المصالح تلاقت في عدم استقرارها لنهب ثرواتها الطبيعية السلام في تشاد مرهون بيد الأجنبي!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

يعيش التشاديون عدم استقرار منذ ما يقرب من أربعين عاماً لم يذوقوا خلالها الطمأنينة والسلام في بلدهم، كغيرهم من الشعوب الواقعة في القارة الإفريقية سواء أكان ذلك بعوامل داخلية أم بعوامل خارجية.

فكلما جاءت حكومة اتخذت رداء القبلية لتنفيذ سياساتها في الهيمنة على مقدرات البلاد في بادئ الأمر، وتتلقى القبائل الأخرى تلك السياسة بالرفض والعداء، ويتحول العداء تدريجياً إلى عمل عسكري أو قد يتحول العداء مع الامتيازات التي ستمنح لهذه المجموعة أو تلك إلى جو من الاستقرار مبني على المصالح، قابل للانفجار في أيّة لحظة.

منذ بدايات الانتفاضة الأولى ضد الحكومة المعيّنة من قبل فرنسا في عام 1958م إلى اندلاع أول ثورة في تشاد عام 1962م ضد أول رئيس لتشاد وأحد عملاء فرنسا "فرانسوا تمبلباي". منذ هذا التاريخ بدأت سلسلة الحروب المتواصلة، ولعل أشرسها حرب التسعة أشهر بين الرئيسين السابقين (قوكوني عويدي وحسين هبري) التي راح ضحيّتها أكثر من عشرة آلاف شخص ما بين عسكري ومدني، في الفترة ما بين مارس إلى ديسمبر عام 1980م.

وما زالت وتيرة الحرب وملامحها تظهر بين الفينة والأخرى سواء في الشمال أو الغرب أو الشرق، وهي الجبهات الرئيسة التي يتمركز فيها بعض الثوار المناوئين للحكومة الحالية، ولكن الجبهة الغربية وبعد عدد من الاتفاقات الفردية مع عدد من قادتها أضحت خارج الدائرة، بينما يستمر أوار الحرب مشتعلاً في الجبهتين الشمالية والشرقية. الجبهة الشمالية تعتبر هي الأقوى في فترة زعيمها الراحل "يوسف تقويمي" الذي تمت تصفيته كما يتردد على ألسنة بعض أتباعه من قبل دوائر المخابرات الليبية، ومنذ وفاته بدأ التراجع عن بعض المبادئ التي كان ينادي بها الزعيم الراحل، كما أن الجو العام في القارة أصبح لا يشجع كثيراً الحركات الثوريةº وخاصة بعد أن سنّ حكَّام القارة في اجتماعات الاتحاد الإفريقي سنَّة جديدة للحفاظ على كراسيهم بعدم الاعتراف بأية حكومة تأتي عن طريق الثورة أو الانقلاب ولو كانت مطالبها عادلة أو أن الشعب يقف معها! إلا أن لهذه القاعدة استثناءاتها وذلك إذا اعترفت أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا بها، فإن الاتحاد سيتنازل عن تلك القاعدة أو القرار، كما هو واضح في الأزمة الموريتانية الأخيرة.

هذه التحديات الخارجية لهذه الحركة بالإضافة إلى التحديات الداخلية ومن أهمها المحاولات العديدة لشق الصف الداخلي للحركة بزرع عناصر عميلة للحكومة المركزية وبث الفرقة بينهم جعلت الحركة تبحث عن طريق لتسوية النزاع دون إراقة دماء كثيرة وأوقفت عملياتها منذ فترة طويلة.

مساعي السلام

بذلت حركة "العدالة والديمقراطية" قبل مقتل زعيمها "يوسف تقويمي" محاولات جادة لإقرار السلام عن طريق التفاوض مع الحكومة، وانعقدت عدة لقاءات ابتداء من عام 2000 والتي مازالت مستمرة وآخر هذه اللقاءات الذي انعقد بوساطة ليبية.

وقد اتفق الطرفان على وقف الأعمال الحربية والحرب الدعائية ودمج المتمردين السابقين في الجيش خلال ثلاثة أشهر وضم بعض أعضاء الحركة في الحكومة وفي المناصب العليا في الدولة وجعل الاتفاق مفتوحاً لفترة ثلاثة أشهر لأي حركة سياسية عسكرية متحالفة مع الحركة بالانضمام إلى الاتفاق.

وهذه البنود هي نفسها التي تتكرر في معظم الاتفاقات السابقة إلا أنها كلها تؤول إلى الفشل لعدد من العوامل أهمها: أنَّ الوصاية الخارجية تلعب دوراً في تغيير موازين القوى، مما يجعل أحد الطرفين يتراجع عما تم الاتفاق عليه، ولذا فإن المنضمين إلى التحالف المعارض (تجمع الحركات المسلحة والأحزاب السياسية) الذي تأسس عام 1999م لم يكونوا طرفاً في هذا الاتفاق، وهذا ما يجعل هذا الاتفاق هشاً كغيره من الاتفاقات السابقة.

يأتي هذا الاتفاق بعد عدة إخفاقات سابقة للطرفين سواء من الناحية العسكرية أو السياسية، فالحكومة ومن خلال الاتفاقات التي عقدتها مع عدد من قادة الفصائل لم تحل الإشكالات القائمة، وخاصة أنها درجت على اتباع سياسة موحدة ضد معارضيهاº بحيث إن المعارض وبعد الاتفاق مباشرة يتم تسليمه منصباً في الحكومة، وبعد تقلده المنصب وفي مدة وجيزة تحل الحكومة ويجد هذا المعارض نفسه خارج العملية السياسية. ليس هذا فحسب بل وفقده لمكانته السابقة كمعارض له شعبية سواء في الداخل أو في الخارج. وهذه السياسة اتٌّبعت مع عدد من المعارضين هذا غير سياسة الاغتيالات التي لا يلجأ إليها إلا عندما تكون الطريقة الأفضل والأنسب للتخلص من هذا المعارض.

وهذه السياسة هي التي كان يرفضها الزعيم الراحل لحركة العدالة " يوسف تقويمي" بدعوته إلى استقالة الرئيس الحالي من منصبه قبل البدء في أيّة مفاوضات كشرط مبدئي، إلا أن هذا الشرط تخلت عنه الحركة لاحقاً، وبدأت سلسلة المفاوضات التي تنتهي غالبها بسلسلة من الاتهامات المتبادلة بعدم الوفاء بالالتزامات الواردة في الاتفاقات المبرمة بين الجانبين.

 

فرنسا..وأمريكا

عندما نتحدث عن طرف خارجي له تأثير في الأزمات التي تعانيها دولة تشاد ومنذ عقود عدة، فإن فرنسا تكون على رأس القائمة، لأنها هي الدولة التي ترى في عدم استقرار تشاد مصلحتها من حيث استنزاف الثروات التشادية ومنها القطن التشادي وبعض المعادن، وتحلق طائراتها العمودية يومياً في كافة أرجاء تشاد طولاً وعرضاً والقيام بمسح ميداني عن الأماكن التي يمكن استغلال مواردها حتى تتحرك قواتها المرابطة في تشاد (1500) جندي لاستغلال تلك الثروات وتصديرها وهي خام إلى باريس! وتحت ذريعة إجراء تدريبات روتينية.

وقد جاء على لسان أحد الموظفين الفرنسيين السابقين في تشاد وعلى صفحات صحيفة "لوموند دبلوماتيك": "الانحياز إلى القبيلة المنتصرة، منطق القوة... ". إن هذه القاعدة هي التي تعتمدها فرنسا منذ بداية الحروب الأهلية في تشاد لأنها الضمانة الوحيدة للحفاظ على مصالحها، ومع أن الدولة في الآونة الأخيرة ومنذ فترة حكم الرئيس السابق (حسين هبري) تتجه نحو البيت الأبيض وهذه هي السياسة التي يتبعها خلفه وتلميذه " إدريس ديبي" حالياً، إلا أنَّ لفرنسا بعض العملاء، تستطيع باريس عبرهم أن تغير الحكومة المغضوب عليها ولو بخلق نزاعات إثنينة بين القبيلة الواحدة أو بين القبائل المتعددة، خاصة أنها في الآونة الأخيرة تحملت الكثير من المتاعب من قبل الحكومة التشادية بطرد سفيرها وطرد الملحق العسكري وبعض رجال استخباراتها، ولكنها تحملت كل ذلك لشيء أكبر وهو أن مصالحها مازالت تحت يدها، وباستطاعتها فعل الكثير بقليل من الصبر على هذه التصرفات من قبل الحكومة التشادية، فضمت إليها المعارضة الشمالية والجنوبية معاً، وفي نفس الوقت جعلت "شعرة معاوية" ممتدة بينها وبين الحكومة التشادية!

أما الطرف الخارجي الثاني فهو الولايات المتحدة وقد دخلت الساحة منذ أواخر الثمانينيات وبقوة، وهي التي تستحوذ الآن على معظم مقدرات البلد سواء المستخرجة منها كالبترول أو التي ما زالت في طور الاستخراج، ولذا فإنها مع الطرف الأقوى في تشاد سواء الحكومة الحالية أو المعارضة، طالما أن أي طرف منهما يستطيع أن يوفر لها الضمانة الحقيقية بتدفق النفط بشكل انسيابي ووفقاً لما تحتاجه.

 

الشمال والشرق

أما الأطراف الأخرى فهي الدول المجاورة لتشاد "ليبيا، الكاميرون، نيجيريا، السودان"، فلكل دولة من هذه الدول مصالح استراتيجية في تشاد، بل إن بعضاً منها يرى في عدم استقرار تشاد تعزيزاً لاقتصادها الوطني وحفاظاً على بعض المكتسبات التي قد تفقدها بوجود حكومة مستقرة في "إنجمينا"، وهذا ما جعل كل طرف منها يؤوي جزءاً من المعارضة ويحركها أيضاً على ضوء مصالحه.

ويعتبر دور الجارة الشمالية "ليبيا" والشرقية "السودان" أكبر من غيرهما، إلا أن انشغال الأخيرة بدارفور جعلها تتقارب مع الحكومة أكثر من تقاربها مع المعارضة التي تقيم في أراضيها.

أما الجارة الشمالية وصاحبة المواقف المتضاربة فهي بعد أن سلمت أمرها لأمريكا أصبحت تتحرك وفقاً للإملاءات الخارجية أكثر مما تملي عليها مصالحها، كما كانت في السابق، ومع ذلك تبقى سياستها المتناقضة هي الأبرز في دعمها سواء للحكومة أو المعارضة، بالإضافة لوجود بعض العوامل التي قد تفرض عليها توجهاً معيناً من الداخل، فإنها في الآونة الأخيرة تسعى لتكون طرفاً محايداً في النزاعات الداخلية بقدر ما يحفظ لها ماء الوجه! ولذا لم يكن مستغرباً مثل هذا التصريح الصادر من وزير خارجيتها عبد السلام التريكي، بعد الجولة الأولى من المفاوضات بين حركة العدالة والحكومة التشادية في عام 2000م والتي تم الاتفاق على نفس النقاط الواردة في الاتفاق الأخير: "الاتفاق خطوة مهمة على الطريق إلى الاستقرار في تشاد الذي تربطه بليبيا روابط التاريخ والدم والجغرافيا".

 

الغرب والجنوب

أما الأطراف الأخرى وخاصة الكاميرون ونيجيريا، فإن الأولى ترى أن استقرار تشاد في الوقت الراهن في مصلحتها لمرور خطوط الأنابيب عبرها والاحتفاظ بنسبتها في البترول التشادي، مما تخشى فقدانه من حكومة أخرى، قد تتسبب في إيقاف ضخ النفط عبر مينائها، لذا فإنها لن تنحاز مع طرف ضد الآخر.

أما نيجيريا فإنها ستظل قريبة إلى المعارضة أكثر من قربها إلى حكومة مركزية مستقرة، لأن الاستقرار لا يصب في صالحها، لذا فإنها تؤوي كثيراً من المعارضين وكلما انضمّ معارض إلى الحكومة فإنها تستقبل معارضاً آخر، لأن الاستقرار في تشاد يعني الكثير لها فلا تزال هناك ملفات عالقة بين البلدين منها اتفاقيات مياه بحيرة "تشاد" بالإضافة إلى العوامل التجارية.

 

الطرف الخفي

أما الطرف الأخير والخفي فهو المنظمات التنصيرية التي تدير كثيراً من الأمور في عدد من الدول الإفريقية، بما لديها من إمكانات تفوق أحياناً إمكانات بعض الدول الإفريقية! بل إنها تشكل في كثير من الدول دولاً في داخل الدولة، وتملك المنظمات الكنسية التنصيرية في تشاد عدداً من المستشارين والمسئولين في عدد من الوزارات السيادية أو التي لها تأثير مباشر على المواطن، لذا فإنها كانت أيضاً تساهم قدر استطاعتها بدعم نصارى الجنوب وخاصة المعارضين منهم، بالإضافة إلى مساعدات بسيطة إلى المعارضة الشمالية. وعدم استقرار تشاد يعني لها الكثير وتجد الحرية الكافية في التحرك كيف وأنَّى شاءت دون رقيب أو حسيب.

كما ذكر ذلك القس "الأب أشو جيري" وزير خارجية الفاتيكان في حديثه عن البترول التشادي واستخراجه في الوقت الراهن هل يصب في مصلحتهم أم لا؟!

"إنّ ما ننفقه في تشاد الآن لكونها من أفقر دول العالم، نستردّه بكلّ يسر خلال السنوات الأربع القادمة، لأنَّ أراضي تشاد من أغنى الأراضي في إفريقيا والموظفين التشاديين كلّهم أو 90% منهم من مدارسنا". فعليه أيها الآباء أمامكم مهمّة صعبة، خصوصاً عندما تصلون إلى المناطق المسلمة، وغالبية سكان هذه المناطق من أصول بدوية، وفيهم الجفوة والغلظة، وهي قبائل مقاتلة شريرة متعطّشة للدماء، كما تعرفون مما سبق من المعارك التي دارت بينهم وبين القوات الفرنسية. ومنفذنا أو سبيلنا إلى هذه المناطق الفقر والحاجة والجهل والأمّية، والرسول بولس كان رسول الأمّيين ولكم فيه القدوة الحسنة. وأرجو من الحكومة الأمريكية ألا تستعجل في استخراج البترول التشادي. وأمّا اليورانيوم فعندنا ضمانات كافية، ووسائلنا العمليّة معروفة لديكم، ولكن إذا استعجلت الحكومة الأمريكية في مشروعها ونجحت فيه فإننا نحصل على ما أنفقنا في المنطقة من عائدات البترول وأكثر، والبروتستانت متفاهمون معنا في هذا الصدد، وعندئذ تكون ثروة البلاد كلّها في خدمة ربّنا المسيح"(1).

وهكذا تتلاقى المصالح الغربية والإفريقية وبعض الأفراد في أنَّ عدم استقرار تشاد عامل مهم من عوامل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والسياسية!

فهل هذا الاتفاق الجديد الذي أبرم في الأيام الماضية بين الحكومة وحركة العدالة والديمقراطية، يعتبر خطوة جديدة في سبيل إرساء قواعد للسلم والأمن في كافة ربوع تشاد، وإيقافاً لتلك الدماء التي أريقت من أجل مصالح الغير، وعاملاً من عوامل البناء، وتلاقي جميع أبناء تشاد في صف واحد لبناء دولتهم، أم أنه اتفاق مماثل لسابقيه ولا يساوي الحبر الذي كتب به؟! أم أن الوضع في تشاد سيكون عكس ذلك؟!

 

-------------------------------

الهامش

(1) plerins no.604 du 23-30 mars 1994.

 

* [email protected]

 

http://www.almujtamaa-mag.com           المصدر:

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply