بسم الله الرحمن الرحيم
جاء الإسلام - ككل دين جاء من عـنــد الله - عقـيــدة وشــريـعة ، العقيدة ثابتة لا تتغير ((اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّن إلَهٍ, غَيرُهُ..)) ، والشريعة في أسمى صورها وأكملها.. فآمن بالإسلام قوم فأصبحوا مسلمين ، وأبى قوم فأصبحوا في كفر وجاهلية.. وبمـرور الـزمــن والــبعد عن عهد النبوة، ومضي القرون المفضلة وفشو الجهل في الناس وانحسار كثير من مد الإســلام، أخــذ مفهوم الإسلام في الانحسار حتى بات عند كثير من الناس لا يعدو النطق بلا إله إلا الله، وإن لم يعـمــل قائلها بمقتضاها.. وأصبح (مثقفونا) يتساءلون في استنكار : ما للإسلام والاقتصاد؟!.. ما للإسلام والسياسة والحكم ؟!.. وأصبح الفرد من عامة المسلمين يقول : لا إله إلا الله ، ثم لا يـجــد حرجاً أن يرى شريعة الله لم تعد هي الفيصل فيما يعرض له من مشاكل .
ومن هــنـا كان من الضروري أن نبين حقيقة الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم وإليه دعا.. ونقيم الدليل على بديهيته الأولى وهي: توحيد المُشرَّع، وتصديق ومتابعة المُبلَّغ - صلى الله عليه وسلم-.
1- حقيقة الإسلام وجوهره :
الإسلام هو دين الرسل جميعاً ، وإن تنوعت شرائعهم ومناهجهم ، كما قال تعالى : ((ومَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَّسُولٍ, إلاَّ نُوحِي إلَيهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعبُدُونِ..)) والآيات في ذلك كثيرة والأحـاديـــث منها قــول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : (الأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد) (صحيح البخاري ، كتاب : فضائل الأنبياء).
ولهذا كانت الكتب السماويــة المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قاطعة أن الله لا يقبل من أحد ديناً سوى الحـنـيـفـية وهي الإسلام العام ، قال تعالى: ((إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلامُ..)) وقال عز وجل : ((ومن يَـبـتَـغِ غَيرَ الإسلامِ دِيناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ))..(1)
ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، مأخوذ من قوله سبحانه: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ,)). فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده ، وترك الاستسلام لما سواه ، .. وهذه حقيقة قولنا لا إله إلا الله ، فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن يشرك به ، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته ، وقد قال تعالى : ((إنَّ الَذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ))(2) ولذلك فإن قدم الإسلام لا يثبت الا على ظهر التسليم والاستسلام(3) ، (والانسان أمام طريقين لا ثالث لهما ، فإما أن يختار العبودية لله ، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله)(4) ، فإفراد الله بالعبادة هو جوهر الإسلام وحقيقته ، وهو المدلول العلمي لشهادة أن لا إله إلا الله ، .. والتلقي في كيفية هذه العبادة عن رسول الله هو حقيقة تصديقه فيما أخبر ، وهو المدلول الحقيقي والعملي لشهادة أن محمداً رسول الله .
(فدين الإسلام مبني على أصلين : أن نعبد الله وحده لا شريك له ، وأن نعبده بما شرعه من الدين ، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو استحباب)(5) ، وهذان الأصلان هما حقيقة قولنا : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (ولهذا لما جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا : نشهد إنك لرسول لم يكونوا مسلمين بذلك ، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم أي نعلم ونجزم أنك رسول الله ، قال : فلم لا تتبعوني؟ قالوا : نخاف من يهود.. فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس لإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشماء المتضمن للالتزام والانقياد مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم ، .. فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين ، فكانوا كفاراً في الباطن ، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين ، فكانوا كفاراً في الظاهر والباطن ، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد وأنشد عنه :
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً.. (6)
(ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام ، ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كـثـير مــن أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام º علم أن الإسلام أمر وراء ذلك ، وأنه ليس هو المعرفة فقط ، ولا المعرفة والإقرار فقط ، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً)(7) .
فالإسلام الذي نحرص عليه ، ولا نرضى بغيره ديناً ، ليس مجرد تصديق الرسول فيما أخبر بل لا بد من الإسلام من تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر ذلك أن حقيقة الإسلام (توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، والإيمان بالله ورسوله وطاعته فيما جاء به ، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم)(8)... وهذا أصل عظيم ينبغي معرفته لما قد لبس على الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك يتنافى مع الإسلام لا يحسبونها شركاً. إن حقيقة الإسلام وجوهره: أن لا نعبد إلا الله ، وأن لا نعبده إلا بما شرع.. إن حقيقة الإسلام : أن يستسلم العبد لله رب العالمين ، ولا يستسلم لسواه .
2- الإسلام.. وتوحيد المُشَرَّع :
التشريع في الإسلام لا يكون إلا لله. ومن زعم لنفسه الحق في التشريع بغير سلطان من الله، فقد تجاوز حد العبودية ، وتطاول إلى مقام الألوهية ، وجعل نفسه نداً لله تعالى ، فالمُشرّع هو الله وحده ، ولا تشريع إلا ما شرعه سبحانه ، قال تعالى : ((أَم لَهُم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَم يَأذَن بِهِ اللَّهُ)) فـالـتـشـريـع المطلق حق خالص لله وحده لا ينازعه في ذلك أحــد كـمـا قـال تـعـالى: ((إنِ الحُكمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ)) [يوسف:40]، لذلك أوجبت الشريعة الـتحاكم إلى الشرع وجعلته شرط الإيمان ، قال تعالى : ((فَإن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ, فَرُدٌّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ واليَومِ الآخِرِ))، وقال سبحانه: ((ومَـا اختَلَفتُم فِيهِ مِن شَيءٍ, فَحُكمُهُ إلَى اللَّهِ)) [الشورى:10] . (فالشرع المنزل من عند الله تـعالى وهـو الـكـتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله، ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ، ولا يخرج عنه إلا كافر)..(9)
فلا إسلام لمن منح البشر اختصاص الربوبية والرسالة من حق التشريع، والخضوع والإذعان الــتـام لـغـير الله ورســولـــه .. لأن معنى الإسلام - كما بينا - هو الاستسلام لله ورسوله بـالــطـاعــة والخضوع للأوامر الصادرة منهما، ولا يصح إسلام من يتمرد على حــكـم الله ورسوله . (فمعنى الإسلام : الاستسلام والطاعة لشريعة الله ، .. ومعنى عدم الاسـتـسـلام لـهــذه الـشــريـعـــة، واتخاذ شريعة غيرها في أي جزئية من جزئيات الحياة، هو رفـض للاعتراف بألوهية الله سبحانه وسلطانه ، سواء كان هذا الرفض باللسان ، أو بالفعل دون القول)..(10)
بــل المسلم يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون حياته (فالحلال ما أحله الله ورســـولـــه والحرام ما حرمه الله ورسوله ، والدين ما شرعه الله ورسوله)..(11) . وقبول المسلم لشرع الله هو رفض لشرع غيره.. وقبوله لأي جزئية من جزئيات شرع غير الله هو رفض لــشــرع الله في هذه الجزئيات ، وهذا يعني رفض شرع الله كما قال تعالى : ((قُل يَا أَهلَ الكـِـتَـابِ تَعَالَوا إلَى كَلِمَةٍ, سَوَاءٍ, بَينَنَا وبَينَكُم أَلاَّ نَعبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشرِكَ بِهِ شَيئاً ولا يَتَّخِذَ بَعــضُـنـَـا بَعضاً أَربَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ)) [آل عمران:64] ، (ومعنى لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله : أي لا نـطـيـع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا.. بــشــر مـثـلـنــا وهو نظير قوله تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحبَارَهُم ورُهبَانَهُم أَربَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ)) معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم مما لم يحرمه الله ولم يحله الله)..(12)
وعلى هذا فالتحاكم إلى البشر عـن رضـى وطواعية هو خلع لربقة الإسلام من الأعناق ، .. وقبول شريعة أي بشر وتقديمها على الكتاب والسنة هو الكفر بعينه.. فالله هو المشرع وهو الحكم ، وكتابه هو المهيمن، .. والناس ليس لهم مع القرآن والسنة سوى التنفيذ والتطبيق (وقـد نـفـى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بينهم نفياً مؤكداً مكرراً بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى : ((فَلا ورَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَـجَــرَ بَـيـنَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ ويُـسَـلِّـمُـوا تَسلِيماً)).. [النساء 65] وتأمل قوله عز وجل ((فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم)) فإن اسم الموصول (ما) مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وهو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القَدر فلا فرق بين نوع ونوع ، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير)..(13) .
فـقـبـول شــرع الله كـلـه، ورفــض شرع سواه كله هو الإسلام وليس للإسلام حقيقة سواه، (والرضا بالقضاء الديني الشرعي، واجب وهو أساس الإسلام وقاعدته، فيجب على العبد أن يكون راضياً بلا حرج ولا منازعة ولا مدافعة ولا معارضة ولا اعتراض ، قــال تـعـالى : ((فَلا ورَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ ويُسَلِّمُوا تَسلِيماً)).. فالله عز وجل أقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه ، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً ، وهذه حقيقة الرضا بحكمه ، فالتحكيم في مقام الإسلام ، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان ، والتسليم في مقام الإحسان)(14) .
وإذا كان يكفي لإثبات الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله ، فإنه لا يكفي في هذا الإيمان هذا ما لم يصحبه الرضى النفسي والقبول القلبي ، وإسلام القلب والجنان في اطمئنان..(15) ، ولا يجتمع التحاكم إلى غير شريعة الله ، أو رفض التحاكم إلى شريعة الله ، ..لا يجتمع هذا أو ذاك مع الإسلام في قلب عبد بأي حال من الأحوال (ومن رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه ، أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم)(16).. فقبول شرع الله سبحانه يتحقق بعدم رد أمر الله عليه، وقبول شرع غيره يُعرف بعدم الرد ، فإن منع من رفض ورد شــريــعـة غـيـر الله الإكراه، فلا بد من كره القلب، وهذا يعني عدم مظاهرة القائمين على شريعة غير الله.. حاكماً كان أو حزباً أو طبقة .
إن الـمـسـلـم يـلـتزم بمقتضى إسلامه أن يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون حياته، قال تـعــالى: ((ومـَـا كَـانَ لِمُؤمِنٍ, ولا مُؤمِنَةٍ, إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم)).. هذه واحــدة . والثانية أن المسلم ملزم بمتابعة الرسول فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر ، قال تـعـــالى : ((ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا)) وهذا أمر عام في الأمر والنهي، والحلال والحرام، وكذلك في الحكم والاحتكام، قــال تعالى: ((فَـلا ورَبِّــكَ لا يُـؤمِـنُـونَ حَـتَّـى يُـحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ ويُسَلِّمُوا تَسلِيماً)) [ النساء:65]، فهذه الآية تجعل من أساسيات الإسلامº التحاكم إلى شريعة الله ومتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بلغها عن الله .
إن المُشرّع هو الرحمن ، وليس البرلمان..
إن الشريعة هي الكتاب والسنة ، وليس إرادة الأمة..
إن الإسلام عقيدة وشريعة ، وشريعته هي الترجمة الواقعية لعقيدته..
إن الإسلام لا بد فيه من توحيد المُشرِّع ، ومتابعة المُبَلِّغ .
الهوامش :
1- راجع الفتاوى - ابن تيمية جـ 1 ص 335
2- اقتضاء الصراط المستقيم - ابن تيمية ص 4 45 ، التدمرية ص 46
3- شرح الطحاوية - لأبي العز ص 121
4- العبودية - ابن تيمية ص 6
5- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة - ابن تيمية ص 41
6- راجع مجموع الفتاوى لابن تيمية ج 7 ص 561
7- زاد المعاد - ابن القيم جـ 3 ص 42
8- طريق الهجرتين - ابن القيم
9- الفرقان - ابن تيمية ص 65
10- في ظلال القرآن - سيد قطب جـ 2 ص 889
11- اقتضاء الصراط المستقيم - ابن تيمية
12- راجع تفسير البيضاوي والقرطبي والنسفي وابن كثير للآيات .
13- تحكيم القوانين - الشيخ محمد بن إبراهيم ص 650
14- مدارج السالكين - بن القيم جـ 2 ص 192
15- في ظلال القرآن - سيد قطب جـ 5ص 130
16-أحكام القرآن للجصاص جـ 3 ص .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد