أمة اقرأ


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

اقرأ باسم ربك الأعلى قبس من نور رباني شرح به العالـم القـادر صـدر خير خلقه و أنــــار بصيرته ذات ليلة في غار أغرق الظلام الدامس جوانبه ليزهد فيه القرشي الأمي هاربا من سهام ظـــــلام أشد من ظلمات الكهف, ظلام تحيكه دياجـير الجهل المتفشـي في كل الجوانب حتى في تعامـل الإنـسان مــع ذاته.

إن المتتبع لرموز هذه الثلاثية القاتمة في تحديداتها - الأمية, الظلام, الجهل- لا يدخر جهدا في أن يـقف عـند حقيقـة مـشرقة تـبعثها مـعادلة أن لـله في خلقه شـؤون. و لمـا قرن كـل نـبي بإعـجاز خـارق لمألوف العيش يعينه على قومه ليتمسكوا به ويؤمنوا بما حمل من فوق السبع الطباق فقد عزز محمد -عليه أفضل صلاة و سلام- بإعجاز لم يكتب لي سواه من سبقة الأنبياء و المرسلين- صـلوات اللـه عليهم أجمعين- فجوهر هذا الإعجاز هو القراءة في عز بلاغة العرب و دهاء قريحتهم ربما هذا ما تطفي على معجزة سيد الخلـق الكثـير من الخصوصية فمحمد - عليه الصلاة والسلام - لم يحي الموتى أو يشفــــي العمي أو يستأنس نارا كما لم يخرج يده بيضاء من غير سوء و لكنه واجه جموع بلغاء قريش بأحكــم كتاب و هو الأمي الذي لم يكتب له يومـا أن يستقـي مما تيسر لهـم من علـم, مواجهة فتـحت لـه أبواب السحر و الشعر و حتى الجنون كما زعموا في بادئ الأمر هذا من جهة و جهة أخرى استمرارية و خلود معجزته فما من نبي إلا و رفعت معه أسرار معجزته إلا هي خالدة إلى أن يرث الله الأرض و من عليها, وإن عبر هـذا كلـه عـن شيء إنمـا يعـبر عـن ثقل الأمانة! الموضوعة على كاهلنا المركزة أساسا على الحـفاظ على الاستمرار الإعجازي الذي يتوقف علينا نحن العرب فـإذا نحن ورثة الرسول - عليه الصلاة والسلام - في تبليغ تعاليم الدين الحنيف الذي أستهل بنبذ الجهل و الأمية والدعوة إلى العلم والقراءة ليشتت ظلمات الكهف بتـقرير مـن رب العـالمين و بـتكليف لجبريل - عليه السلام - بنور إلهي اخترق إشعاعه الغار ليفيض على الكون كله مكسرا قلاع الجهل و الطغيان.

و بعد كل ما قيل عن بدء التنزيل و خلفياته سيرة صاحب الرسالة و حقه على خلفه من بعده فهل فعلا الأمة العربية وافية لعهود الأسلاف وذلك بتأمينـها لاستمرارية السر الإعجـازي وتعمـيم نور الله علـى سائر خلقه وهل فعلا أمة اقرأ تقرأ؟

إشكال يحمل راكبه على الوقوف على حاضر العرب اليوم والغوص في ذلك الكم المتراكم من المعطـيات والمستـجدات التـي شلـت اللسان العربي وأطـلقـت العنان لطفيلية اللهجـات لتدنس لغة الضاد بساقطات لا أساس لا وجود لها في القطار الكرنولوجي لأصل اللغات, و الأكثر من هذا كله إشتياح ألسنة الفرس و النصارى للأمة العربية أمام تراجع لغتـها حتـى و إن بزغـت كـل هذه اللغـات البربرية في ثوب جديد تزركشه فركفونية زائفة وإنجلوسكسونية جائرة استهوت اللسـان العربي فسـقط فـي جب مكـرهـا و استعار من لغته و الغريب من ذلك كله أن العربي كلما زاد علما زاد بعدا وتمردا عن لغته وعقوقا لها وهذا كله تحت غطاء التقسيم الجديد لمهام اللغات فأصبـح للعلـم لغة و للبحث لـغة و للآداب لغـة وأمـام ضعف وهوان العربي اقتصرت لغته على الغراميات، هـذا التقسيم الذي جعل من القوة ميزانه حتى تأكـد لنا القول الشائع يزغ بسلطان مالا يزغ بقرآن.

فهل فعلا تحولت اللغة العربية إلى لغة من الغراميات بعدما كانت لغة السر الإلهي؟ و ما هي دوافع ضعف اللسان العربي؟

الأكيد أن الضعف نحن صانعيه و جمود اللغة العربية لا أساس لها و كل ما في الحقيقة أننا لم نرتقي إلى التعامل مع سموا عباراتها ألفاظها الغنية عن كل ما سواها من اللغات ربما تقزمنا هذا ما يجعل منا دائمي الهروب إلى لغات أخرى تتناسب في عقمها و إمكانياتنـا الذهنيـة التي شح عليها الزمـان فأصبـح من غير مقدورها إستوعاب لغة في ضخامة اللغة العربية.

إن العربي باستلهامه لزيف الغرب و استعذابه لقذارة طيشه ودلك بانغماسه في مبيقاته منتهكا بذلك كل الحدود التي رسمها له الشرع وبهذا فتح على نفسه أبواب انتقام الله ورفعت عنه العناية الإلهية والتي لا يعقل أن تمنح لعاصي، فإرثنا التاريخي حافل بمواقف و آيــات لا يلجـها إلا ذو لب فيـجعل منـها العـبرة وربما هذا ما سنستشفه من محاورة الإمام الشافعي - رحمه الله - لأسـتاذه الوكيـع مكرسـا في ذلـك أسمـى أهداف التنزيل العلم و في الوقت نفسه النصيحة، - فالدين النصيحة - حيث قال:

شكوت وكيع سوء حفظي              فأرشدني إلى ترك المعاصــــي

وأخبرني بأن العلم نور                   ونور الله لا يؤتى لعاصي

فإن كان هذا هو حال الإمام الفقيه فما هو حالنا نحن سواد هذه الأمة؟

ربما نقتفي أثر الشافعي - رحمه الله - في شكواه ونعــود لنقـف على حال مشايخنا فالأشجـار من ثمارها تعرف لكن إلى أي الأشجار يا ترى ينسب العلقم لا على سبيل الإهانة نسترسل حديثنا هنا و لا هو التقليل من شأن معلمينا و إن كل ما في الأمر هو محاولة منا لكشف موطن الخلل فينا فنستدركه بتقويم اعوجاجه وربما لنا فيما سجله لنا التاريـخ عن عمـر بن عتبة حـين ساق ابنه لمـعلمه للمـرة الأولى من الشواهد و العبر ما يجعلنا نعيد النظر إلى كل شيء بما في ذلك الحالة البيداغوجية والنفسيــة والتكوينـيـة للمعلم نفسه قبل أن يغرسها في ذات تلميذه حيث قال عمــــــر:

\"ليكن إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فعيونهم معقودة بك الحسن ما صنعت و القبح ما تركت، علمهم كتاب الله و لا تكثر فيملوه و لا تقلل فيهجروه و روهم من الحديث أشرفه ومن الشعر أعفه ولا تنقلهــم من عام إلى علم حتى يدركوه فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم وعلمهم سنن الحكماء.\"

و إن في هذه الصورة الوجدانية التي حتما تعيدنا إلى أيام عز ومجد البلاغـة العربيـة عبرة نـجعل منها دستورا لنلقح به كل البرامج التربوية و البيداغوجية بغية تكوين أساتذة اليوم و الغد وكلنا ثقة فيهم في تقويم لساننا و الارتقاء إلى سمو اللغة العربية فشخصية الإنسان من لسانه فالإنسان وراء لسانه كما كان يخاطب علي - كرم الله وجهه- بني جلدته.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply