1- بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
جاءت محنة الإفك منطوية على حكمة إلهية استهدفت إبراز شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهارها صافية مميزة عن كل ما قد يلتبس بها، فلو كان الوحي أمراً ذاتياً غير منفصل عن شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما عاش الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلك المحنة بكل أبعادها شهراً كاملاً. ولكن الحقيقة التي تجلت للناس بهذه المحنة أن ظهرت بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونبوته، فعندما حسم الوحي اللغط الذي دار حول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عادت المياه إلى مجاريها بينها وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفرح الجميع بهذه النتيجة بعد تلك المعاناة القاسية، فدل ذلك على حقيقة الوحي، وأن الأمر لو لم يكن عند الله -تعالى- لبقيت رواسب المحنة في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفة خاصة، ولا نعكس ذلك على تصرفاته مع زوجته عائشة رضي الله عنها. وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلاً كبيراً على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
2- حد القذف وأهميته في المحافظة على أعراض المسلمين:
كان المجتمع الإسلامي يتربى من خلال الأحداث، فعندما وقعت حادثة الإفك وأراد المولى -عز وجل- أن يشرع بعض الأحكام التي تساهم في المحافظة على أعراض المؤمنين ولذلك نزلت سورة النور، التي تحدثت عن حكم الزاني والزانية ، وعن قبح فاحشة الزنا، وعما يجب على الحاكم أن يفعله إذا ما رمى أحد الزوجين صاحبه، وعن العقوبة التي أو جبها الله على الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى غير ذلك من الأحكام . إن الإسلام حرم الزنا، وأوجب العقوبة على فاعله، فقد حرم أيضاً كل الأسباب المسببة له، وكل الطرق الموصلة إليه ومنها إشاعة الفاحشة والقذف بها لتنزيه المجتمع من أن تسري فيه ألفاظ الفاحشة والحديث عنها لأن كثرة الحديث عن فاحشة الزنا وسهولة قولها في كل وقت يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرئ ضعفاء النفوس على ارتكابها، لهذا حرمت الشريعة الإسلامية القذف بالزنا، وأوجبت على من قذف عفيفاً أو عفيفة طاهراً أو طاهرة بريئاً أو بريئة من الزنا حد القذف وهو الجلد ثمانون جلدة، وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة صادقة نصوحاً. هذا وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حد القذف على مسطح وحسان وحمنة، وروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلد في الإفك رجلين وامرأة : مسطحاً وحساناً وحمنة وذكره الترمذي، قال القرطبي: والمشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حُدَّ حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد عبد الله بن أبي، وقد وردت آثار ضعيفة تدل على أن عبد الله بن أبي أٌقيم عليه الحد، ولكنها كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة.
3- اعتذار حسان رضي الله عنه للسيدة عائشة -رضي الله عنها-: قد بينت الروايات أن من خاض في الإفك قد تاب – ماعدا ابن أبي – وقد اعتذر حسان -رضي الله عنه- عما كان منه وقال يمدح عائشة بما هي أهل له.
رأيتــك وليغــــفـر لك الله حـرة |
|
مـن المحصنات غير ذات غوائـل |
حصـــان رزانٌ ما تــزن بريبــة |
|
وتصبح غرثى من لحوم الغوافـل |
وإنّ الذي قــد قيــل ليس بلائـــق |
|
بـك الدهـر بل قيل امرئ متناحل |
فإن كنـت أهجـوكم كمـا بلَّغُــوكم |
|
فـلا رفعـت سوطـي إلىَّ أناملي |
فكيـف ووُدّي مـا حييـت ونصـرتي |
|
لآل رسـول الله زيــن المحافـل |
وإن لهم عـزاً يـرى النـاس دونــه |
|
قصاراً، وطال العزّ كل التطـاول |
4- من الأحكام المستنبطة من عزوة بني المصطلق: جواز الإغارة على من بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار، ومنها صحة جعل العتق صداقاً كما فعل -صلى الله عليه وسلم- مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة، ومنها مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن، ومنها جواز استرقاق العرب كما حدث في الغزوة وهو قول جمهور العلماء، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سب عائشة –رضي الله عنها- بعد براءتها براءة قطعية بنص القرآن، ورماها بما اتهمت به فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، ومن الأحكام التي عرفت في هذه العزوة حكم العزل عن النساء حيث سأل الصحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنه فأذن به وقال : (ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)(1). فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها، ونزلت آية التيمم في هذه الغزوة ، تنويهاً بشأن الصلاة، وتنبيهاً على عظيم شأنها، وأنه لا يحول دون أدائها فقد الماء، وهو وسيلة الطهارة التي هي أعظم شروطها، كما لا يحول الخوف وفقد الأمن من إقامتها.
5- أهم الآداب والأحكام التي تؤخذ من آيات الإفك:
أخذ العلماء من الآيات التي نزلت في حادثة الإفك أحكاماً وآداباً من أهمها ما يأتي :
1- تبرئة السيدة عائشة -رضي الله عنه- من الإفك بقرآن يتلى إلى آخر الزمان قال تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم}
2- أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يبزغ الخير من ثنايا الشر، فقد كان ابتلاء أسرة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بحديث الإفك خيراً لهم، حيث كتب لهم الأجر العظيم على صبرهم وقوة إيمانهم، قال تعالى: \" لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم \"
3- الحرص على سمعة المؤمنين، وعلى حسن الظن فيما بينهم قال تعالى: {لَولَا إِذ سَمِعتُمُوهُ ظَنَّ المُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بِأَنفُسِهِم خَيرًا وَقَالُوا هَذَا إِفكٌ مٌّبِينٌ} (12) سورة النــور.
4- تكذيب القائلين بالإفك، قال تعالى :{لَولَا جَاؤُوا عَلَيهِ بِأَربَعَةِ شُهَدَاء فَإِذ لَم يَأتُوا بِالشٌّهَدَاء فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ} (13) سورة النــور.
5- بيان فضل الله على المؤمنين ورأفته بهم: \"ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة...\"
6- وجوب التثبت من الأقوال قبل نشرها والتأكد من صحتها، قال عز وجل: {وَلَولَا إِذ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبحَانَكَ هَذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ}(16) سورة النــور.
7- النهي عن اقتراف مثل هذا الذنب العظيم أو العودة إليه قال تعالى : {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم}.
8- النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبٌّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ} (19) سورة النــور.
9- بيان فضل الله سبحانه على عباده المؤمنين ورأفته بهم وكرر ذلك تأكيداً له، قال الله: {وَلَولَا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (20) سورة النــور.\"
10- النهي عن تتبع خطوات الشيطان التي تؤدي للهلاك قال تعالى: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِع خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاء وَالمُنكَرِ وَلَولَا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّن أَحَدٍ, أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (21) سورة النــور.
11- الحث على النفقة على الأقارب وإن أساءوا قال تعالى: {وَلَا يَأتَلِ أُولُوا الفَضلِ مِنكُم وَالسَّعَةِ أَن يُؤتُوا أُولِي القُربَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا أَلَا تُحِبٌّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22) سورة النــور.
12- غيرة الله – تعالى- على عباده المؤمنين الصادقين، ودفاعه عنهم وتهديده لمن يرميهم بالفحشاء باللعن في الدنيا والآخرة قال الله : {إِنَّ الَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَافِلَاتِ المُؤمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ يَومَ تَشهَدُ عَلَيهِم أَلسِنَتُهُم وَأَيدِيهِم وَأَرجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ يَومَئِذٍ, يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقٌّ المُبِينُ} (23-25) سورة النــور. قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفطام ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة، كل واحد منها كاف في بابه، ولم ينزل إلا هذه الآيات الثلاث :\" إن الذين يرمون المحصنات...\" إلى قوله:\" هو الحق المبين\". لكفى بها حديث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله.
13- بيان سنة من سنن الله الجارية في الكون وهي أن الطيبين يجعلهم الله من نصيب الطيبات والطيبات يجعلهن من نصيب الطيبين . قال الله :{الخَبِيثَاتُ لِلخَبِيثِينَ وَالخَبِيثُونَ لِلخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ} (26) سورة النــور. راجع\" السيرة النبوية \" للصلابي (2/ 933-939).
14- في تزويج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق مبدأ: ( أنزلوا القوم منازلهم). إذ تزوجه -صلى الله عليه وسلم- بها كان إكراماً لها ولأبيها لشرفها عند قومها.
15- بيان بركة جويرية إذ بزواجها انعتق أكثر من مائة بيت من قومها.
16- بيان نفاق وخبث ومكر ابن أبي عليه لعائن الله تعالى، وما أراده من الفتنة.
17- تجلي الحكمة المحمدية والسياسة الرشيدة في إخماد نار الفتنة وقطع دابر الشر بالرحيل بالقوم وعدم الإذن في قتل ابن أبي بعد أن استوجب القتل بقوله: ما زال ابن أبي سلول كافر ما آمن حتى يقال ارتد.
18- مشروعية القرع والأخذ بها بدل مجرد التخيير لما فيها من تطييب النفوس .
19- مشروعية أخذ المجاهد امرأته معه للجهاد إذا كانت الظروف مواتية لذلك.
20- بيان أن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ما كان يعلم الغيب حتى يعلمه الله، فكيف إذاً بغيره ممن يدعون علم الغيب والمكاشفة تغريراً بالمسلمين وتضليلاً لهم لا ستغلالهم.
21- بيان ما تعرضت له أم المؤمنين من البلاء وصبرها عليه حتى كشف الله غمتها وفرج كربها وهكذا يتحقق مصداق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- :\" أشدكم بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل\". سنن ابن ماجه(4023)، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء.
22- بيان إقامة حد القذف على من قذف مؤمناً أو مؤمنة بفاحشة، إذ أقيم الحد على مسطح وحسان وحمنة فطهر هم الله بذلك، ولم يقم الحد على ابن أبي لأنه كافر لا تطهره الحدود.
23- استجابة أبي بكر لربه في قوله: {وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا}(22) سورة النــور.إذا كان قد منع ابن خالته مسطحاً ما كان يقدمه له من طعام وكساء لما تورط في قذف أم المؤمنين ثم كَفَّر أبو بكر عن يمينه ورد إلى مسطح ما كان يجريه عليه من النفقة بوصفه ابن خالته، وهو مهاجر فقير.
24- تجلي الكمال المحمدي، في عدة مواقف من هذه الغزوة بما فيه حادثة الإفك من ذلك، حلمه وأناته، صبره وكرمه، وحسن تدبيره لأموره وأمور أصحابه، استشارته لأفراد آل بيته فيما يتعلق بهم دون غيرهم . راجع\" هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يا محب ص 336- 337.
25- الأسماء الشريفة إذا قصد بها تفريق المسلمين وتفتيت جماعاتهم تصير من دعوى الجاهلية ، وهي منتنة كما أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-. فمع أن اسم المهاجرين واسم الأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها وقد سماهم الله عزوجل بهذه الأسماء على سبيل المدح لهم فقال تعالى : \" {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ, رَّضِيَ اللّهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ}(100) سورة التوبة. وكان للمهاجرين راية في القتال للأنصار راية، إلا أن هذه الأسماء لما استعملت الاستعمال الخاطئ لتفريق المسلمين وإحياء العصبيات الجاهلية، أنكر ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال : \" دعوها إنها منتنة \". وكذا والله أعلم اسم السلفية أو أهل السنة أو أنصار السنة إذا تعصب أصحاب هذه الأسماء لها ولم يكن ولاؤهم للمنهج فإن هذا يدخل في الذم المذكور، ويكون ذلك من دعوى الجاهلية، والجماعة المقصودة بحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة هم الصحابة(2) ومن كان على معتقدهم وفهمهم للكتاب والسنة ولا يجوز تفريق المسلمين أصحاب المنهج الصحيح بحسب الرايات والأسماء التي يعملون تحتها، وعلى كل مسلم مخلص أن يسعى لتأليف المسلمين وجمعهم على الفهم الصحيح والعقيدة الصحيحة.
26- في هذه القصة بيان عزة الإيمان وأن الكافر ذليل والمنافق ذليل كيف وقد قال الله في كتابه الكريم : {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}(10) سورة فاطر. ولا أذل لعبد الله بن أبي رأس النفاق من وقوف ولده له وعدم سماحة بدخول المدينة حتى يأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبان بذلك من العزيز ومن الذليل.
27- في القصة كذلك بيان أن المشروع أن يدفع بالمفسدة الصغرى المفسدة الكبرى، فادعاء الناس أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه ممن يظهر الإسلام لا شك مفسدة عظيمة، فتحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- دسائس وغدرات ابن أبي وهي مفاسد دفعاً لهذه المفسدة والله أعلم.
28- وفي القصة كذلك شرف النبي -صلى الله عليه وسلم- وصبره على أذى المنافقين وهو أشرف النبيين وإمام المرسلين ولو أمر عبد الله بن أبي بقتل أبيه لفعل وابتغى بذلك رضا رسول صلى الله عليه وسلم ولكنه قال له : \"بر أباك\" فصلى الله عليه وسلم تسليماً، ثم هو -صلى الله عليه وسلم-لم يكن لينتقم لنفسه ولا يغضب لنفسه بل يغضب لله -عز وجل- ولا شك أن ما لاقاه النبي -صلى الله عليه وسلم- من إيذاء واستهزاء وصبره على ذلك من أسباب رفعة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو درجته زاد الله -عز وجل- تشريفاً وتكريماً.راجع\" وقفات تربوية \" ص274- 275.
29- مشروعية تقسيم الغنائم بين المقالتين، بعد استثناء السلب والخمس من الغنيمة، فأما السلب (وهو ما يكون مع المقتول من سلاح ونحوه). فيجوز أن يأخذه القاتل لقوله -صلى الله عليه وسلم-: \"من قتل قتيلاً فله سلبه\" صحيح ابن حبان،(3308) باب صدقة التطوع. وأما الخمس فهو لمن ذكرهم الله تعالى في كتابه: {وَاعلَمُوا أَنَّمَا غَنِمتُم مِّن شَيءٍ, فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ}(41) سورة الأنفال. وأما الأخماس الأربعة فتوزع على المقاتلين كما كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
30- تدلنا معالجة النبي -صلى الله عليه وسلم- للمشكلة التي استغلها عبد الله بن أبي بن سلول بالشكل الذي رأيناه، على مدى ما قد آتاه الله من براعة فائقة في سياسة الأمور وتربية الناس والتغلب على مشاكلهم. لقد كان ما سمعه -صلى الله عليه وسلم- من كلام ابن سلول مسوغاً كافياً لأن يأمر بقتله بحسب الظاهرةº ولكنه -صلى الله عليه وسلم- استقبل الأمر بصدر أرحب من ذلك، وسمع عن اللغط الذي جرى، والتناوش الذي وقع، والجيش فيه عدد كبير من المنافقين الذين يبحثون عن شيء مثل هذا ليقوموا ويقعدوا به، فلم يعالج الأمر بعاطفة متأثرة، وإنما ترك الحكمة وحدها هي التي تدبر فكان أن أمر القوم بالمسير في وقت لم يكونوا يعتادونه، حتى يشغلهم السير عن الاجتماع على المحادثة والكلام. ظل يسير بهم بقية اليوم والليل كله وصدراً من اليوم الثاني، لا يدع لهم مجالاً يفرغ فيه المنافقون للخوض فيما يريدون من باطل، فلما انحطوا بعد ذلك على الأرض لم يدع لهم التعب فرصة الحديث عن شيء، وذهب الجميع في سبات عميق. وانتظر الناس أن يجدوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إذا وصل إلى المدينة، شدة على المنافقين، لا ريب أنها تتجلى في قتل عبد الله بن أبي بن سلول، فلذلك جاء إليه ابنه عبد الله -رضي الله عنه- يعرض على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتولى هو قتل أبيه إذا كان يريد أن يحكم بذلك ولكنه فوجئ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما لم يكن متوقعاً حينما قال : \"بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا\" تاريخ الطبري(2/110). وانظر إلى تعليل ذلك فيما قاله لعمر -رضي الله عنه-: \"فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟\". ولقد كان من نتيجة هذه الحكمة أن انحسر عن عبد الله بن أبي قومه فكانوا هم الذين يعنفونه ويفضحون أمره إذا ما أراد أن يحدث شيئاً، وأنت خبير أن المنافق يعتبر في الأحكام القضائية الدنيوية مسلماً مع وجوب الحيطة والحذر منه.
31- في قصة الإفك ما يدلنا على مشروعية حد القذف. فقد رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمر بأولئك الذين تفوهوا بصريح القذف، فضربوا حد القذف، وهو ثمانون جلدة . وليس في هذا من إشكال. إنما الإشكال في أن ينجو من الحد الذي تولى كبر هذه الشائعة وتسيرها بين الناس، وهو عبد الله بن أبي سلول، والسبب، كما قال ابن القيم : \"أنه كان يعالج الحديث من الإفك بين الناس بخبث، فكان يستوي الكلام فيه ويجمعه ويحكيه. في قوالب من لا ينسب إليه وأنت خبير أن حد القذف إنما يقع على من يتفّوه به بصريح القول\". \"راجع\" فقه السير النبوية \" البوطي ص 206 – 212.
1 البخاري، الفتح , كتاب بدء الوحي ، باب غزوة بني المصلطق(3907)
2 - لم يقع افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة في عصر الصحابة، ولكن بلا شك فالصحابة على رأس وأئمة الفرقة الناجية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد