تحدث كثيرون عن الوحدة الموضوعية في سور القرآن الكريم بعامة، ونال سورة الكهف حظ وافر من الاهتمام فيما كتبه صاحب الظلال والندوي والدكتور مصطفى مسلم، وعبد الحميد طهماز، وربما غيرهم أيضاً، ويرى كاتب هذه السطور أن المساهمات السابقة، على ريادتها وقيمتها الكبيرة، فإنها قد تتبعت بعض المحاور البارزة في السورة ولم تتحدث عن المحور الرئيس الذي تتفرع منه سائر المحاور. إنه ولأجل التوصل إلى المحور الرئيس تحسن الإفادة من: 1) اسم السورة. 2) مطلع السورة وخاتمتها. 3) ما ورد في السنة بشأنها. 4) السورة السابقة والسورة اللاحقة لها.
أولاً: اسم السورة:
أخذت السورة اسمها من قصة الكهف، وهي تتحدث عن فتية من دعاة التوحيد يأمرهم الله - تعالى -أن يأووا إلى كهف، هرباً من قومهم الذين يحاربون التوحيد ولا يقبلون من الفتية إلا العودة في ملتهم أو يرجمونهم حتى الموت، ويضرب الله على آذانهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا، ثم يبعثهم ويُعثر عليهم، وتنتهي القصة بأن يقرر الذين غلبوا على أمرهم أن يتخذوا عليهم مسجدا. في بداية القصة موحدون مطاردون، وفي خلالها حفظ لهؤلاء وحماية من كل ما من شأنه أن يؤثر فيهمº من الإنس والسباع والحشرات، ومن عدم الأكل والشرب، ومن الشمس التي تزاور عنهم إذا طلعت وتقرضهم إذا غربت، ومن الأرض أن تأكل أجسادهم، فيقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال، وصورة كلبهم باسطاً ذراعيه بوصيد الكهف، تعزز إيحاءات وظلال الحراسة والحماية، ثم يكون انتصار الإيمان بالرغم من غياب الفتية المؤمنين بدليل بناء المسجد من قبل الفئة الغالبة. الكهف: كانت وظيفته حماية الفتية، وقد انتهت القصة فإذا الدين الذي كان مهدداً مطارداً قد عادت الغلبة لأهله الذين يقررون اتخاذ \"مسجد\" على الكهف وأصحابه، وبالتالي فقد أظهرت القصة حفظ المؤمنين وحفظ الدين، بالرغم من غياب المؤمنين.
ثانياً: المطلع والختام:
بدأت سورة الكهف بقوله - تعالى -: \"الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً \"
وختام السورة: \" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله أبداً، قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك به أحداً \".
في أول السورة أن الله - تعالى - لم يجعل لكتابه عوجا بل هو قيم، وربما وقع كثير من المفسرين في خطأ القول أن الآيتين تؤكدان أن الكتاب مستقيم غير أعوج، لكن النص الكريم لم يقل: (ولم يجعل فيه عوجاً)، بل قال: \" ولم يجعل له عوجا \" أي ليس فيه قابلية للحرف والاعوجاج، كما ذكر في نظم الدرر، وهذا شبه قوله - تعالى -: \" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون\"، والتعبير ب: \" لم يجعل\" إشارة إلى أن الأصل في كلمات الله - تعالى -وكتبه أنها غير قابلة للاعوجاج والتحريف، لكنه - سبحانه -، لحكمة منه، أذن بأن تعبث أيدي البشر بالكتب السابقة التي استحفظها الربانيين والأحبار، فيما تعهد جل شأنه بحفظ القرآن، ومعنى أن الكتاب قيّم أي مهيمن على ما سواه كاشف تحريفها، ومؤيد لما بقي من الحق فيها. وفي آخر السورة تأكيد لما جاء في مطلعها: \"قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله أبداً\" ويشبهه ما جاء في الحديث القدسي: (وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء) ، وقوله - عليه السلام - في ختام الكلمات التي علّمها ابن عباس - رضي الله عنهما -: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) ، فضلاً عما تفيده الآية من لانهائية المعاني المستخرجة من كلمات الله - تعالى -على امتداد الزمان والمكان، ويتأكد معنى حفظ كلمات الله خلال السورة الكريمة في قوله - تعالى -: \"لا مبدل لكلماته\"[الكهف: 27]. وهنا يلاحظ أن مفهوم الحفظ الذي دلت عليه قصة الكهف، يؤكده مطلع السورة ومقطعها، فحفظ الكتاب هو حفظ الدين، بل وحفظ المؤمنين أيضاً، كما يستفاد من قوله - تعالى -: \"قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنهº فهذا الكتاب قيم ومهيمن غالب، وهو سائر بالمؤمنين إلى حيث يصبحون ذوي بأس شديد، ولن يبقوا على ضعفهم البادي وقت النزولº وقصة ذي القرنين في أواخر السورة مثال على ذلك.
ثالثاً: ما ورد في السنة الشريفة عن سورة الكهف: روى مسلم عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال، وفي رواية، من آخر سورة الكهف). وهنا فالحديث الشريف يؤكد معنى الحفظ مرة أخرى، فالعصمة من الدجال، تعني الحفظ في أظهر صوره، وهذا الحفظ ناتج من عدم انخداع المؤمنين بدجل الدجال وزيفه، لاهتدائهم بوحي الله - تعالى -، وتتجلى ميزة سورة الكهف لقارئها المؤمن بمضمونها في التفريق بين الذين يقعون في حبائل الدجال لتوقفهم عند ما تراه الحواس، وأولئك الذين اهتدوا بوحي الله فعصمهم ونجاهم. ولقد ابتدأت قصة الكهف بقوله - سبحانه - مخاطباً نبيه محمداً (أم حسبت) لأجل تصحيح ما قد يعلق بالحس والعقل من تصورات وأوهام ناتجة عن ثقلة الواقع المادي وما يظهر من قوة الباطل وضعف الحق وأهله، وهنا فالله - تعالى -يؤكد أنه الأعلم وما يقوله هو الحق وإن بدا للحس غيره، وقد ظهر بارزاً في قصة الخضر وموسى - عليهما السلام - كيف أن الحقيقة التي أعلمها الله - تعالى - للخضر كانت خلاف ما ظنه موسى - عليه السلام - من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، والزينة التي جعلها - سبحانه - للدنيا، لأجل أن يتميز من يصدقون وحي الله - تعالى -بأنها(دنيا)، ممن يتوهمون، لوجود الزينة، خلاف الحقيقة. إن حديث ابن عباس: كنت خلف النبي يوماً فقال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورفعت الصحف)، هذا الحديث في رأي الكاتب هو تلخيص أو اقتباس من المحور الرئيس لسورة الكهف. وأما الأحاديث التي تربط بين سورة الكهف ويوم الجمعة، فسيأتي الحديث عنها - بإذن الله - فيما بعد.
رابعاً: موقع سورة الكهف بين سورتي الإسراء ومريم: لقد ابتدأت السورة كما خُتمت بقضية حفظ كتاب الله - تعالى - وكلماته، وإذ أكد مطلع السورة حفظ القرآن الكريم، فقد ألمح إلى أن ما سبقه من كتب الله - تعالى -لم يشملها حفظ الله - سبحانه -، وفي ذلك، إشارة إلى أنها بهذه الصورة لا تعبر عن مراد الله ولا تستحق بالتالي أن تكون مرجعاً للمؤمنين خاصة وللناس على وجه العموم. وإذن فالمحور الأول الذي ينبثق من حفظ الكتاب هو مرجعيته وحده، وإلغاء المرجعيات السابقة بعدما حرفت الكتبº حيث إنه وحده كتاب الله - تعالى -، ولذلك جاء في السورة الكريمة: نحن نقص عليك نبأهم بالحق، ولا تستفت فيهم منهم أحداً، ومن هنا يتكرر في سورة الكهف: \"قل ربي أعلم بعدتهم\"، قل الله أعلم بما لبثوا، وينبثق عنه أيضاً انتقال الإمامة إلى محمد، الذي نزل عليه هذا الكتاب المحفوظ. وكانت سورة الإسراء قد أعلنت انتقال القيادة الدينية من بني إسرائيل إلى محمد وأمته، من خلال رحلته إلى بيت المقدس، التي كانت مركزاً لعدد من أنبياء بني إسرائيل، بسبب الفساد، بل الإفساد الكبير الذي انتهى إليه بنو إسرائيل فلم يعودوا يصلحون لحمل الرسالة والإمامة الدينية، ولذلك فقد كانت إمامة رسولنا بالأنبياء ليلة الإسراء رمزاً آخر على استلامه وأمته لأمانة الدين. وتؤكد سورة مريم المعنى ذاته بعد أن تستعرض عدداً من الأنبياء حيث تذكر أن الذين جاءوا من بعدهم ضيعوا الصلاة التي هي عمود الدين ولم يحافظوا على ميراث النبوة: \"أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ومن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً\"[مريم: 58- 59]، ما يعني أن الراية ستنتقل إلى غيرهم. وقد لفت بعض المفسرين إلى أن مغزى اتباع موسى للخضر كي يتعلم منه، هو أن يحذو قومه حذوه فيتبعوا محمداً . التوحيد وأبرز قضية في هذا الكتاب المحفوظ هي قضية التوحيد، ولذلك جاءت في مطلع السورة وختامها: ففي المطلع حمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب، وفي الختام تأكيد الكلام على لسان الرسول أنه بشر / عبد، وأنه يوحى إليه. في البداية أن الكتاب ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً، وفي الختام أن طريق النجاة هو بالعمل الصالح، وأن لا يشرك بعبادة ربه أحداً. وقد زلت أقدام الأمم السابقة بانحرافهم عن التوحيد، الذي أهم ما فيه الفصل الواضح بين مقام الألوهية ومقام العبودية، ولذلك يسترعي الانتباه اشتمال مطالع السور الثلاث: الإسراء والكهف ومريم، على ما يبدد الأوهام التي قد تنجم عن إكرام الله - تعالى -أحد عباده بالنبوة أو الإسراء أو الرحمة الخاصة، بتكرار لفظة: (عبده) في كل واحدة: \" سبحان الذي أسرى بعبده، الحمد لله الذي أنزل على عبده ، ذكر رحمة ربك عبده زكريا، ثم يكون أول كلام عيسى - عليه السلام - لقومه وهو في المهد: إني عبد الله[مريم]، حتى لا يتسرب الوهم بوجود خصائص إلهية لدى عيسى نتيجة معجزة الولادة والكلام في المهد وما سيتبعهما من إحياء الموتى وغيرها. والأمر ذاته يقال في وصف الله - تعالى -للخضر في قصته مع موسى - عليهما السلام -، (فوجدا عبداً من عبادنا)، إذ لم يكتف - سبحانه - بالقول إنه (عبد) وإنما أتبعها بالقول (من عبادنا)º ذلك أن ما أجراه - سبحانه - من الخوارق على يديه، وما أعلمه من الغيب الذي أخفاه حتى عن موسى حتى جعله يتتلمذ عليه، كل ذلك قد يوقع في النفوس الضعيفة والعقول الخفيفة أن للخضر - عليه السلام - ميزة على موسى، بل وأن له نسباً إلهياً، ومن هنا جاءت الآيات تبين أن الخضر مع كل ذلك لا يعدو كونه عبداً، وأن ما ذُكر بشأنه لا يعطيه ميزة على سائر عباد الله - تعالى -ولا يخرجه عن أن يكون واحداً من عدادهم، ولذلك جاء فيما روى البخاري من كلام الخضر لموسى - عليهما السلام -، أن عند كل واحد منهما علماً علّمه الله - تعالى - إياه مما لم يعلمه الآخر، وكأن في اختيار مجمع البحرين مكاناً لالتقاء الرجلين ما يشي بأن كلاً منهما بحر فيما علّمه الله، لا أن الخضر بحر وموسى نهر أو بحيرة. ولعل فيما جاء عن قرار الذين غلبوا على أمرهم أن يتخذوا مسجداً على أصحاب الكهف، ما يشير إلى بدايات الشرك عند الأقوام السابقة تحذيراً لأمة محمد ، من مثل صنيعهم. تصحيح الحسبان: يلفت النظر توجيه الخطاب في مطلع قصة الكهف إلى النبي، أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً، ما يعني أن القصة مسوقة في تصحيح حسبان قد يتسرب بأن الآية الربانية في حفظ الإيمان وأهله فريدة من نوعها ولا سبيل إلى تكرارها، والملاحظ أنه يتكرر في السورة الكريمة موضوع التصويب، وهو أمر طبيعي، وما دام هذا الكتاب كتاب الله - تعالى - فإنه المرجع، وما يخبر به هو الحق، وإن ظهر للناس غير ذلك، فإنه لا أعلم من الله - تعالى -، ولذلك فقد تحدث صاحب الظلال عن سورة الكهف ودورها في تصحيح الفكر والنظر والسلوك والموازين، فالسورة تؤكد أن الله - تعالى - جعل ما على الأرض زينة لها، ما يعني أن ما يظهر على السطح ليس بالضرورة هو الحقيقة، ثم يأتي التعقيب على قصة الكهف بأمر النبي ، واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً، إن المظهر الخارجي ربما يوهم بأن هؤلاء المؤمنين لا مستقبل لهم، وأن القوة والمستقبل مع الذين بيدهم زينة الحياة الدنيا، فتؤكد السورة أن أمر هؤلاء فرط غير متماسك وأن المستقبل الحقيقي في الدنيا والآخرة هو مع هؤلاء المستضعفين الذين قد لا يملأون العيون فعليه أن يصبر نفسه معهم، وألا تعدو عيناه عنهم باتجاه من أغفل الله قلبه واتبع هواه وكان أمره فرطا كمثل صاحب الجنتين، الذي حسب أنه خير عند الله لكونه أكثر من صاحبه مالاً وولداً، وأنه مفضل في الآخرة كمثل تفضيله في الدنيا، فجاء رد صاحبه المؤمن ثم الإحاطة بثمره ليصحح له سوء فهمه وليرسخ للمؤمنين ما يجيئهم من الوحي، ويستمر الجو - جو التصحيح - في قصة موسى مع الخضر بمشاهدها الثلاثة، وحتى في قصة ذي القرنين فإن القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً حسبوا ذا القرنين كغالب الملوك في الأرض فعرضوا عليه خرجا حتى يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً. التناسب بين قصص السورة وعوداً إلى محور الحفظ الذي أبرزته بداية السورة وخاتمتها والقصة التي بها سميت السورة، وحديث العصمة من الدجال، فالملاحظ أن هذا المعنى ينتظم أيضاً سائر قصص السورة الكريمة بدءاً من حفظ أصحاب الكهف، ثم حفظ الرجل المؤمن أن يفتن أمام صاحب الجنتين، ثم حفظ السفينة، فالوالدين المؤمنين، ثم كنز الغلامين اليتيمين، ثم حفظ القوم الذين كانوا لا يفقهون قولاً بإقامة الردم الذي يحميهم من عدوان يأجوج ومأجوج، وكذلك فالبقاء هو للصالحات، وهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا مبدل لكلمات الله من حيث اللفظ أو المعاني والسنن والقوانين. إن قصة الكهف، التي سميت بها السورة، كانت كفصل أول في رواية، وتبعتها القصص الأخرى فصولاً تالية، أو هي ملخص وتفصيله ما بعدهº فالسورة بدأت بما يشبه واقع المسلمين في مكة من المطاردة والاضطهاد، ثم أرادت تصبيرهم على ما هم فيه بطمأنتهم على أنفسهم وعلى دينهم، وبلفتهم إلى أن لله - تعالى -حكمة عظيمة في كل أمر، وأن الأمور ليست على ظاهرها دائما، والمطلوب تسليم الأمر لله - تعالى -، فإن الله - تعالى -سيرعاهم ويحفظهم حتى يتم نوره، ويصير حالهم إلى حال ذي القرنين فيفتحون المشارق والمغارب بالتوحيد، واسم ذي القرنين كما هو واضح، يوحي بمعاني القوة والغلبة، كأنها تؤكد لهم أنهم صائرون إلى مثل حال ذي القرنين، وهو ما أشار إليه أول السورة في قوله - تعالى -: \"الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه \"º فالله - تعالى -أنزل هذا الكتاب على عبده (لينذر بأساً شديداً من لدنه)، والبأس الشديد يأتي من قوم أولي بأس شديد، في إشارة واضحة إلى ما سيصير إليه حال المؤمنين إلى القوة بعد الضعف، وإلى الأمن بعد الخوف، وإلى التمكين بعد التخطف والمطاردة، ولعل مما يفيده التعبير ب(من لدنه) أن ليس في واقع المؤمنين وقت نزول الآيات، ما يدل على قرب امتلاكهم ذلك البأس، وبالتالي فهو بأس (لدنّي)، يوقن المؤمنون بالغيب أنه آت، ويستبعده الذين لا يؤمنون إلا بما تلامسه حواسهم. ولا يستبعد الكاتب أن الذين كانوا يسألون ويكررون السؤال عن ذي القرنين هم الصحابة الكرام في مكة، وسؤالهم هو سؤال المتعجل الذي يقول متى ينتهي اضطهادنا وننتصر بالدين كما حصل مع ذي القرنين؟ أو يريدون التسلي بأخبار العزة والنصر للتخفيف من الواقع الأليم، فجاءت السورة وقصصها بشكل عام تدعوهم إلى الصبر وعدم الاستعجال وتطمئنهم أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، كما تحقق الوعد لفتية الكهف، وفي التعقيب على قصة الكهف جاء الأمر للرسول الكريم: \"واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه\"، وفي قصة موسى والعبد الصالح يخاطب الخضر موسى إنك لن تستطيع معي صبراً، ويتكرر الصبر سبع مرات وبالذات في فواصل آيات القصة، والتي آخرها: ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً، ثم يأتي بعدها خبر ذي القرنين كأنما ليوحي بأن التمكين يجب أن يسبقه صبر كثير، وأن مآل الصبر مع المؤمنين هو التمكين، وأن أشد ساعات الليل حلكة هي التي تسبق طلوع الفجر. ثم جاءت قصة ذي القرنين \"ذكراً\"º سأتلو عليكم منه ذكرا، أي تذكيراً لهم بدورهم الرساليّ في نشر التوحيد وحماية الضعفاء، جهاداً في سبيل الله - تعالى -والمستضعفين، كيلا يكون كل همهم الخروج من الأزمة دون التفكير في المستقبل المطلوب، ومرة أخرى يأتي الحديث عن وعد الله، لكن على لسان ذي القرنين، مقترناً بالحديث عن الآخرة، فالمؤمن لا ينسى في كل أحواله أنه صائر إلى دار الجزاء، فيصبّره ذلك أيام الشدة، ويضبطه أيام العز والنصر فيمنع غروره وانحرافه، وقد قيل لبني إسرائيل من قبل: \" عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم من بعده فينظر كيف تعملون\". ومن التناسب بين قصص الكهف وقصص مريم تكرر الرحمة في قصص السورتين، لكن الملاحظ أن الرحمة في الكهف هي رحمة الحماية والمحافظة على المؤمنين والضعفاء، والرحمة في مريم هي الرحمة بالمعين على الدعوة والورثة الذين يأخذون الراية عمن سبقهم. هو ما يلاحظ في الآيات التالية: \" إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة.. \" [الكهف: 10]، \" رحمة من ربك وما فعلته عن أمري\" [الكهف: 82] كما قال الخضر لموسى مؤولاً أفعاله الغريبة بأنها رحمة بالمساكين أصحاب السفينة التي يلاحقها الملك القرصان، وبالوالدين اللذين قتل ابنهما كيلا يرهقهما طغياناً وكفراً، وباليتيمين إذ أقام الجدار ليحفظ لهما كنزهما، ومثل ذلك قول ذي القرنين للقوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً بعدما أقام ردما يمنع عنهم عدوان يأجوج ومأجوج: \" هذا رحمة من ربي\"[الكهف: 98]. وأما الرحمة في مريم فهي رحمة أصفياء الله المذكورين بمن يعينهم على الدعوة: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، و(ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً).
الكهف والجمعة والخلافة في الحديث: (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق) ، و(من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين). إن يوم الجمعة هو يوم الخلافة، لما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (خير يوم طلعت فيه الشمس: يوم الجمعةº فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة)، فالخلق للخلافة والإخراج من الجنة لتسلم الخلافة. إن سورة الكهف تبين للمؤمنين الوظيفة المنوطة بهم والدور المطلوب منهم، وهو القيام بواجب الخلافة وإعمار الأرض بشرع الله - تعالى -كما يبرز فيما قام به ذو القرنين من منع للفساد وزحف نحو المشارق والمغارب لإقامة العدل ونشر الخير، بعد أن ترينا مشهداً لملك قرصان لا يشبع حتى إنه ليلاحق المساكين في لقمة عيشهم. ومن هنا يتبين لنا سر اجتماع المسلمين يوم الجمعة وسر خطبة الجمعة، ومن ثم سر قراءة الكهف في هذا اليوم العظيم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد