كيف نفهم عقيدة السلف ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.: في العدد الماضي تحدثنا عن القاعدة الأولى التي نفهم من خلالها عقيدة أهل السنة والجماعة:

القاعدة الثانية: التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح، أن جملة الرسالة التي نزلت من الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - تمثلت في القرآن وما ثبت في السنة المطهرة، وقد تلقاها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي وعلى أشكاله المختلفة كما قال - سبحانه -: \" والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى {النجم: 1- 5}، وقال - تعالى -: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم \"{الشورى: 51}، فتحددت بالآية وسائل خطاب الرسل مع ربهم.

 

1- الوسيلة الأولى: الوحي من خلال الرؤيا في المنام، كما أوحى الله لإبراهيم بذبح ولده إسماعيل - عليهما السلام -: \" فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين \" {الصافات: 102}، وهذه الرؤيا للأنبياء وحي، ولغيرهم مبشرات، لكن لا قيمة لها في إثبات الأحكام أو إلزام النفس أو إلزام الغير بمقتضاها، لما روي عند البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"لم يبق من النبوة إلا المبشرات\"، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة، وعند الترمذي، وقال: حسن صحيح من حديث أنس بن مالك أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي، ولا نبي، قال: فشق ذلك على الناس، فقال: لكن المبشرات، قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟ قال: رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة\"، فمن وسائل خطاب الرسل من ربهم الوحي من خلال الرؤيا في المنام.

2- الوسيلة الثانية: من وسائل خطاب الرسل من ربهم الوحي عن طريق الكلام الإلهي المباشر من وراء حجاب بدون واسطة يقظة، كما كلم الله موسى - عليه السلام - فقال:\" ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما \" {النساء: 164}، وقال أيضًا: \" ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين \" {الأعراف: 143}.

3- الوسيلة الثالثة: من وسائل خطاب الرسل من ربهم الوحي عن طريق الكلام الإلهي غير المباشر بواسطة إرسال أمين الوحي جبريل، وله في كيفية التبليغ إحدى حالتين، وردتا عند الإمام البخاري من حديث الحارث بن هشام - رضي الله عنه - لما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليَّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ولقد رأيتهُ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا\".

ثم انقطع الوحي بعد ذلك، فلا ينزل على أحد من البشر إلى يوم القيامة كما قال - تعالى -: \" ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما \"{الأحزاب: 40}، فمن ادعى الاتصال المباشر في الخطاب من الله تحت أي تأويل أو مسمى ليجعل كلامه مقبولاً بين الناس، أو حاول أن يضفي القدسية على كلامه بادعائه أن ما يقوله أو ما يكتبه إنما تلقاه بطريق من طرق الوحي السابقة، فقد تجاوز أصول القرآن والسنة وسعى في هدمها، كقول القائل من الصوفية:

\"أخذتم علمكم من ميت عن ميت، وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت، يقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فلان وأين هو؟ قالوا: مات، عن فلان، وأين هو؟ قالوا: مات\". أو كادعاء ابن عربي أن كتاب الفصوص أخذه من يد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مكتوبًا من اللوح المحفوظ، وهو مجرد ناقل أمين بلا زيادة أو نقصان، كما قال: \"فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجودت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب، كما حده لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقصان\".

وقوله أيضًا: \"فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب، فامتثلت ما رسم لي ووقفت عندما حد لي ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك\".

لاحظ أن ابن عربي يشبه نفسه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في دقة البلاغ عن الله وخوفه من الوعيد الذي ورد في قوله - تعالى - عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: \" تنزيل من رب العالمين (43) ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين \" {الحاقة: 43- 47}.

أو كما قال عبد الكريم الجيلي يحاكي طريقة الوحي في التجلي الصوفي: \"يتجلى الحق - سبحانه وتعالى- على العبد، بتجلٍ, يسمع فيه صلصلة الجرس، ويسمع تصادم الحقائق بعضها مع بعض، فيجد لها أطيطًا يملأ ما بين السماء والأرض، ثم إذا تقوى وثبت لسماع ذلك، يترقى ويسمع صلصلة الجرس عند رفع الستر\".

كل ذلك وأمثاله تهوين لحرمة الدين، وانتهاك مقبوح مشين، انتهاك للثوابت المستقرة في اعتقاد المسلمين، ويمكن أن يجوزه بعض المدافعين عن الصوفية من باب المخاطبات الروحانية والمحادثات الإيمانية، عند المكاشفات والتجليات التي تحدث لبعض الصوفية في شطحاتهم، فنقول له: هذا باب مفتوح على مصراعيه للمغرضين والحاقدين، ويكفي العاقل أن يقف على نظرة المستشرقين للوحي عند المسلمين، وكيف وجدوا في مثل ذلك سبييل الخلط بين الوحي وترهات الصوفية. والله أعلم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply