مشكلة دار فور ... شرور النظام العالمي تتوغل شمالاً


  

بسم الله الرحمن الرحيم

منذ أن انهار ما كان يسمى بالإتحاد السوفيتي سابقاً في أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي، بدأ عصر الأمركة الجديد يعيد النظر في كثير من أحوال الأوضاع السابقة لهذا العصر، وفي مقدمة هذه المراجعات حظي العالم الإسلامي بالنصيب الأوفر من الإستهداف الأمريكي على كافة الأصعدة، ولما كان السودان يعاني من حرب طاحنة وطويلة في جنوبه، وتصطرع أحزابه على السلطة في الشمال، فقد مثَل نموذجاً تجرى عليه تجارب التدخل الأمريكي التي بدأت بمحاولات العزل والإسقاط للنظام الحاكم وانتهت إلى قناعات احتوائه وترويضه.

. والإشارة للدور الأمريكي لا تعني تجاهل الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية الأخرى الضالعة في ما يجري في السودان عامة وما يجري في دارفور هذه الأيام على وجه أخص .

 

دارفور... الجغرافيا والسكان:

دارفور الكبرى تقع في أقصى غرب السودان وتضم حالياً ثلاث ولايات هي: شمال دارفور وعاصمتها مدينة الفاشر، وجنوب دارفور وعاصمتها مدينة نيالا، وغرب دارفور وعاصمتها مدينة الجنينة، وتجاورها ليبيا في الشمال الغربي، وتشاد وأفريقيا الوسطى من جهة الغرب، كما تحدها الولاية الشمالية في الجزء الشمالي الشرقي، وولايات كردفان الكبرى من ناحية الشرق، وولايات بحر الغزال الكبرى من ناحية الجنوب. وأقليم دارفور في معظمه صحراوي خاصة في شماله، ويسكنه مزيج من القبائل ذات الأصول العربية والزنجية التي تحترف الزراعة والرعي. والإقليم من أقاليم السودان الأقل نمواً، فبالإضافة إلى وعورة طبيعته وجفاف بيئته تنعدم فيه مشاريع التنمية ويفتقر إلى أبسط مقومات البنية الأساسية.

 

ميراث الحروب:

الدول التي تحيط بالإقليم من الناحية الغربية ـ تشاد وأفريقيا الوسطى ـ تعرضت لموجات من الاضطراب وعدم الاستقرار الأمني لفترات طويلة أواخر القرن الماضي، حيث دارت هناك حروب وسقطت أنظمة واصطرعت قوى إقليمية وعالمية في المنطقة مما أثر على إستقرار الإقليم الذي أصبح مسرحاً يعكس ما يدور حوله من قلاقل، بالإضافة إلى أن حدود الإقليم الجنوبية نفسها كانت ميداناً لحربٍ, إستمرت لأكثر من عشرين عاماً في جولتها الأخيرة. هذه العوامل ساهمت في نشوء ظاهرة النهب المسلح الذي تضرر منه المواطنون أكثر من الدولة ولم ينل منها إلا بمقدار عجزها عن حفظ الأمن . لكن هذه الظاهرة لم تكن لها أهداف سياسية أو أبعاد فكرية أو حتى قضايا مطلبية، وظلت محصورة في مجموعة من قطاع الطرق غايتهم فقط الاستيلاء على ما تقع عليه أيديهم من ممتلكات مرتادي الطرق البرية في الإقليم.

 

أحلام المتمرد قرنق:

حاول المتمرد قرنق أن يمد نطاق الحرب إلى مناطق شمال السودان منذ زمن بعيد، لكنه لم يستطع إلا بمعاونة النظامين الإثيوبي والإرتري وبغطاء سياسي من التجمع الوطني المعارض، حيث تسلل إلى مناطق الكرمك وقرورة وهمشكوريب وهي مناطق حدودية تقع في أقصى غرب السودان، لكن غرب السودان ظل في مأمن من انتشار نطاق التمرد عدا جبال النوبة التي تشابه في وعورتها جنوب السودان من حيث ملاءمتها لخوض حرب العصابات، إلى أن فوجئ الناس بالمهندس يحيى بولاد ـ وهو من كوادر الحركة الإسلامية ـ يعلن التمرد ضد الدولة والانضمام لحركة قرنق ويتحصن بجبل مرة في إقليم دارفور، إلا أن هذه الحركة حوصرت بسرعة وانتهت بإعدام قائدها في العام 1992م.

 

السياسيون أفسدوا القضية:

إن انفجار الأحداث في دارفور العام الماضي بدأ نتيجة لتفاعل عوامل محلية بحتة تتمثل في انتشار ظاهرة النهب المسلح ومحاولة الدولة القضاء عليها بالاستعانة بالجهد الشعبي، وهذا ما دفع بالعامل القبلي في أتون الصراع، إذ أن معظم من استجاب لنداء الحكومة لمحاربة النهب المسلح كانوا من القبائل العربية في الإقليم، فاعتقدت القبائل الأخرى أنها مستهدفة لأن معظم عمليات المطاردة والملاحقة كان مسرحها مناطق القبائل غير العربية. ولأن الإقليم يعاني أصلاً من ضعف الخدمات ويغالب شظف العيش ـ كما أسلفنا ـ فقد ازدادت الأوضاع سوءاً واستمرت المواجهات الدامية.

 

العامل المحلي الذي ساهم بقوة في تأجيج نيران الفتنة هو استغلال مجموعة من السياسيين للظروف التي أوجدها الصراع المسلح، فحاولوا أن يديروا صراعهم مع الحكومة بدماء الأبرياء والمخدوعين في دارفور، فأضفوا على المشكلة مسحة سياسية مطلبية وظلوا يطوفون بعواصم الغرب ـ خاصة لندن ـ ويعقدون المؤتمرات الصحفية ويصرحون لأجهزة الإعلام باعتبارهم ممثلين لأهل دارفور، بينما هدفهم الأول هو السماح لهم بنصيب في كعكة السلطة واقتطاع جزء لهم من موارد الثروة، وفي سبيل تحقيق هذه الغايات أطلقوا شرور العنصرية والجهوية من عقالها فأفسدوا لوحة التعايش السلمي بين القبائل في الإقليم. أمريكا على الخط:

الولايات المتحدة التي ورثت بريطانيا في المنطقة، تستخدم المبدأ الإستعماري نفسه: (فرق تسد) ولكن بأساليب جديدة وأدوات مستحدثة. وهي اللاعب الرئيس في الساحة السودانية الآن ساعدها في ذلك ضعف وهشاشة القوى السياسية السودانية، وتبعية المتمرد قرنقº وامتلاك الكثير من مقاليد الأمور في دول الجوار السوداني. وهي تعمل بحماس شديد هذه الأيام لتسوية مشكلة جنوب السودان بما يضمن لها أكبر قدر من النفوذ والمصالح في السودان، وقبل عامين رتبت لوقف إطلاق النار في جبال النوبة وتواجدت عسكرياً في تلك البقعة لتنطلق منها إلى شمال السودان بعد أن ضمنت جنوبه، وفي هذا السياق ليس مستغرباً أن يلمِح مسئول بوزارة الخارجية الأمريكية إلى إمكانية حل مشاكل دارفور بنفس الطريقة التي عولجت بها مشكلة الجنوب في إشارة إلى مبدأ تقرير المصير وهو ما بدأ يردده متمردو دارفور هذه الأيام مع مطالب تقسيم الثروة والسلطة. ومن هنا ندرك أن السكين الأمريكي لن يتوقف عند حد انفصال الجنوب ـ الذي بدت ملامحه واضحة الآن ـ وإنما سيتطاول لتقطيع أجزاء السودان الباقية. فقضايا دارفور وجبال النوبة والإنقسنا والبجا وغيرها مما اصطلحوا على تسميتها بالمناطق المهمشة تظل روافد تغذي الرغبة الأمريكية لتقسيم السودان وتطويعه.

 

حتى لا تكون فتنة:

إن الخيار العسكري خيار فاشل بالنسبة لمتمردي دارفور، لأن طبيعة الإقليم تختلف عن الجنوب مما يضعف أسلوب حرب العصابات ويجعل السيطرة العسكرية للجيش السوداني ميسورة وراجحة. ويظل الحل السياسي هو الأنسب والأجدى لهذه القضية إذا توافرت عوامل نجاحه وعلى رأسها إستبعاد التدخل الأجنبي والتدويل، وحل قضايا الإقليم حلاً يراعي العدالة ويوفِر التنمية، والكف عن فتنة تقرير المصير، وفوق كل ذلك عدم المساومة أو المتاجرة بالشريعة الإسلامية، حتى تكون سياجاً يصون وحدة البلاد ومرجعاً يحسم الخلافات.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply