تغيير المناهج بين جدل الداخل والخارج


بسم الله الرحمن الرحيم

 

دار الجدل حول الدعوة إلى تغيير المناهج أو تحسينها أو تطويرها في المجتمعات الإسلامية، والمفارقة أن الإدارة الأمريكية الحالية هي التي تسعى لفرض وصايتها علينا بزعم أن فلسفتنا التربوية أخرجت الجماعات \"الإرهابية\" التي أعلنت مسئوليتها عن أحداث كبيرة أشهرها تدمير برجي التجارة العالميين في الولايات المتحدة الأمريكية في أيلول (سبتمبر) 2001.

 

وبعيدا عن صلة أو عدم صلة أي من الأفراد أو الجماعات الإسلامية بحقيقة الزعم بأنها من وراء تلك الأحداث إذ ليس ذلك من شأن هذه المقالة فإن الذي يهمنا هنا هو إثبات ذلك الحكم المجرد القاضي ببيان العلاقة العضوية بين \"الأيديولوجيا التربوية\" التي تنعكس آثارها الجيدة أو الرديئة على سلوك هذا الفرد أو ذاك، أو هذه الجماعة أو تلك.

 

إن تناول مسألة المناهج التربوية \"الشرعية\" ومدى إسهامها في صناعة العنف أو التطرف داخليًّا أو خارجيًّا منهجيًّا لا يلتزم منهج البحث التقليدي السائد (الاستبانة – المقابلة – الملاحظة – السجلات مثلاً)، غير أن تناول هذه المشكلة هنا يقتصر على الأساس الكلي لتلك المناهج أو المقررات، أي على فلسفة التربية التي تصنع المناهج أو المقررات المعتدلة أو المتطرفة.

 

بين مقررات التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية:

إنه من الخطأ بمكان اعتقاد أن الفلسفة التربوية التي تصوغ الشخصية السوية أو المنحرفة رهن بالمقررات التعليمية وحدها دون أن يكون ثمة ارتباط وثيق بمؤسسات التنشئة الاجتماعية أو وسائطها، ويأتي في مقدمتها الأسرة، ودور العبادة، وأجهزة الإعلام، ونوادي الشباب، وجماعات الرفاق. ولذلك فإذا كانت الفرضية مثلا أن ليس ثمة تأثير سلبي لمقررات التربية أو توجيه المدرسة على سلوك الناشئة، فمن غير الممكن الجزم بأن بقية وسائط التربية في منأى عن ذلك التأثير عبر التربية غير المقصودة التي تتبناها تلك المؤسسات وتحدث آثاراً سلوكية بليغة في كثير من الأحيان.

 

ولعل من أكثر الشواهد حضورًا في هذا المضمار التذكير بأن أبرز قادة تنظيم القاعدة (بن لادن والظواهري) لم يلتحقا بمؤسسات التعليم الشرعي في أي مرحلة من المراحل، بيد أن ذلك لا ينفي تأثير بقية المؤسسات (الوسائط) التربوية الأخرى، ومنها جماعة الرفاق، ويمكن أن يمثلها رفاق العمل التنظيمي أو الحزبي في أي مرحلة من المراحل، كما أن تأثير بعض من يتولى دور التعليم الموازي (غير النظامي) في المساجد أو المنازل أو مقرات التنظيم ونحوها يسهم بدور فعال في تحقيق أهداف خاصة بهذا الفرد أو هذه الجماعة.

 

وللمطبوعات المقروءة (كتب – مجلات صحف ونحوها) والأشرطة السمعية (الكاسيت) والبصرية (الفيديو) ووسائل التثقيف والتوعية الأخرى (محاضرات – دروس – خطب – ندوات أناشيد) وأنشطة أخرى مختلفة، دورها الذي لا يستهان به كذلك في غرس منهج العنف وتبني التغيير المسلح، وصناعة شخصيات من هذا النوع.

 

إذن فليست المناهج التعليمية بمعنى المقررات أو المفردات المتضمنة في المحتوى الدراسي سوى عامل من جملة عوامل أخرى تسهم في صناعة التطرف أو العنف، ويمكن أن يتحقق عكس ذلك إذا كانت المدخلات معاكسة.

 

وثمة دوافع نفسية (سيكولوجية) واجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وفكرية، وأخلاقية، وأمنية، وأجنبية خارجية ذات دور لا يقل أهمية عما سبق، وعلى المعنيين بمعالجتها الالتفات الجاد نحوها إذا كانت ثمة جهود جادة تهدف إلى معالجة الظاهرة من جذورها.

 

ذلك كله بناء على فرضية أن مقررات التعليم الشرعي في العالم الإسلامي تخلو من مفردات العنف المادي بمعنى الدعوة إلى قتل الأبرياء والمدنيين والمعاهدين من غير المسلمين وتحتوي على عكس ذلك، أو العنف المعنوي بمعنى الإقصاء للآخر القريب (قبل البعيد)، واعتقاد أن الحقيقة ملك طرف واحد جملة وتفصيلا، وطرح مفاهيم ومبادئ مثل: مصطلحات العقيدة والتوحيد، وأهل السنة، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، والجهاد، والولاء والبراء، وفرض الجزية... إلخ، وفق تفسيرات غريبة أحادية، وآراء شاذة، تخالف غالبًا ما استقر عليه رأي جمهور الفقهاء في القديم والحديث، أو لا تحقق مقاصد الدين، وعلل التشريع، أو تجانب المصلحة الشرعية المنضبطة، لكن لو افترضنا تضمن مقررات التعليم لهذه المسائل على هذا النحو السلبي فإنه يغدو مفهومًا مغزى الدعوة إلى إصلاح هذه المقررات، وفي هذه الحالة لا بد من التفاعل الإيجابي الحذر مع هذه الدعوة بعيدًا عن ردود الأفعال المستجيبة باستسلام وإطلاق، أو الرافضة بشدة مطلقة، وكأنما تؤمن بالعصمة لمناهج ومقررات صاغ مفاهيمها واستنتاجات أحكامها بشر في أجواء وظروف معينة.

 

مشكلة التوقيت.. والاستجابات المختلفة:

وحين تطرح دعوة الإصلاح التربوية وتجد لها آذانًا مصغية ولو كانت حذرة واعية، فإن من المتوقع أن يُرمى المتفاعلون معها بقذائف من التهم الكبيرة التي تصور تفاعلهم على أنه ضرب من الانهزام والتمشي مع أوضاع يفرضها العدو المحارب، ولا تفرق بينها وبين استجابة أطراف أخرى مختلفة معها في الدوافع والنتائج المتوقعة.

 

بعيدا عن مناقشة أوجه الفرق بين الاستجابتين يتضح أن أحدًا من المعنيين الفعليين بشأن المناهج والتعليم الشرعي عامة لا يختلف مع الوجهة التي تعتقد بضرورة إعادة النظر في المناهج جميعًا بما فيها مناهج التعليم الشرعي غير أن الإشكال الذي يبرز كلما فتح هذا الملف يكمن في مسألة التوقيت بسبب سوء الظرف الزماني الذي تغلبت فيه قوى كبرى تبغي فرض رؤيتها من خلال مقررات التعليم الشرعي، بحيث تملي على الضعيف أفكارها وتوجهاتها، حتى في تعاليم الدين وكيفية التنشئة للجيل.

 

والمعلوم – في نظر الرافضين – أن مناهج التعليم الشرعي هي من الحصون الأخيرة المتبقية للحفاظ على كرامة الأمة وهويتها، ولذلك يتم الرفض المطلق أحيانا والتحفظ الشديد الذي يقترب من الرفض أحيانا أخرى، ويمثل هذا الاتجاه فئة ممن تعنى بقضايا التعليم الشرعي. وهي فئة محافظة يحسب لها الحرص على كرامة الأمة والغيرة على هويتها المتمثلة في فلسفتها التربوية في مقابل اتجاه آخر يمثله فئة من المتغربين الليبراليين واليسار القديم، وقد وجدت هذه الفئة بشقيها الليبرالي واليساري في هذه الدعوة ضالتها فاستغلتها أبشع استغلال لتصفية حسابات قديمة وحديثة مع بعض الإسلاميين، فراحت تجدف باتهاماتها في كل اتجاه، زاعمة أن مشكلات الكون تعزى إلى مناهج التعليم \"الدينية\" التي هي السبب الأول والأخير وراء جميع الكوارث، وكل الأزمات، ومنها الإرهاب والتطرف.

 

بين طرفي الإفراط في المحافظة، والتفريط بالثوابت يبقى اتجاه أحسب أنه واسع وكبير، هو اتجاه الاعتدال والوسطية من المعنيين بهذه المسألة، ويشمل ضمن من يشمل خبراء في المناهج، وعلماء في الشريعة، وأساتذة في التربية، ومفكرين من مختلف المجالات والتخصصات يعتقد جميعهم أن موضوع المراجعة الداخلية والإصلاح الذاتي أمر سنني يتناغم وعناصر الكون، التي تخضع جميعها لقانون التطور والتغير، ومنطق الأشياء وطبيعتها، بحيث لا ينبغي أن يستثني هذا القانون أمر المناهج التعليمية، بشرط أن تتوافر جملة من الضوابط المنهجية والموضوعية لضمان تحقيق الهدف المشروع من ذلك بعيدا عن الاستغلال وتحقيق الفرص للتشويه والمسخ والاستلاب[1].

 

إنه من المعلوم أن مسار تطوير مقررات التعليم بصورة عامة بدأ – في الواقع – في العديد من البلدان قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي تصنف بأنها السبب الرئيس والمباشر في كل هذا الضجيج الداعي إلى تطوير المناهج أو تغييرها.

 

وصحيح أن مسألة إصلاح التعليم حتى وإن بدأت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن ذلك لا يعني براءة مطلقة لبعض القائمين على صناعة القرار في الجهات ذات العلاقةº إذ من المعلوم أن الحديث عن ثقافة السلام (Culture of peace) وتربية السلام (Education of peace) وتطبيع العلاقة مع اليهود الصهاينة عن طريق حذف بعض النصوص القرآنية والنبوية من مقررات التعليم وإضافة بعض القيم والتوجهات الهادفة إلى تحقيق مخطط التطبيع بدأت أولى محاولاته في بعض البلدان العربية منذ قرابة العقدين من الزمان، كما شهدت السنوات الأخيرة محاولات مستميتة في أقطار عربية أخرى لتحقيق الهدف ذاته، ولذلك ينبغي الاعتراف من هذه الزاوية بأن الجهود التي تبذل اليوم لإصلاح أوضاع التعليم الشرعي خاصة لن تسلم من التأثر النسبي بهذه الأجواء، ولا سيما ما استجد منها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حتى على افتراض حسن النية وسلامة القصد.

 

تغيير المناهج.. وهاجس المحاذير:

بيد أن الأصح وفق النظرة الكلية والفقه المستوعب لكل التحديات أنه مهما يكن حجم المحاذير والتوجسات التي يخشى أن تصاحب عملية الإصلاح هذه فليس من الحكمة مطلقًا الوقوف في وجه عملية الإصلاح الداخلي لمقررات التعليم الشرعي، تحت ذريعة الظرف المناسب وغير المناسب، إذ إن ذلك تكأة ضعيفة لسببين رئيسيين:

 

السبب الأول:

أن ثمة حاجة حقيقية في أي منهج بشري لإعادة النظر فيه بين الحين والآخر، لتقويمه مرحليًّا (Initial Evalution) وختاميًّا (Summative Evalution) بحسبانه منهجًا وضعه بشر، وتم تقديمه في ظرف ما، لمعالجة مشكلات محددة، أو توجيه تعاليم، أو زرع سلوكيات، وإذا كان لبعضها صفة الدوام والخلود والإطلاق بوصفه جوانب أصولية عقائدية، أو تعبدية، أو أحكامًا سلوكية لا يأتي عليها الزمان بالتغيير والتجديدº فإن لبعضها الآخر سمة المرحلية الزمانية أو المكانية.

 

ولنتذكر أن عمل أهل المدينة يعد مصدرًا من مصادر التشريع عند المالكية دون غيرهم، وأن للإمام الشافعي مذهبين: قديمًا في بغداد، وجديدًا في مصر، وأن الفتوى تتغير بتغير الأمكنة والأزمنة والأحوال والنيات والعوائد بضوابطها كما يقول ابن القيم: \"فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد\"[2]، وما طرح بعض المقررات الصفية أو اللاصفية (النظامية أو غير النظامية) في بعض المجتمعات لمفهوم العقيدة والتوحيد وفق ما يظنونه منهج أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية والطائفة المنصورة على نحو إقصائي منغلق، إلا دليل صحة على ضرورة إعادة النظر بين الحين والآخر – دون مكابرة – مع التأكيد على جانب الضوابط والقيود العلمية والموضوعية.

 

السبب الآخر:

أن التعلل بالظرف الزماني وأنه غير مناسب هروبٌ من مواجهة المشكلة، ومحاولة لوضعها في خانة الترحيل إلى أمد لا يعلم نهايته إلا الله، ذلك أن الأمة لا تزال تعيش في أوضاع طارئة وتحت وطأة ظروف بالغة السوء والتعقيد، وفي أزمات متتابعة منذ 1367ه1948م على وجه التحديد، ولذا فإن دعوى التوقيت غير المناسب يمكن رفعها في وجه المصلحين في هذا المجال أو سواه، في أي ظرف، ذلك أن الأوضاع الطبيعية هي الاستثناء الذي لا يكاد يذكر في مقابل وضع الأزمة الذي غدا هو القاعدة إلى حين يتم تغيير ما بالأنفس.

 

ولعل فكرة غياب المجتهد طيلة قرون مديدة، عرفت في تاريخنا بعهود الانحطاط، كانت قد اتكأت على مسألة فساد الزمن، وضعف العلماء، وعدم وجود أهلية للاجتهاد بين أهل تلك الأزمنة، ومن ثم استحالة خروج إمام مجتهد بالمعنى المطلق، أو الجدل في إمكانه.

 

إشكال تجديد المناهج اليوم بأياد وطنية أصيلة مؤهلة، من منطلق الحاجة الفعلية التي يقتضيها واقع العصر، ومتطلبات المرحلة، على نحو من الوعي الحضاري، والحصافة والإدراك لملابسات الواقع وتعقيداته، وما تواجهه هذه الدعوة من معارضة شاملة من بعض ذوي الغيرة والنزعة المحافظة بلا تمييز بين منطلقين متناقضين للتطوير أو التجديد أحدهما ذاتي محلي والآخر خارجي غربي، هذا الإشكال ربما يعكس لونًا جديدًا من ألوان النزعة التراثية المعارضة لكل ما هو اجتهاد تجديدي أو جديد، حتى لو كان ملتزمًا –عمليًّا بالضوابط، حريصًا على الثوابت وربما أكثر من بعض دعاة المنع والوقوف في وجه أي إصلاح تعليمي.

 

من هذا المنطلق ليس أمامنا إلا مواجهة المشكلة بالسعي نحو امتلاك ناصية المبادرة الذاتية الداخلية لإعادة النظر في مقررات التعليم من ذوي الكفاءة والإخلاص والشجاعة والوعي، بصرف النظر عن تهوين الاتجاه المحافظ لشأن واقع المقررات الشرعية، بل ونزعته الدفاعية، وتهويل الاتجاه المتغرب ومبالغاته واستسلامه المطلق.

 

تحسين.. أم تطوير.. أم تغيير؟

نظرًا لحجم الهالة الإعلامية وتركيز وسائل الاتصال المختلفة وطرقها المستمر المتتابع على وتر المقررات الشرعية والدعوة إلى تحسينها أو تغييرها أو تطويرها أو نحو ذلك من التعبيرات، فإن الأمر يصور لغير ذوي الاختصاص أن تلك المصطلحات أسماء مختلفة لمسمى واحد، والواقع أن أهل الاختصاص يميزون بين مصطلح تحسين المنهج (Curriculum Improvement)، وتغيير المنهج (Curriculum change)، وتطوير المنهج (Curriculum Development)، إذ لكل واحد منها مدلوله الخاص.

 

فتحسين المنهج عبارة عن تغيير في مظاهر معينة منه، من غير ضرورة لتغيير المفاهيم الأساسية فيه أو في نظامه[3]. أما تغيير المنهج فقد يعني تغييرا نحو الأفضل كما قد يكون تغييرا نحو الأسوأ، وقد يتم في بعض الأحيان بإرادة الإنسان، وبناء على مقتضيات موضوعية، غير أنه قد يتم في أحيان أخرى دون إرادة الإنسان أو رغبته، وذلك حين يكون السبب فيزيقيًا طبيعيًا أو ماديًّا، مثل عوامل المناخ وتقلبات الأجواء الطبيعية، وقد يفرض من قبل جهات أجنبية أو خارجية فتتغير القيم الاجتماعية والعادات السائدة[4]. ولذلك فالتغيير أشمل وأوسع من التحسينº إذ قد يعني بطريقة ما تغيير مؤسسة (An Institution) وهو ما يعني تغييرا في كل من الأهداف والوسائل كما يقول مرتون (Merton). وإن كان ذلك لا يعني أن تتحقق الأهداف بالضرورة، بيد أن تغيير المناهج بناء على هذا لا بد أن يجر إلى عملية تغيير في الأفراد المعنيين كالتلاميذ، والآباء والمدرسين، ولجان التخطيط والتطوير والقائمين على النظام التعليمي بصفة عامة[5].

 

ومع ذلك فإن التغيير يظل في أساسه متسمًا عادة بصفة الجزئية، حيث ينصب الاهتمام الأساسي على جزء معين أو جانب ما من المنهج. أما التطوير فيمثل عملية شاملة تستغرق جميع جوانب الموضوع المراد تطويره، كما يرتبط بجميع العوامل المؤثرة في هذا الموضوع[6]. والأصل أن التطوير القائم على أساس علمي لا يؤدي إلا إلى الازدهار والتقدم الإيجابيين بخلاف التغيير[7].

 

وإذا كان التغيير قد يحصل أحيانًا دون إرادة الإنسان، بل يفرض عليه قسرا إما بسبب عوامل فيزيقية مادية أو طبيعية أو حضارية وقيمية، خارجية وأجنبية فإن التطوير لا يتم إلا بإرادة الإنسان، وبناء على رغبته الصادقة[8].

 

إن هذه التفاصيل تعد ضرورية في أوساط المعنيين بهذه القضية، بيد أن الموضوع الذي يخرج من حيز أهل الاختصاص إلى ساحة المجتمع بفئاته وشرائحه يجعل من المتعذر ضبط إيقاع هذه المفردات أو التحكم في مدلولاتها. ولكن مهما يكن من أمر فإن التحسين أو التغيير أو التطوير الذي يدور حوله الجدل الحاد بين اتجاهي الرفض المطلق، والاستجابة المفتوحة بلا حدود، هو التغيير الكلي الفلسفي الذي يقترب من التطوير عند أهل الاختصاص في شموله وسعته، لكن بمعنى سلبي معاكس وهو \"التطوير\" المدمر إن صح الوصف.

 

وخروجًا من هذا الإلباس والتداخل، فإن الصيغة التي يمكن أن تمثل عقدًا أدبيًّا وتربويًّا جامعًا بين كل حريص على الإصلاح والتصحيح بناء على رغبة ذاتية، ومقتضيات داخلية اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وسواهاº تفرض ضرورة المراجعة بين الحين والآخر للمقررات الشرعية في إطار ثوابت الدين، وقيم المجتمع، بعيدًا عن الرضوخ لضغوط الخارج وصداها الداخلي، وليسمَّ بعد ذلك تحسينا، أو تغييرا، أو تطويرا، أو تجديدا، أو تحديثا، أو إصلاحا، أو تصحيحا أو ما شئت أن تسميه، فالعبرة ستبقى ب\"المعدلات والمعاني لا بالألفاظ والمباني\"، خاصة وقد بلغ الأمر من التداخل والإلباس هذا المدى.

 

عملية التطوير.. وأسسها:

إذا كان الأمر على ذلك النحو من التفصيل والتباين بين كل لفظ وآخر، فإن أشهر مصطلح تواضع عليه خبراء المناهج ومصمموها هو \"التطوير\"، ولذلك يرد حديثهم تحت هذا العنوان غالبًاº لأنه مرادهم بالعمليات الإصلاحية للمنهج، ولكنهم في الوقت ذاته يخضعون عملية التطوير هذه لجملة أسس أو ركائز أبرزها[9]:

 

 التخطيط.

 مراجعة الأهداف التربوية وإعادة صياغتها.

 

 استناد التطوير على دراسة علمية للتلميذ والبيئة والمجتمع.

 

 تجريب المنهج المطور.

 

 الشمول والتكامل.

 

 الاستمرارية.

 

وحين يتم استعراض هذه الأسس، ومنها مراجعة الأهداف التربوية وإعادة صياغتها، فإن ذلك ليس على إطلاقه، بل هو ينطلق من أس الأسس إن صح التعبير ولحمته وسداه وهو الاستناد إلى الفلسفة التربوية (العقيدة) في المجتمع[10]. ولهذا فلا حرج من أي تطوير ما دام يحتكم إلى عقيدة المجتمع وقيمه وثوابته.

 

والإصرار على القول بأن لا مسوغ لإعادة النظر بالتطوير أو التحسين، أو التغيير بذريعة عدم مواءمة الظرف الزماني أو سواه، يتجاهل بروز ظواهر سلبية تبعث على القلق وتدفع للجدل المسوغ، كالغلو والانغلاق والإقصاء للآخر القريب (قبل البعيد) في فكر وسلوك أفراد وجماعات تعيش اليوم بين ظهرانينا. ولن يتم معالجة ذلك على نحو جاد وفعال إلا إذا انطلقنا من خلال إدراك مدى الأثر الذي تتركه \"الأيديولوجيا\" في سلوك من أنشئ عليها.

 

فإذا كانت بعض الجماعات المغالية اليوم تعلن منابذتها لفرقائها الذين كانوا بالأمس القريب معها حيث حمل أولئك السلاح في حين لم يُجزه هؤلاء فلا ننسى أن الفكرة تسبق الحركة، والمعلوم أن حملة السلاح تلقوا تعاليمهم وتربيتهم الخاصة من رموز هذه المدرسة، عبر منابر ووسائط عديدة ليس من بينها المقررات الرسمية بالضرورة، وبعض تلك الرموز، وإن لم يقصدوا المآلات السيئة التي آلت إليها تربيتهم، غير أن نتاج التعبئة الخاطئة في التربية هو هذا الحصاد المر، الذي اضطرهم لإعلان براءتهم من هذا المسلك، فيما يشبه الاستدراك المتأخر الهادف لإعلان البراءة ونيل الخلاص الذاتي.

 

الواقع أن هذه المخرجات المؤسفة نتيجة سلوكية طبيعية لفكر نظري معوج، يمثل هؤلاء الرموز مدخلاته الأساسية. ولنتذكر مرة أخرى أن مصطلحات عقيدة أهل السنة، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، ومفهوم الجهاد وهدفه، وفرض الجزية وعلته، ومبدأ الولاء والبراء، على سبيل المثال حين يكثر ترديدها وفق تفسيرات أحادية شاذة أو خاصة بفئة محدودة، ظهرت في زمان ما لملابسات تاريخية معينة، فتقدم اليوم تلك الاجتهادات الشاذة بوصفها الحق الذي لا حق سواه، فإن النفي والإقصاء يلحق الآخر القريب قبل الآخر البعيد، ولئن خلت مقررات التعليم النظامي من ذلك فلا تخلو منها وسائط التربية الأخرى عبر الدروس والمحاضرات والندوات والخطب وجملة الفعاليات والأنشطة في المناسبات المختلفة، وإلا فمن أين جاءت هذه المصطلحات وفق هذه الفهوم الشاذة التي يتبارى اليوم أكثر رموزها غلوا بالتسابق لإعلان البراءة منها.

 

والأمل أن تتبلور جملة هذه المراجعات لتصبح منهجا شجاعا مستمرا يُنشأ عليها الجيل المعاصر، وجيل المستقبل بإذن الله، لا أنها ظواهر مؤقتة فرضتها تداعيات الأحداث الأخيرة. لذلك فإن عملية الإصلاح المأمولة لا بد أن تتضمن التنصيص الصريح سواء عبر مواد مستقلة جديدة أو تضمينها عبر مواد التربية الإسلامية والاجتماعية على مفردات القبول بالآخر البعيد فضلا عن القريب والتعايش الحضاري بين الأمم ذات الأديان المختلفة، وتحرير النزاع حول مفهوم الجهاد وفق رأي جمهور العلماء، وكذا التربية على التآخي في ظل الخلاف المشروع بآدابه وقيمه وأخلاقياته، وإحياء فريضة الحوار الغائبة، وقيمة النقد الذاتي البناء، وتجسيد ذلك في أساليب التربية ووسائلها من قبل القائمين على تصميم المناهج، ومنفذيها من المعلمين بعد ذلك، وكذا تبيان فقه تغيير المنكر وطرقه ودرجاته، والعمل على إيجاد التوازن في التنشئة بين جوانب الشخصية الروحية، والعقلية والنفسية والوجدانية والجسمية، والتأكيد على نسبية الحقيقة في قضايا الاجتهاد ذات العلاقة بفروع الأصول أو الأحكام العملية وما يندرج في إطارها من رؤى وتباينات تتصل بالسياسية الشرعية، أو الأحكام السلطانية، أو فقه المصلحة والمفسدة وحق التعبير للجميع، على المستوى الفردي والجماعي في ظل الثوابت العامة للمجتمع والقواسم المشتركة بين أفراده.

 

أضف إلى ذلك مظاهر الضعف العام الذي يعاني منه التعليم الأساسي والثانوي والعالي في البلدان النامية، والمجتمعات الإسلامية في مقدمتها، بما في ذلك الضعف في مناهج التعليم الشرعية، سواء من حيث مفردات المقررات أو من حيث مظاهر الرتابة والنمطية والتكرار والاجترار والحشو، أو من حيث مظاهر الضعف الحقيقي العام في الهيئات التدريسية، ومنها الشرعية، تأهيلا وإعدادا وتسلحا بالثقافة المهنية الخاصة والثقافة الإسلامية والعامة، والالتزام بأخلاق المهنة، مع الضعف الظاهر أحيانا بتطورات العصر وتحديات المرحلة، ولا سيما من الناحية التقنية (التكنولوجية) ما يتسبب في الوقوع في الاغتراب الزماني، وفقدان المعلم جملة من عناصر نجاح المنهج الخفي (Hidden Curriculum) الذي بإمكانه توظيفه إيجابيا إلى أقصى نطاق، وهو ما لا عذر له فيه البتة، إذا اقترضنا تذرعه بضعف المنهج الرسمي الظاهر والمكتوب.

 

ومن المحزن أكثر أن لا تولي أي من الوسائط التربوية هذه القضايا اهتماما يذكر. وفي الوقت الذي تطرق فيه بعضها إلى قدر من ذلك، فإنه يظل رهنا بالمناسبات والظروف الطارئة، وفي العادة يتم تناوله بشكل ضعيف، مجتزأ، هش، مع الوقوع في تناقض سافر حينا، وخفي حينا آخر، بين أطاريح بعض القائمين على شئون التوجيه والتوعية في المساجد وفتاواهم وبعضهم من جانب، وبينهم وبين وسائل الإعلام، وما تبثه أو تذيعه أو تنشره من جانب آخر، وهنا تزداد المشكلة تعقيدا، والجيل حيرة، ويبقى المصلحون المخلصون يحترقون في أماكنهم.

 

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الوسيط الإعلامي الذي يفترض أن يكون الرديف والرافد الأقوى للمدرسة يعمل في الغالب، وخاصة عبر أقنيته الرسمية في الاتجاه المضاد، حيث يشايع التنشئة المنحرفة من خلال عرضه لأفلام العنف، حين يركز على الرجل الحديدي والخارق، والآلي، والسوبرمان الذي لا يهزم... إلخ، وكذا بعض المسلسلات المتلفزة فإن منها ما لا يخلو من إيحاء وربما سفور بأن البطولة إنما هي لمن درج على العنف، وسلك مسلك \"القبضايات\".

 

أما ما يسمى بأفلام الكرتون التي تشغل الحيز الأكبر من فراغ الأطفال وحتى الناشئة الكبار، فإن سوقها رائجة في الوسائل المرئية، وتهتم هذه الأفلام غالبا بحكايات المغامرات، وزرع الخرافة في نفوس الناشئة والاهتمامات التافهة، إلى جانب غرس مسلك العنف كنمط سلوكي، يرمز إلى معاني العظمة والتفوق والنجومية، وذلك كله يعني تنشئة مبكرة على تقبل هذه الظاهرة وسلوك مسلكها، وبالله التوفيق.

 ___________________

** أستاذ أصول التربية الإسلامية المساعد – جامعة صنعاء [email protected]

[1] راجع نص بيان مؤتمر مكة حول التعليم الإسلامي الذي اختتم يوم 26/1/2004م على موقع إسلام أون لاين، بتاريخ 28/1/2004م.

[2] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، د.ت، د.ط، القاهرة: دار الحديث، ج3، ص1.

 [3] Taba،H.Curriculum Develpoment Theovy and practice، New Yourk، Harcout، Brace and World، INC.1962،P.454

نقلاً عن محمد عزت عبد الموجود ورفاقه، أساسيات المنهج وتنظيماته، د.ت، د.ط، القاهرة: دار الثقافة، ص 289.

[4] حلمي أحمد الوكيل، تطوير المناهج، 1982، ط الثانية، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ص910.

[5] Merton، R.K.، Social Theory and Social Structure، New yourk، Free Press، 1957 as rerfrrened to by Taba، H.، op. cit.، p.455.

نقلا عن محمد عزت عبد الموجود، مرجع سابق، ص290.

[6] حلمي الوكيل، مرجع سابق، ص10.

[7] المرجع السابق، ص10.

[8] المرجع نفسه، ص10.

[9] نفسه، ص103149.

[10] راجع: فوزي طه إبراهيم ورفيقه، المناهج المعاصرة، 1983، ط الأولى، الإسكندرية: منشأة المعارف، ص265. وانظر لمزيد من الفائدة: أحمد حسين اللقاني، المناهج بين النظرية والتطبيق، 1981م، د.ط، القاهرة: عالم الكتب، ص 311 333، ومحمد زياد حمدان، المنهج: أصوله وأنواعه ومكوناته، 1402ه1982م، ط الأولى، الرياض: دار الرياض، ص414415، وتوما جورج خوري، المناهج التربوية، 1408ه1988م، ط الثانية، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص268271.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply