هل وقع قتال في يوم الأحزاب؟


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل، وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم.

ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر -رضي الله عنه-: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش. فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وأنا والله ما صليتها)، فنزلنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بُطحَان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب(1).

وقد استاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين، ففي البخاري عن على عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يوم الخندق: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطي حتى غابت الشمس(2)).

وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً. قال النووي: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. انتهي(3).

ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين، دامت أياماً، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة.

وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع: ستة من المسلمين، وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف.

وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ -رضي الله عنه- بسهم فقطع منه الأكحَل، رماه رجل من قريش يقال له: حَبَّان بن العَرِقَة، فدعا سعد: اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللّهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها(4). وقال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة(5).

وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم: انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتي كعب بن أسد القرظي-سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على أن ينصره إذا أصابته حرب، كما تقدم- فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ,، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رُومَة، وبغطفان على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بذَنَب نَقمَي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه.

فقال له كعب: جئتني والله بذُلِّ الدهر وبجَهَامٍ, قد هَرَاق ماؤه، فهو يرعِد ويبرِق، ليس فيه شيء. ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاء.

فلم يزل حيي بكعب يفتِلُه في الذِّروَة والغَارِب، حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين(6).

وفعلاً قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب. قال ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت: فقلت: يا حسان، إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا مِن يهود، وقد شغل عنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فانزل إليه فاقتله.

قال: والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فاحتجزت(7) ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن وقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سبله إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة(8).

وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي-مع أنها كانت خالية عنهم تماماً- فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن، كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً.

وانتهي الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدينº سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة وخَوَّات بن جبير، وقال: (انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تَفُتٌّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس). فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد. فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحنوا له، وقالوا: عَضَل وقَارَةº أي إنهم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرَّجِيع(9).

وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب.

وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما قال الله -تعالي-: {وَإِذ زَاغَت الأَبصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنٌّونَ بِاللَّهِ الظٌّنُونَا هُنَالِكَ ابتُلِيَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالًا شَدِيدًا}الأحزاب:10، 11.

 

ظهور المنافقين:

ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه: إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة. وحتى همت بنو سلمة بالفشل، وفي هؤلاء أنزل الله تعالي:{وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنهُم يَا أَهلَ يَثرِبَ لَا مُقَامَ لَكُم فَارجِعُوا وَيَستَأذِنُ فَرِيقٌ مِّنهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَورَةٌ وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ, إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}الأحزاب: 12، 13.

أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتقنع بثوبه حين أتاه غَدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض مبشراً يقول: (الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره)، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينةº لئلا يؤتي الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لابد من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيـقاً لهــذا الهـدف أراد أن يصالـح عُيينَة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلوا المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراودة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّبَ رأيهما وقال: (إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة).

ثم إن الله-عز وجل-وله الحمد- صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم، وفَلَّ حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له: نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي-رضي الله عنه-جاء رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إنما أنت رجل واحد، فَخذِّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)، فذهب من فوره إلى بني قريظة -وكان عشيراً لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، قالوا: فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.

ثم مضي نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك.


 


1 - البخاري، الفتح، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب رقم (4112)

2 - البخاري ، الفتح، الجهاد والسير ، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة. رقم (2931)

3 - مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص287. وشرح مسلم للنووي  1/ 227.

4 - البخاري، الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي مع الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة. رقم (4122).

5 - ابن هشام 337.

6 - ابن هشام 2/ 220، 221.

7- احتجزت: شدة وسطها.

8- ابن هشام 2/ 228. يحمل هذا الحديث على أن حسان كان جباناً، وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره وذلك أن الحديث منقطع الإسناد، ولو صح لهجي به حسان وإن صح الحديث فربما كان حسان معتلاً في ذلك اليوم، وهذا أولى ما تأول.

9 - انظر : سيرة ابن هشام (4/179).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply