حقيقة العبودية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ, أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمدº صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.



أما بعد، فيا عباد الله:

إنكم لتعلمون أن الهوية التي ينطق بها كيان الإنسان أياً كان إنما هي أنه عبد مملوك لله - سبحانه وتعالى -، وصدق الله القائل: {إِن كُلٌّ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ إِلاّ آتِي الرَّحمَنِ عَبداً، لَقَد أَحصاهُم وَعَدَّهُم عَدّاً، وَكُلٌّهُم آتِيهِ يَومَ القِيامَةِ فَرداً} [مريم: 19/93-95] تلك هي هوية الإنسان أياً كان، وثمرة هذه الهوية أن يمارس العبادة لله - سبحانه وتعالى -. مادام أنه عبد مملوك لله - عز وجل -، إذن ينبغي أن يعلم أن مهمته فوق هذه الأرض أن يؤدي ضريبة العبادة لمولاه وخالقه - سبحانه وتعالى -. وصدق الله القائل: {يا أَيٌّها النّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة: 2/21] والقائل: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبٌّكُم فَاعبُدُوهُ هَذا صِراطٌ مُستَقِيمٌ} [مريم: 19/36]. والآيات التي تذكِّر بهذه المهمة والوظيفة في كتاب الله - سبحانه وتعالى - كثيرة وحسبكم منها قوله: {وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 51/56].

ولكن يا عباد الله: أرأيتم إلى البناء المقام على ظاهر من الأرض إنه لا يتماسك إلا إن كان مشدوداً إلى أساس مُقام في باطنها في باطن الأرض. كذلكم العبادة، العبادة كهذا البناء الذي تراه عيناك مُقاماً على ظاهر الأرض، لا بدَّ للعبادة من أساس يمسكها، ويجعل الإنسان مستمراً وثابتاً عليها.



فما هو أساس العبادة؟

أساس العبادة العبودية لله - سبحانه وتعالى -، العبادة سلوك يؤدي من خلاله الإنسان الوظائف التي كلفه الله - عز وجل - بها، ولكن هذا السلوك لا يستمر ولا يستقيم على وجهه السليم إلا إذا كان مُقاماً على أساس. وأساس العبادة التي هي السلوك العبودية التي هي حال يصطبغ بها كيان الإنسان.

ما العبودية أيها الإخوة؟ العبودية أن تعلم أنك لا شيء من دون الله - عز وجل -، وأنك بالله - سبحانه وتعالى - في كل شؤونك وكل أحوالك وتقلباتك وتصرفاتك، عندما تعلم وتستيقن أنك بالله في كل شؤونك وأحوالك فقد اصطبغت بحقيقة العبودية لله - عز وجل -، وهذا ما يفتقده كثير من المسلمين اليوم. هذا هو الأساس الذي يعوزنا في حياتنا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية هذا الأساس. من دون هذا الأساس لا تتحقق عبادة الإنسان عز وجل على الوجه السليم.

وكأنكم تقولون: فكيف السبيل إلى أن أعلم أنني في كل تصرفاتي وشؤوني وأحوالي بالله، وأنني من دون الله عز وجل لا شيء، كيف السبيل إلى ذلك؟

السبيل أن تعود فتقف أمام مرآة هويتك، وأن تتبين كيانك الماثل وراء قفصك الجسدي، تأمَّل، تأمل جيداً وستعلم أنك بالله تبصر الدنيا، ولو أن نجدة الله انفصلت عنك ولو أن نوره الذي به ترى الدنيا انفصل عنك لما رأيت شيئاً، إذا تأملت جيداً في مرآة ذاتك تعلم أنك بالله تسمع كل ما يطرق سمعك أو يطرق الطبلة الصماخية في سمعك. إن تأملت في كيانك فلسوف تعلم أنك بالله تعقل بالنور الذي آتي من لدنه منعكساً إلى حجيرات دماغك تعقل. إذا تأملت في كيانك فلسوف تعلم أنك بالله تُحِس، وبالله تشعر، إذا تأملت في كيانك علمت أنك بالله ترقد وبالله تستيقظ، بالله تتقلب في مختلف أحوالك وشؤونك، تأمل في هذه الحقيقة العلمية تدرك ذلك، إذن من أنت؟ أنت لا شيء إن انبَتَّت عنك صلة الرحمن - سبحانه وتعالى -، وأن كل شيء إن علمت أنك بالله - عز وجل - تتحرك وبالله تبصر وبالله تعقل وبالله تستيقظ وبالله ترقد وبالله تتحرك، نعم، وعندئذ تكون قد اصطبغت بحال العبودية لله - سبحانه وتعالى -، هذا هو أساس العبادة.

عندما يدرك العبد هذا المعنى ويصطبغ بهذه الحقيقة، ثم يغذي هذه الحقيقة بالإكثار من مراقبة الله ومن ذكر الله - عز وجل -، فإن حقيقتين بل ثلاث حقائق تنقدح من هذه الحال الذي تهيمن على كيان الإنسان العبد لله - عز وجل -.

الثمرة الأولى التي تنقدح من شعورك بأنك مملوك لله، أي من شعور العبودية لله في كيانك هي الحبº عندما تعلم أنك بالله وأنك من دون الله لا شيء، عندما تدرك ذلك وتعلم أن كل ما تتمتع به من فَرقِك إلى قَدَمك إنما هو آت بسر إليك من عناية الله وألطافه ونوره، عندما تعلم هذا فإن قلبك يتوجّه بل يتوهج بالحب لهذا الإله الذي به تبصر وبه تسمع وبه تعقل وبه ترقد وبه تستيقظ وبه تتحرك وتقوى.

ثم إن هذا السر بل هذه العبودية التي تصطبغ بها تورثك تعظيم الله - سبحانه وتعالى -، من أنت؟ بل من الناس كلهم؟ بل ما هذه الدنيا كلها من دون الله - سبحانه وتعالى -؟ لاشيء. هذه الحال من العبودية التي هيمنت عليك تملأ كيانك تعظيماً لله - سبحانه وتعالى -، وتدرك من ثم أسرار قوله – سبحانه -: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكاةٍ, فِيها مِصباحٌ} [النور: 24/35] إلى آخر الآية.

هذه العبودية التي تثمر هذه الثمار هي أساس العبادة، هي التي تحملك على السلوك إلى الله - سبحانه وتعالى -، هي التي تحملك على الانقياد التام لأوامر الله - عز وجل - لا لشيء إلا لأن الله أمر، لا لشيء إلا لأن الله - سبحانه وتعالى - نهى، لا لشيء إلا لأن الله يحب منك أن تسير في هذا الطريق.

إذن العبادة بناء لا يتماسك سلوكاً والتزاماً إلا إن أقيم على أساسº أساس العبادة في كيان الإنسان حال العبودية لله - سبحانه وتعالى -، والعبودية كما قلت لكم تثمر حب اللهº تثمر تعظيم اللهº تثمر المهابة والمخافة من الله - سبحانه وتعالى -.



أقول لكم بعد هذا أيها الإخوة:

هذا ما نفتقده اليوم... إنكم لتلاحظون حديثاً لا ينتهي عن الإسلام، واعتزازاً بدين الله - عز وجل -، لا أكاد أجد اعتزازاً مثله في القرون الأولى في عهد السلف الصالح، وأجد دعاوي تنطق بحب الإسلام والتباهي بالإسلام والاعتزاز بالإسلام، لكنني أنظر فأجدني أمام المثل العربي القائل: (أسمع جعجعة ولا أرى طحناً).

نحن نعتز بالإسلام كنظام، نعتز بالإسلام كمنهج حضاري تألق في عصور خلت، ودان لألقه العالم كله، ومن ثمَّ فنحن نتباهى به تراثياً، نتباهى به أمام الآخرين كنسبة نعتز بها، ما الذي ينقصنا؟ تنقصنا العبادةº أن نترجم هذا الاعتزاز إلى عبادة نؤدي بها الواجب الذي خاطبنا الله به، إذ قال: {وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 51/56] لكن العبادة كيف تتحقق؟



لقد كررت هذا الكلام مراراً في مناسبات شتى وأمام فئات شتى، فما رأيت لهذا الكلام الذي رددته كثيراً أي ثمرة، لماذا؟ لأن البناء - كما قلت لكم - لا يُشاد من دون أساس.



أين هي مشاعر العبودية لله؟

أين هي الحال التي يصطبغ بها كياني فأعلم أنني لا شيء بدون الله - سبحانه وتعالى -؟

إذا أبصرت الدنيا أذكر الله وأقول له: حمداً لك يا رب بنورك أبصر الدنيا.

إذا أصغيت السمع إلى ما يروق لي أو إلى ما يفيدني أو إلى أي شيء أحمد الله وأقول له: حمداً لك يا رب بنور منك أصغي السمع وأتبين ما حولي من أصوات وكلام.

وإذا تأملت فوجدتُني أعي وأعقل وأدرك أذكر الله فأقول له: حمداً لك يا رب إنه النور الذي انعكس من الروح الذي أرسلتها إليّ، إلى دماغي فأشرق على الدماغ هذا العرفان الذي أكرمتني به.

أين هي الحال الذي تنتابني إذا تمددتُ على فراشي وأنا أنتظر نعمة الرقاد، فنطق لساني حامداً الله: أي رب كم أنت حفي بي عندما ترسل إلي نعمة هذا الرقاد من حيث لا أشعر، ودون أي قدرة مني؟

أين هي الحال التي تنتابني عندما أستيقظ صباحاً وأشعر أن الإله الحفي بي قد أعاد إلي الروح، فأقول: الحمد الله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور؟

هذه الحال نفتقدها أيها الإخوة على مختلف المستويات، نفتقدها، لو تحققت لازدهرت العبادة سلوكاً في حياتنا لله لا لشيء آخر، ولتحقق معنى الإخلاص في هذا السلوك. لو تحققت هذه العبودية في كياننا اصطباغاً لانقدحت مشاعر المحبة لله سبحانه وتعالى.

لكن - كما قلت لكم - نحن بعيدون منفصلون عن هذه الحال، فما الفائدة إذا وعينا الإسلام أنظمة في كتاب؟ ما الفائدة إذا عددنا أحكام الإسلام كما نعدد مواد لقانون وضعي؟ ما الفائدة أيها الإخوة؟ الإسلام النظام هو كأي نظام آخر، لا يفيدك، جذور الإسلام تتمثل في هذا الذي أقوله لكم.

كلناº شعوبنا الإسلامية وقادتنا بحاجة ماسة إلى أن نعود فنعود إلى حيث المعين، أن نعود فنقف أمام مرآة الذات لنتبين من نحن. من هو الإنسان؟ أنا لا أتحدث عن القفص الجسدي، لعلك تقول: أنا دائماً أقف أمام المرآة وأعرف ذاتي من فرقي إلى قدمي، لا. أنت لم تعرف ذاتك، أنت تتعرف على الوعاء الذي أنت كامن فيه. أنت تتحدث عن الصندوق الذي حبَستَ عينيك في مرآه، اخترق الصندوق إلى داخله، تساءل من هو هذا الكائن الذي يختفي وراء هذا القفص الجسدي؟ عندئذ تعلم.

لا أريد أن أطيل وخير الكلام ما قل ودل. ولكني أسأل الله - عز وجل - أن يمتعنا جميعاً، أن يمتع قادة الأمة الإسلامية وشعوب المسلمين بنعيم عبوديتهم لله - سبحانه وتعالى -، ومن ثم تتحقق كل الأماني وتُحَل سائر المشكلات وينصر الله - سبحانه وتعالى - عباده هؤلاء نصراً مؤزراً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

جزاك الله خيرا

17:07:35 2021-06-10

جزاك الله خيرا