماء. اهـ.
ومما يشبه هذا الجهد والحرص لكنه في المذاكرة، وليس في المطالعة ما جاء عن الإمام أحمد،
قال عبد الله بن أحمد: لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثيرَ المذاكرة له، فسمعت أبي يوما يقول: ما صليت غير الفرائض استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي.
وروى الخلال في أخلاق أحمد: أن إسحاق قال: كنا عند عبد الرزاق أنا، وأحمد بن حنبل قال: فمضينا معه إلى المصلى يوم عيد، قال: فلم يكبر عبد الرزاق، ولا أنا، ولا أحمد بن حنبل!
قال: فقال لنا: رأيت معمرا، والثوري في هذا اليوم كبّراº فكبرتُ، ورأيتكما لا تكبران فلم أكبر، أو قال: ورأيتكما لا تكبرانº فهبت!
قال عبد الرزاق: فلمَ لَم تكبرا؟
قال فقلنا: نحن نرى التكبير، ولكن شغلنا بأي شيء نبتدئ من الكتب. اهـ
من الآداب الشرعية 2/165-166.
وأخبار العلماء في مثل هذا كثيرة..
أقول: - رحمهم الله -، أين نحن اليوم من مثل هذا؟!
وكيفَ يَفعلُ مثلَ هذا اليوم مَن ثلث يومه في وظيفة تهلك الحفظ، والفهم!
وسدسه، أو أكثر في النوم!
وقل كم يذهب من الوقت في الأكل، وعند إشارات المرور، والزحام في الطرقات، ثم حاجات الأهل، وصلة الوالدين، والأقربين... ونحوها!
ثم التردد على المكتبات لمتابعة الجديد.
واجتماعات الإخوان التي لا تنتهي، والمناسبات.
ثم ما يقال في الترويح عن النفس... وكأنها قد أنجزت شيئا!
وهكذا يمضي العمر، وتنصرم الأيام، ولم نحصل شيئا!
فما الحل إذن؟
أقول: مع أني غيرُ سالمٍ, مما ذكرتُ..
أولا: من أهم الأمور هنا الالتجاء إلى الله، أن يوفقك، ويبارك في وقتك.
ثانيا: شد المئزر ومحاولة الاستفادة من كل وقت، حتى وأنت في السيارة تستطيع سماع الدروس المسجلة...، وهكذا في العمل اصحب معك كتابا، وانظر فيه كلما سنحت فرصة..
وقلل من حضور المناسبات، ولا تحضر إلا ما يتعين عليك حضوره، أو تخشى من مفسدة عند عدم الحضور..
واجعل معك كتابا في السيارة طالعه عند إشارات المرور، أو استغل وقتك بأي شيء فيه نفع، وتكون قد أنجزته وسلم لك مكانه. وهكذا...
ومِلاك ذلك كله الشعور بقيمة الزمن، وأنه هو العمر، فتضييعه أعظم من تضييع الذهب والفضة..
ومما يعين على ذلك مطالعة سير العلماء الأوائل المجتهدين في حفظ أوقاتهم كما هو مسطر في كتب التراجم، والسير.
وفي كتاب \" قيمة الزمن عند العلماء\" للشيخ عبد الفتاح أبو غدة من هذا شيء نفيس..
ولو جُمِعَ ذيلٌ على الكتاب لكان أمرا حسنا، فهناك حكايات ليست بقليلة توازي بعض ما في الكتاب، بل قد تفوق، وإن كان الرجل لم يقصد الاستيعاب.
وكذا التواصي بين الإخوة..، واستغلال الوقت في المفيد حال الاجتماع بهم.
ومن أكثر الأمور تضييعا للوقت كثرة الفضول بتتبع الأخبار والتفاصيل غير المفيدة..
في الصحف، أو الانترنت، والدخول للمواقع غير المفيدة، ومتابعة ما يكتب فيها من سقط الكلام، والقيل والقال..
فإنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهل نحن منتهون؟
ولعلي أختم بهذه الحكاية الطريفة من ابن الجوزي - رحمه الله - قال في صيد الخاطر ص209
أهل الفراغ بلاء، أعوذ بالله من صحبة الباطلين، لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني، و يتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المَزُور وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصا في أيام التهاني، والأعياد فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء، والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير كرهت ذلك وبقيت مهم بين أمرين:
إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان.
فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق.
ثم أعددت أعمالا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغا.
فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد [الورق]، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر، وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي.
نسأل الله - عز وجل - أن يعرفنا شرف أوقات العمر وأن يوفقنا لاغتنامه.
ولقد شاهدت خلقا كثيرا لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة، ومنكر.
ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج، ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من السلاطين، والغلاء والرخص إلى غير ذلك.
فعلمت أن الله - تعالى -لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك \" وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم \". اهـ
------------
(1) اسمه: فتح العزيز شرح الوجيز.
(2) لا تظن أنه كان غنيا بل ربما مَرَّ عليه الوقت، وليس عنده درهم، وهو في منصب قاضي القضاة! وقد رفع مرة للقاضي بسبب مال عليه.. فقال: هذا بسبب حبي للكتب.
والله أعلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد