رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

عندما يحضر الأولاد من المدرسة ينحنون نحو اليسار إلى المطبخ بحثًا عن أمهم، ولا ينحنون إلى اليمين حيث مكتبي بحثًا عنّي، رغم أن مكتبي مقابل للمطبخ تمامًا، لا أتوقّف كثيرًا حول هذا «التطنيش»، أحيانًا أسمع أمهم تقول لهم:

(سلمتوا على أبوكم؟.. روحوا سلموا).. بين هذا الطلب وتنفيذه يستغرق الأمر من ربع إلى نصف ساعة، ولا أتوقف كثيرًا حول هذا «التطنيش» أيضًا ..فالدنيا زحمة، والطرق المؤدية من المطبخ إلى غرفتي تشهد ازدحامًا مروريًا كبيرًا، وقد يستغرق منهم الوصول إليّ وقتًا أطول.. في نهاية المطاف يصلون نحوي فرادى و سلام وتحية باردة الأسبوع الماضي، وفور وصول أكبر الأبناء، خرجت بالصدفة من مكتبي فوجدته يقف في المطبخ يهمّ بمناولة «الست الوالدة» شيئًا ما، وعندما رآني تراجع وأخفاه خلف ظهره، فأكملت طريقي دون انتباه.. وعند العودة ضبطته وهو يضع بفمها «إصبع شوكولاتة» فاخرًا قد اشتراه لها من مصروفه، وعندما رآني خجل مني ولم يعرف كيف يتدارك الموقف، ثم بعد ثوانٍ حاول أن يخرج من جيب بنطاله «الجينز» حلوة «كرملة» كانت ملتصقة في قعر الجيب بالكاد أخرجها، وعليها بعض قطع مناديل الورق محاولًا إهدائي إياها فشكرته.

أنا لا أتوقف كثيرًا حول هذا «التمييز العنصري»، صحيح أن الشوكولاتة التي اشتراها لأمه لذيذة جدًا، ونفسي فيها إلى هذه اللحظة، لكنني لا أنزعج من ميلهم كل الميل نحو أمهم، فقد كنا مثلهم وأكثر، رغم كدّ الأب وسفر الأب وتعب الأب وحنان الأب، إلا أن الجنوح يكون نحو الأم، وهذه طبيعة فطرية لا نتحكّم فيها!

الغريب أن الأولاد لا يكتشفون حبّهم الجارف لآبائهم إلا متأخرًا، إما بعد الرحيل، وإما بعد المرض وفقدان الشهية للحياة ..!وهذا حب متأخر كثيرًا حسب توقيت الأبوة.. الآن كلما تهت في قرار، أو ضاقت عليّ الحياة، أو ترددت في حسم مسألة ..تنهّدت وقلت: (أين أنت يا بابا..) لو أعرف أن العمر قصير إلى هذا الحد، لكنت أكثر قربًا من ابي.

نحن نعرف قيمة الملح عندما نفقده في الطعام، وقيمة الأب عندما يموت ويشغر مكان جلوسه في البيت. إذ عندما يموت يفتقد الأبناء وجود ذلك البطل في حياتهم الذي كان يقودهم بثبات إلى بر الأمان، فالأسرة كلها مع الأب في رحلة الحياة كراكبي قطار في سفر طويل، لا يعرفون قيمة قائد القطار إلا عندما يتعطل بهم، ويبدأ قائده في التفاني لإصلاحه وإعادة تشغيله رغم ضخامته.

الأب وحده هو الذي لا يحسد ابنه على موهبته وتفوقه، بل بتفوقه يتباهى ويفرح ويفاخر، والأب وحده هو الذي يخفي أخطاء إبنه، ويغفرها، وينساها، والأب وحده هو الذي يتمنى أن يكون أبنه أفضل منه في حياته،

تأنيب الأب لابنه مؤلم في حينه، لكنه دواء ناجع حلو المذاق بعد التعلم منه والتماثل للشفاء والاستقامة، تأنيب الأب يصدر من جوار قلبه لامن جدار قلبه، إذ يتألم وهو يؤنب ابنه، قلب الأب هبة الله الرائعة لأبنائه.

 

أخيرًا أقول:

الأم تحب من كل قلبها.. والأب يحب بكل قوته.

(رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

اللهم أصلحنا وأصلح لنا ذرياتنا ونياتنا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply