إن أفضل كتاب يطلعنا على الماضي بكل أبعاده، وبصورة تلامس أسئلة الذات هو القرآن الكريم، ويكفي قراءة شواهد منه أحيانا لتخرج برؤية جديدة أو متجددة عن ذاتك وعن الكون والحياة والوجود!
وإذا علمنا أن القرآن هو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا به البشرية عموما، فإننا بدون شك سنجد في القرآن الكريم غاية ما نريده من الإجابة على الأسئلة المحيرة والخواطر المثيرة! لم لا!
إن قضية القرآن الأولى هي الإنسان! بين ثنايا هذا الوجود! ومن الطبيعي أن نجد فيه تفسيرا دقيقا وشرحا عميقا لهذه الذات: من أين جاءت؟ ولماذا؟ ومتى؟ وما علاقتها بالكون والوجود؟ وما سر حياتها؟ وأين ستسير؟ و...؟ و...؟
هذا ما سيلحظه أي قارئ مهما كان بسيطا في آيات القرآن الكريم، دون طلاسم أو متاهات!
إنها سرعان ما تلامس الفطرة وتوافق العقل وتطمئن الوجدان!
إنها تعطي الإنسان تصورا كليا وشاملا عنه وعن الكون من حوله وعن سر الحياة والوجود!
إن القرآن الكريم بكل آياته وسوره وبدون مبالغة يتحدث عن \"الذات الإنسانية\"، حتى وهو يتحدث عن صفات الخالق وأفعاله، لأنه بذلك أنما يتحدث عن هذه الذات مقابل \"الذات الأقدس والأجل\".. لتعرف قدرها! وإذا عرفت قدرها عرفت طبيعة نشأتها ودورها ومنتهاها! كل ذلك وهي تتلقى التوجيه من ذات صفاتها \"الكمال\" و\"الجلال\" و\"الجمال\" و\"العلو\"!
وعندما يغيب عن الناس ضوء الوحي أو يخبو في صدورهم انعكاسات نوره تغيب عنهم حقيقة \"الذات\" أو تفقد معناها.. لذلك كان لابد لهذه الذات من صلة دائمة بهذا القرآن حتى لا تشطت إلى آفاق خارج قدرتها وسعادتها وراحة ضميرها!
لقد كانت أول الآيات القرآنية نزولا على محمد عليه الصلاة والسلام والذي لم يطلع على الكتب السماوية السابقة آيات تتحدث عن \"الذات\"، ليس حديثا مجردا لا بل مرتبطاً بما حولها من الوجود وما غاب عنها من قدم النشأة..
(إقراء باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقراء وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم.. ) وياللهول بعد ذلك (كلا إن الإنسان ليطغى.. )، يتجاوز حدوده!! لشهوة تخرجه عن طوره أو لجهله بهذه الطبيعة (إنه كان ظلوما جهولا)!
بل وأول حكاية يحكيها القرآن عن بداية نشأة الإنسان يبين فيها وجود هذا الطموح البشري الذي يريد تجاوز الحقيقة.. قال تعالى: (وَلَقَد عَهِدنَا إِلَى آَدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ وَلَم نَجِد لَهُ عَزمًا، وَإِذ قُلنَا لِلمَلَائِكَةِ اسجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبلِيسَ أَبَى، فَقُلنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوُّ لَكَ وَلِزَوجِكَ فَلَا يُخرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشقَى، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظمَأُ فِيهَا وَلَا تَضحَى، فَوَسوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَل أَدُلٌّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلدِ وَمُلكٍ, لَا يَبلَى، فَأَكَلَا مِنهَا فَبَدَت لَهُمَا سَوآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخصِفَانِ عَلَيهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، طه (115121).
إن معرفة حقيقة الذات أساس كل نجاة، والجهل بها أساس كل خطيئة! فهذا إبليس لعنه الله كان منبع خطيئته ومخالفته لربه إعجابه بذاته بعيدا عن حقيقتها التي خلقها الله عليها، قال تعالى يعرض الحوار الإلهي مع إبليس مراجعة له عن عصيانه لأمر الله بالسجود لآدم: (إِذ قَالَ رَبٌّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ,، فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلٌّهُم أَجمَعُونَ، إِلَّا إِبلِيسَ استَكبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ، قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسجُدَ لِمَا خَلَقتُ بِيَدَيَّ أَستَكبَرتَ أَم كُنتَ مِنَ العَالِينَ، قَالَ أَنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَنِي مِن نَارٍ, وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ,، قَالَ فَاخرُج مِنهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيكَ لَعنَتِي إِلَى يَومِ الدِّينِ، قَالَ رَبِّ فَأَنظِرنِي إِلَى يَومِ يُبعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ، إِلَى يَومِ الوَقتِ المَعلُومِ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ، قَالَ فَالحَقٌّ وَالحَقَّ أَقُولُ، لَأَملَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنهُم أَجمَعِينَ)، ص (7188).
إن هذه الصورة لا تقابل صورة الملائكة وهي تبدي إعجابها بذاتها في مقابل آدم دون أن تخرج عن حدود الطاعة والأدب مع الله، ثم تراجعها عن الخطأ: (وَإِذ قَالَ رَبٌّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ، وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ، قَالُوا سُبحَانَكَ لَا عِلمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمتَنَا إِنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ، قَالَ يَا آَدَمُ أَنبِئهُم بِأَسمَائِهِم فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسمَائِهِم قَالَ أَلَم أَقُل لَكُم إِنِّي أَعلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَأَعلَمُ مَا تُبدُونَ وَمَا كُنتُم تَكتُمُونَ، وَإِذ قُلنَا لِلمَلَائِكَةِ اسجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبلِيسَ أَبَى وَاستَكبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ)، البقرة (3034).
فمتى عرف المخلوق قدر ذاته استطاع السير مع سنن الكون التي خلق في إطارها، وقيامه بمهمته التي لأجلها أوجد وعنها سوف يسأل.
ولن تغني شيئا أي مذاهب أرضية بعيدة عن الوحي في تجلية الذات، من الداخل ومن الخارج، وتجلية قدر هذه الذات وبالتالي علاقاتها مع ما حولها من الوجود! مهما بلغت في الرصد والتحليل والاستقراء والتجربة.. لأن الذات البشرية سيرة جنس لا يعيش في الأرض بعيدا عن أثر السماء.. فعقله ووجدانه لا يحدان بمختبر تقني أو عينة مخبرية!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد