حكمة التوازن في خلق الكون وفي سنن الله الثابتة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 التـوازن ليس في فطرة الإنسان وحده. ولكن التوازن قائم في خلق الله كله، قائم في الكون كله: في السموات والأرض، في النجوم والشمس والقمر، في الجبال والوديان، في اليابسة والبحار، في الرياح والأمطار، في الثروات الموزعة في الأرض. إنه يكشف لنا دقّة التوازن وعدالته في حكمة ربانية بالغة، وإعجاز رباني بالغ.

 لقد خلق الله الكون كله سمواته وأرضه على موازنة ربانية وحكمة بالغة، لتكون مسخّرة للإنسان وحياته وهدايته:

(ألم تروا أن الله سخّر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ, ولا هدى ولا كتاب منير) [لقمان: 20]

 

فهذه حكمة ربانية. أنّى التفتنا في هذا الكون نرى الآيات البينات. ويعرض القرآن الكريم في معظم سوره آياته المبثوثة في الكون ليتدبّرها الإنسان ويخشع أمام عظمة الخالق الذي لا إله إلا هو، ويرى عظمة التوازن في كلِّ ما خلق الله:

(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك ربٌّ العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهنّ سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم)

[فصّلت: 9ـ12]

 

وتمتدٌّ الآيات الكريمة تكشف لنا صوراً شتى من التقدير الرباني المعجز:

(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزِّله إلا بقدر معلوم) [الحجر: 21]

 

(.. وكلّ شيء عنده بمقدار) [الرعد: 8]

 

(إنا كلّ شيء خلقناه بقدر) [القمر: 49]

 

 وخلق الله في الكون متقن غاية الإتقان، مقدّر أعظم التقدير، على أحسن تقويم:

(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) [التين: 4]

 

(الذي أحسن كلَّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) [السجدة: 7]

 

(وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرٌّ مرَّ السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) [النمل: 88]

 

 وهكذا نرى خلق الله كله: تقدير وتقويم وإحسان وإتقان، يحمل دقة الموازنة في كل أمر.

 الهواء وتركيبه ونسبة كل غاز فيه، حركة الأرض ودورانها وبعدها وموقعها بالنسبة لسائر النجوم والكواكب، النجوم والكواكب والمجرّات في كونٍ, ممتد لا ندرك أطرافه ولا نهايته. الجبال الراسيات، البحار والأنهار، الليل والنهار. وبتلاوة كتاب الله يظل المؤمن مع عظمة هذا التوازن الذي يقوم عليه الكون. إنه الحقّ! واستمع إلى هذه الآيات البيّنات:

(تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً. الذي له ملك السموات والأرض ولم يتَّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيءٍ, فقدّره تقديراً) [الفرقان: 1، 2]

 

وتدبّر هذه الآيات الكريمة:

(سبحَان الذي خلـق الأزواج كُلَّها مِمَّا تُنبِتُ الأرضُ ومِن أنفُسِهم وَمَمَّا لا يعلمون. وآيةٌ لَّهُمُ الليلُ نَسلخُ مِنه النهار فإذا هُم مُظلِمون. والشمس تجرِي لمُستقَرٍ, لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدَّرناه منازل حتى عاد كالعُرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تُـدرِك القمر ولا الليلُ سابقُ النّهارِ وكُلُّ في فلكٍ, يسبحُون) [يس: 36 ـ 40]

 

 ونلمح التوازن هنا في كلمة: \" الأزواج، تجري لمستقرٍّ, لها، قَدّرناه منازل، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر... \"

(الله يَعلمُ ما تحمِلُ كُلٌّ أنثى ومَا تَغيضُ الأرحَامُ وَمَا تَزدَادُ وكلّ شَيء عِندهُ بمِقدَارٍ,) [الرعد: 8]

 

 وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شي عنده بمقدار، تحمل كل ظلال التوازن.

(والأرض مَدَدناها وألقينا فِيها رواسي وأنبتنا فيها من كُلِ شَيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم لهُ برازقين. وإن من شيءٍ, إِلا عندنا خزائِنه وما نُنزِلُه إلا بقدرٍ, مّعلومٍ,. وأرسلنا الرياح لواقِح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكمـوه وما أنتم له بِخازنين. وإنـا لنحنُ نُحيي ونُمِيت ونحن الوارِثُون. ولقد عَلِمنا المستقدمين مِنكم ولقد علِمنا المستأخرين. [الحجر: 19-24]

 

 جولة واسعـة تعرض التوازن في الكون والحياة حتى شملت الموت والحياة، والمستقدمين والمستأخرين. وفي مد الأرض توازن، وفي إرساء الجبال، وفي كل ما تنبت الأرض، وكلٌّ شيء موزون. وعند الله خزائن كلِّ شيء وما ينزله إلا بقـدر معلوم، وبقـدرٍ, يحفظ التـوازن ويُمضي سنن الله في الكون. ونلاحظ هنا عظمة الشمول في إِعجاز التعبير القرآني: \" وإن من شيء إلا عندنا خزائنه... \". والموت والحياة يمضيان على سنن لله في كل ما فيها من توازن: \" وإنا لنحن نحي ونميت ونحن الوارثون \".

 يمضي القرآن الكريم يعرض لنا صوراً متعددة من آيات الله البينات في هذا التوازن في خلقه كله. وتمضي جهود الإنسان تضرب في آفاق الحياة لتكتشف آية بعد آية، وسنّة بعد سنّة، وتوازناً يمسكه توازن.

وجولة قرآنية أخرى:

(الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علّمه البيان. الشمس والقمر بحسبان. النجمُ والشجر يسجُدان. والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسرُوا الميزان. والأرض وضعها لِلأنام) [الرحمن: 1-10]

 

\" الشمس والقمر بحسبان \" توازن محسوب وتقدير معلوم. إنه تقدير رباني ونقله واسعـة \": والسماء رفعها \". ولكنه رفـع على تقديـر وحساب: \" ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان.. \". هذا التوازن الذي جعله الله من سننه ومشيئته في الكون كله، كيف يخرج عنه الإنسان بسلوكه وعمله... ؟ فكان أمر الله إليه: \" ألا تطغوا في الميزان... \" وسنعود لهذه الآيات الكريمة مرة أخرى.

وإِنا لَنَرى التوازن والحكمة البالغة في سنن الله الثابتة في الكون والحياة:

لقد قدّر الله سنناً ماضية في الكون والحياة، جعلها الله ثابتة رحمة منه بعباده، حتى يتعرَّفوا عليها حيناً بعد حين، فيروا التوازن والحكمة البالغة فيها:

(سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) [الأحزاب: 62]

 

(هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجلٌ مسمى عنده ثم أنتم تمترون) [الأنعام: 2]

 

وأيضاً: (كلٌّ نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة وإلينا ترجعون) [الأنبياء: 35]

 

(وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) [الأنعام: 129]

 

(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) [الأنعام: 131]

 

وآيات بيّنات كثيرة تكشف لنا دقّة السنن الربانيّة وثباتها وعدالتها وموازنتها على حكمة ربانية بالغة. ولولا ثباتها لما عرفها الإنسان، ولا استقامت له حياة. ولا يستطع الإنسـان أن يقيـم موازنة له في حياته إلا إذا عرف السنن الربانيّة واستجاب لها دون أن يُصادمَها.

1ـ التوازن في سنّة الله في الحياة والموت:

 لقد كان من أهـم مظاهر التوازن في هذا الكون، سنّة الله في الحياة والموت، وبين الحياة الدنيا والآخرة، على حكمة ربّانية بالغة:

(تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور. ) [تبارك: 1، 2]

 

 فالحياة الدنيا دار ابتلاء وتمحيص، حتى تقوم الحجّة يوم القيامة على كل إنسان أو تقوم له. وعلى أساس ذلك يمضي الإنسان في حياته فإما إلى جنّةٍ, وإما إلى نار.

(كلٌّ نفس ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. ) [آل عمران: 185]

 

 هذه هي الدنيا، دار ابتلاء، ومتاع الغرور، ولعب ولهو، وزينة وتفاخر لا بقاء له. والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كثيرة تلحٌّ بهذه القضية كأساس للتصوّر الإيماني:

(وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) [الأنعام: 32]

 

 وهكذا قدّر الله الحياة الدنيا والآخرة على أعظم تقدير وأحكمه وأعدله فجعل الحياة الدنيا مرحلة انتقال أو مرور إلى دار الخلود. وجعل في الحياة الدنيا مهمة على الإنسان أن يوفي بها. وأمانة عليه أن يؤديها، وعبادة عليه أن يقوم بها، وخلافة عليه أن ينهض لها لعمارة الأرض بحضارة الإيمان وبشرع الله ودينه. فما يصيب الإنسان من بلاء فإنه بما كسبت يداه لا يظلمه الله أبداً:

(إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) [يونس: 44]

 

(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [الشورى: 30]

 

وتتوالى الآيات لتفصّل في هذه القضية أوسع تفصل ولتلحَّ بها كلَّ الإلحاح. وإذا كانت سنن الحيـاة الدنيا تمضي بقدر من الله على أدقّ موازنة وأعدلها، فإنَّ الدار الآخرة كذلك يمضي بها قدر الله على أدق موازنة وأعدل تقدير، حيث توضع الموازين القسط ولا تظلم نفسٌ شيئاً:

(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبَّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [الأنبياء: 47]

 

وكذلك: (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خَفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) [الأعراف: 9، 8]

 

 يحاسَب الإنسان يوم القيامة على ما عمل في الحياة الدنيا، وعلى مدى وفائه بالعهد الذي أخذه الله منه في عالم الغيب، وعلى مدى وفائه بالعبادة والأمانة والخلافة والعمارة! ولا يمكن للإنسان أن يقيم موازنة أمينة عادلة في حياته إذا كان لا يعرف مهمته في الحياة الدنيا، ولا يعرف كيف يكون مصيره في الآخرة.

2ـ الموازنة أساس الوفاء بالأمانة والعهد:

 إن الله - سبحانه وتعالى- جعل للإنسـان مهمّة يؤديها ويوفي بها في الحياة الدنيا، وسيحاسَب على أدائها ومدى الوفاء بها يوم القيامة، كما ذكرنا قبل قليل. فالقضية الأساسية هي الوفاء بالعهد مع الله والأمانة التي حملها الإنسان والمهمّة التي خُلق الإنسان للوفاء بها في الحياة الدنيا.

 إن هذه المهمّة هي تكاليف ربّانيّة تمثل أساس العهد والأمانة والعبادة. تكاليف يجب على الإنسان أن يقوم بها ويؤديها ويوفي بها.

 والله هو الذي قدَّر التكاليف وفرضها على عباده، وهو الذي قدَّر الليل والنهار والوقت كله، وهو الذي قدّر وُسعَ الإِنسان بعامَّة، ووُسع كلِّ إنسان، وهو الذي قدّر أحداث الحياة وسنن الابتلاء في الواقع، قدّر ذلك كله أدقَّ تقدير وأعدله. وبالإضافـة إِلى ذلك، فإن الله - سبحانه وتعالى- وفَّر برحمته لعباده كلّ العوامل التي تُعينهم على الوفاء حتى لا يبقى لأحد عذر في نقض عهد أو نكوص عن الوفاء أو كفر وضلال، وفتنة وفساد، أو الإدبار عن المهمة التي خُلِق للوفاء بها، أو عدم إقامة الموازنة في حياته.

 وجاءت سنن الله في هذه الحياة الدنيا تبتلي الإنسان وتمحّصه حتى يُجلى أمره وتقوم الحجة له أو عليه. ومن خلال هذا الابتلاء من الله يُخيّل لبعض الناس أن هناك عقبات تصدٌّهم عن الوفاء بالعهد والأمانة، والعبادة والخلافة، وعمارة الأرض بحضارة الإيمان، أو الموازنة في أمور حياتهم. كلاّ! إِنها ليست عقبات تصدٌّ عن الوفاء بالعهد ولكنها ابتلاء وتمحيص ليرى الله من يعدل بالموازنة.

 من أجـل ذلك تصبح مسؤولية الإنسان بعامّـة والمؤمن بخاصة أن يقيـم \" الموازنة الأمينة \" في حياته بين مختلف التكاليف الربانيّة التي تمثل حقيقة العهد مع الله، وحقيقة العبادة والأمانة، والخلافة والعمارة، من خلال سنّة الابتلاء.

 فتصبح \" الموازنـة الأمينة \" أساساً في حياة المؤمن وفي ممارسته الإِيمانيّة، وفي ممارسة منهاج الله في الواقع البشري، عن إيمان صادق وتوحيد صاف وعلم صادق بمنهاج الله يَرُدّ إليه الواقع لِيُفهمَ من خلاله.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply