بسم الله الرحمن الرحيم
تزامن حلول ذكرى المولد النبويّ* في هذا العام مع ثورة المشاعر المتأجّجّة، وردود الأفعال الغاضبة التي لا زالت قائمة منذ حدوث أزمة الرسوم الدانماركيّة المسيئة لشخص الرسول الكريم - صلّى الله عليه وسلّم - منذ عدّة أشهر، ممّا يفتح باباً واسعاً من التساؤلات عن موقع السنّة النبويّة في حياة الناس، وهل تلقى هذه السنّة التطبيق والاهتمام الكافي؟ ولماذا انتظرنا حتّى حلول هذه الأزمة لنعبّر عن حبّنا وتقديرنا للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بكلّ هذه الحماسة والإجماع؟ وهل نعتبر مقصّرين في نشر وعرض روعة ومثاليّة هذه السنّة للعالم ممّا أدّى لحدوث الإساءات الجائرة تّجاه رمزها؟
فكان هذا الاستطلاع الذي عني بشكل خاصّ بآراء الفئة العمريّة الشابّة والمتوسّطة.
ما بين قلّة المعرفة الوافية وصعوبة التطبيق:
وجب التنويه بداية أنّ الآراء التي أدلى بها الكثيرون تعكس ضحالة وسطحيّة المعرفة بالسنّة النبويّة، وقد تجلّى ذلك في حيرة واعتذار الكثيرين عن الإجابة لكونهم لا يملكون المعرفة الكافية بالسنّة، فيما البعض قد حصر السنّة في ركعات النوافل فقط كالمعظم الذي قصرها على ركعتيّ الضحى وسنن الصلوات، عدا عن كون البعض الآخر كان قد خلط أوراق الواجبات الدينيّة بأوراق السنّة النبويّة كإحدى الفتيات التي اعتبرت قرار الحجاب، والبعض الآخر الذي اعتبر استيقاظه لصلاة الفجر على وقتها هو من ضمن السنّة فقط.
يشير (أسامة عمر 25 عاماً) إلى أنّ اتباعه للسنّة يتجلّى بقراءته أذكار الصباح والمساء، بالإضافة لأداء ركعتيّ السنّة مع كلّ فرض، ويعلّق قائلاً: \"غدا اتّباع السنّة النبويّة صعباً جداً في أوساط الشباب\"، مشبّهاً إيّاه بـ(التحليق خارج السرب) على حدّ قوله، وهو ما ذكره (رامي أبو زيد، 26 عاماً) قائلاً:\" لا نملك وقتاً كافياً لأداء الفروض الأساسيّة فكيف بالنوافل؟\" ويردف قائلاً: \"بالكاد نقتطع من وقت عملنا دقائق لأداء الصلوات المفروضة، ممّا لا يترك مجالاً لأداء السنن، أو حتّى التفكير بغير الأساسيّات الدينيّة\"، فيما تشير (هنادي عامر، 21 عاماً) إلى أنّ مسألة اتّباع السنن قد غدت في نظر المعظم تشدّدّاً، وعدم عمليّة في التديّن، وتوضّح ذلك قائلة: \"حتّى الآداب النبويّة في تشميت العاطس أو السلام على الطريقة الإسلاميّة قد غدت مبالغات بنظر البعض\"، وتعلّق (لينا زهير، 22عاماً) قائلة: \"تكمن المشكلة في أنّ المعظم يأخذون السنّة على محمل السلوكيّات الخارجيّة فقط، إلاّ أنّ المسألة أعمق من ذلك، وتحتاج لتبصّر في حكمتها\".
الشرارة التي أشعلت الفتيل وكانت معظم الآراء التي تحدّثت عن السنّة في حياتنا قد ربطت ما بينها وما بين أزمة الرسوم الدانماركيّة قياساً على مقولة \"ربّ ضارّة نافعة\"، فاعتبرها المعظم الشرارة التي أشعلت الفتيل، وألّفت القلوب المسلمة جميعها للدفاع عن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وقد اعتبرها آخرون نتيجة طبيعيّة لغياب الخطاب الإسلامي المعتدل الموجّه للعالم، واقتصاره على الفئة المتشدّدّة التي قدّمت صورة مشوّهة عن الإسلام والمسلمين.
تشير (ليلى أحمد، 29عاماً ) إلى أنّ أزمة الرسوم الدانماركيّة قد كشفت قصور معرفتنا بالسنّة والسيرة النبويّة، وتوضّح ذلك قائلة: \"كان ذلك عندما حاول المعظم تعزية نفسه بالدفاع ومدح الرسول الكريم ليكتشف أنّه لا يعلم من هذه السنّة إلاّ النزر اليسير الذي لا يتعدّى بعض قصص السيرة\"، ويذكر (محمّد حسين، 19 عاماً) أنّ اهتمامه الحقيقيّ بالسنّة والسيرة النبويّة قد ابتدأ منذ حدوث هذه الأزمة، ويضيف قائلاً: \"علينا أن نخطو لما هو أبعد من المظاهرات والاحتجاجات الكلاميّة\"، ويوضّح ذلك قائلاً: \"من الواجب أن تكون جهودنا كشباب مسلمين منظّمة ومدروسة أكثر من ذلك، ولعلّ البداية يجب أن تكون بتفقيه أنفسنا بالسنّة\"، ويعلّق (طارق طوباسي، 24 عاماً) على ذلك قائلاً: \"السبب الرئيسي في تلك الإساءة هو جهل الطرف الآخر بنبيّنا الذي قصّرنا في نشر اسمه وسيرته للخارج بسبب خطابنا الذي لا نوجّهه إلاّ لأنفسنا، وحتّى هذا الخطاب الداخلي لا يعتبر ناجحاً بما فيه الكفاية\"، وهو ما ذكرته ( نهاد الصاوي، 23 عاماً) قائلة: \"طرحت هذه الأزمة سؤال السنّة ومكانة النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - أمام المسلمين جميعاً، عدا عن كونها قد لفتت أنظار العالم لهذا الرمز العظيم الذي غاب عن الساحة العالميّة بسبب تقصيرنا اتّجاهه\".
غياب الإعلام والوعظ القريب للنفوس:
وكان الكثيرون قد تذمّروا من قصور الإعلام الإسلامي ووسائل الدعوة الأخرى عن توضيح السنّة النبويّة من ناحيتيّ عدم وجود السرد للسيرة النبويّة بطريقة محبّبّة وقريبة للنفوس، ومن ناحية غياب الشرح عن طرق استنباط ما وراء قصص هذه السيرة، وكيفيّة تطبيقها على الواقع الحياتيّ، باستثناء برنامج عمرو خالد (على خطى الحبيب)، والذي أشاد به عدد ملفت للنظر من الشباب الذين اعتبروه بداية الطريق لتنويرهم بالسنّة، يقول (معتصم حرز الله، 27 عاماً): \"لماذا يستغرب البعض من جهل المعظم بالسنّة النبويّة على الرغم من كون ذلك نتيجة طبيعيّة لغياب عرض السنّة بطريقة محبّبّة في وسائل الإعلام ودروس الوعظ\"، ويضيف قائلاً: \"حتّى محاولات سرد السنّة كانت تفتقر لتقريبها من أذهان العامّة عبر غياب الربط ما بينها وما بين الواقع الذي نعيشه\"، وهو ما يشاركه فيه (إسماعيل يعقوب، 24 عاماً) والذي أضاف: \"بالنسبة لي ولمعظم الشباب في عمري نجد أنّ أنجح وأقرب عرض للسنّة النبويّة كان في برنامج على خطى الحبيب لعمرو خالد والذي أرانا لأوّل مرّة السيرة النبويّة مصوّرة في أماكنها الحقيقيّة بمكّة والمدينة\"، ويضيف قائلاً: \"اقتصر عرض السيرة والسنّة في العادة على محاضرات جامدة نخرج منها من غير معرفة كيف نطبّق ما سمعناه\".
الرأي الشرعي:
يعلّق على الآراء السابقة الدكتور في قسم الفقه و أصوله في الجامعة الأردنية عبدالله الكيلاني قائلاً: \"السنّة هي كل ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلّم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية\"، و يوضّح أنّ من السنّة ما هو مندوب وما هو واجب وهنا يكمن الخلط عند العامّة، فالمندوب هو ما ترتّب على اتّباعه الثواب، ولكنّ تركه لا يجلب الإثم كصلوات النوافل والأذكار وعامّة الآداب الإسلاميّة كالأكل باليد اليمين، وتشميت العاطس، مع إشارته \"للنفع الأكيد والرقيّ السلوكي لكلّ ما هو مندوب من السنّة التي كانت أشبه بمناهج (البروتوكولات والاتيكيت) التي تدرّس حاليّاً، عدا عن كونها تعتبر تهذيباً سلوكيّاً للنفس الإنسانيّة\"، أمّا الواجب في بعض ما ورد في السنّة فهو ما رتّب الشارع على تركه عقوبة كالصلاة التي تحدّث عنها القرآن عامّة، وفصّلتها السنّة فهي واجبة، والواجب من السنّة كذلك هو ما كان ضرره شديد، وقد يمسّ بالأمن الاجتماعي كالمسكرات التي يتبع في حكمها المخدّرات، وكلّ ما يذهب العقل، فالبعد عنها واجب على الرغم من ورودها تفصيلاً في السنّة فقط، وكذلك خطاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كان فيه مصلحة للأمّة كنهيه عن الاحتكار فهو من ضمن الواجب، وكلّ ما نهت عنه السنّة بطريقة مباشرة كالنهي عن الجمع بين المرأة وخالتها وعمّتها فهو من ضمن الواجب وليس المندوب.
ويعلّلّ الدكتور الكيلاني قصور المعرفة الوافية بالسنّة بعدّة أسباب لعلّ أهمّها \"تركيزنا على الطريقة المباشرة فقط في الدعوة من غير دمج المبادئ الدينيّة بما فيها السيرة والسنّة بالحياة الواقعيّة\"، ويردف قائلاً: \"من شروط الموعظة والدعوة الناجحة أن يربطها الواعظ الكفؤ، والذي لا تشترط فيه الشهادات العلميّة فقط، بحاجات الناس وهمومهم\"، ويضيف قائلاً: \"يقصّر الإعلام العربي والإسلامي في صوغ المعرفة الدينيّة النافعة عند جمهور المسلمين، وبالتّالي الجمهور والمجتمع الغربيّ غير المسلم\"، ويسوق قصّة الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - مع عبدالله بن أبيّ الذي كان في ظاهره من الصحابة إلاّ أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم بأنّه منافق، وهو ما حذا به لرفض اقتراح عمر بن الخطّاب قتله قائلاً: \"كيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه؟\" في إشارة لحرصه على الرأي العامّ الذي لم يكن ليتفهّم ما وعاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حقيقة إسلام عبدالله بن أبيّ.
ويقترح الدكتور الكيلاني عدّة استراتيجيّات لدعم المعرفة بالسنّة النبويّة قائلاً: \"يكون ذلك بالتركيز على إدخال القيم الإسلاميّة والدينيّة لكافّة قطاعات الحياة الاجتماعية والتعليميّة والإعلاميّة والترفيهيّة، وليس قصرها فقط على أوساط المتديّنين، على أيدي دعاة مؤهّلين يخرجون من بين صفوف العامّة، ويعكسون نبضهم\".
_______________________
* لم يثبت أن 12 من ربيع الأول هو يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن باب أولى لا يثبت الاحتفال بهذا اليوم ولا غيره لعدم ورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد أصحابه ولا عن التابعين ولا تابعي التابعين، وإنما أول من أقامه واحتفل به هم الفاطميين الباطنيين، وهي بدعة مأخوذة من النصارى. (موقع المختار الإسلامي).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد