حكم من تحاكم للطواغيت لأخذ حق أو رفع مظلمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



قال - تعالى -: (أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكماً لِقَومٍ, يُوقِنُونَ)





المقدمــة:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فهذا بحث مختصر في نازلة من النوازل التي ألمت بالأمة الإسلامية نتيجة ضعفها وبعدها عن ربها - جل وعلا -، حتى هانت وذلت وصارت غثاءً كغثاء السيل، بل أشد ضعفًا وأوهن نفسًا.

وهي: هل يجوز للمسلم التحاكم إلى القوانين الوضعية لأخذ حقٍ, ثابتٍ, له أو دفع ظلمٍ, واقع عليه، في ظل غياب تحكيم الشريعة في عامة الأرضº خاصةً أنه لا توجد دولة إسلامية تقبل هجرة المسلمين إليها ؟

وبسبب ورود أسئلة كثيرة عن هذه النازلة [1]، عقدت العزم على كتابة بحث مختصر حول هذه النازلة ثم أعرضه على العلماء وطلبة العلم لأستفيد من ملحوظاتهم وآخذ برأيهم.

وآمل من أخي القارئ الكريم ألَّا يظن أنني أحاول أن أبرر للمسلمين التحاكم إلى هذه القوانين الكافرة الظالمة الفاسقة، أو أحثهم على التحاكم إليها - عياذًا بالله - ولكني أبيِّن لمن اضطر لأكل الميتة كيف يفعلº وإن كان أكل الميتة قد يكون أيسر من مسألتنا هذه.



فأقول وبالله التوفيق: إن أي حكم أو أي فتوى ينبغي أن يستند إلى أمرين:

الأول: فهم الواقع ومعطياته.

الثاني: الدليل الشرعي المتضمَّن في الكتاب والسنة أو غيرهما من مصادر التشريع المعتبرة.

وقد بينت من خلال هذا البحث لأخي المسلم الموحد الذي أبغض الشرك وأهله وكفر بالطاغوتº ثم احتاج للتحاكم إليه حيث لم يجد إلا حكمه ماذا يصنعº وإن كنت أقول له: إن فعلك خلاف الأولى، ومن ترك شيئًا لله عوضه خيرًا منه[2].

وفي هذه القضية يجب على المسلم أمرين:

الأول: علمي، وهو الكفر بالطاغوت وبغضه وبغض ما جاء به من الكفر.

الثاني: عملي، وهو أنه إذا ابتلي بالتحاكم إلى هذه المحاكم الوضعية أن يبدأ بالصلح مع غريمهº فإن لم يتيسر هذا حكموا بينهم حاكمًا مسلمًا عالمًا - حسب ما سنذكر - فإن أبى إلا التحاكم إلى الطواغيت، أو كان خصمه ممن لا يردعه إلا المحاكم الوضعية التي في بلادهم، فلا حيلة له إلا دخولها دفاعًا عن نفسه وعرضه وماله من الكفار، بل قد يكون دخوله للمحاكم غيرة على ربه ونبيه ف.

وقد عقد الجويني في كتابه الغياثي فصولًا دعا فيها العلماء والقضاة - عند فقد الإمام القوّام على أهل الإسلام - إلى القيام بمصالح الخلق، وذلك بلجوء أهل كل بلد إلى مجتهديهمº ليحكموا فيهم بأحكام الشرع [3].

وهي صورة لا يمكن تحققها إلا بوجود الجماعة المسلمة الملتفة حول أولئك المجتهدين حتى تصير لهم شوكة يمضون بها أحكامهمº فإن الجويني افترض خلو الزمان من إمام ولم يفترض انفراط عقد الجماعة وتشتت الأمة شذر مذر وتسلط المرتدين وفرضهم أحكامهم على العباد والبلاد، ورفع العلم بقبض العلماء، وترأس الرؤوس الجهال، ولحوق فئام من هذه الأمة بالمشركين وغير ذلك من الدواهي التي دهت هذه الأمة في هذه الأزمة، حتى انطبق فيها كثير مما أخبر به الصادق المصدوق من فتن وأمور تكون بين يدي الساعة، فصار أهل الفضل من المشايخ ونحوهم لا سلطان لهم ولا شوكة تمكنهم من إنفاذ أحكام الشرع لو لجأ إليهم بعض الناس في الخصومات، خصوصًا إذا كان المعتدون من الكفار الممتنعين بشوكة، فإنه لا يستسلم لأحكام هؤلاء المشايخ لو حكموا في هذه الحال إلا من غلب عليهم سلطان التقوى، وانقادوا لسلطان خشية الله، وهذا لا يكون إلا إذا كان الخصوم جميعًا من أهل الورع والإيمان، والذي عم بلاؤه في خصومات الناس ليس مع أمثال هؤلاء، بل هو غالبًا مع من لا يرتدعون بالقرآن ولا وازع لهم من الإيمان، فلا يرعوون إلا بالتخويف بالسلطان وسطوته وعقوباته.



فإذا كانت خصومة المسلم أو الاعتداء عليه أو على عرضه أو ماله أو نفسه وأهله من هذا الصنف الكافر الذي يمتنع عن الاحتكام إلى أحكام الشرع التي يقضي بها بعض المشايخ، ولو حوكم إليهم لما استجاب لأحكامهم ما داموا لا يملكون سلطانًا ينزعون به ما لا ينزعه القرآن والإيمان في نفوس كثير من الخلق، ولا يملكون شوكة أو شرطة وقوة تلزم وتأطر على أداء الحقوق، وتردع المجرمين والمعتدين والعابثينº فكيف يُلزم المسلم المظلوم

- والحال كذلك - باللجوء إلى هؤلاء المشايخ في مثل هذه النوازل، وهم لا يقدرون على رد حقه أو دفع مظلمته، ثم إن اضطر إلى اللجوء إلى شوكة الحكومات أو شرطتها استجارة بهم من كافر أو دفعًا لصولة فاجر يحكم عليه بالتكفير؟!

وإنا هنا لا ندعو إلى تبرير الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم، بل لابد للمسلمين من تعديل هذه الأوضاع بالعودة للتوحيد أولًا، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعظم معروف هو التوحيد وأعظم منكر هو الشرك بكل أنواعه.

فإن دين الله لم يضع الحلول والأحكام والشرائع للأقوياء فقط، بل رفع الحرج عن الأمة عمومًا وراعى ظروف الضعفاء، فلم يكلف نفسًا إلا وسعها، وأباح المحظورات في الضرورات، ورخص بقول الكفر أو فعله في الإكراه ما دام القلب مطمئنًا بالإيمان.



وأولو العزم أنفسهم قد يضطرون في بعض الظروف القاهرة إلى ما يتركونه ويأبونه ويجتنبونه في غيرهاº فإن المسألة ليست دائمـًا مسألة حقوق أو دنيا يتنازل عنها المرء أو يتركها لله عصمة لدينه، بل قد ينال أحدهم في عرضه ويصال على أهله، فالمتتبع لإفرازات هذه المجتمعات الخبيثة في ظل تعطيل أحكام الله - تعالى -وحدوده المطهرة، يرى من القضايا والجرائم - خصوصًا منها ما يتعلق بالتعدي على الأعراض والأنفس - ما لا سعة للناس في التنازل عنه أو الإعراض والسكوت، وما كل أحدٍ, له من القوة أو العشيرة والجاه ما يقدر به على الدفع عن نفسه وعرضه وأهله، أو يجد على ذلك نصيرًا أو مجيرًا يمكنه به الاستغناء عن اللجوء إلى هذه الحكومات التي أمست بيدها القوة والسلطان.

فلابد للفقيه العالم بمقاصد الشريعة ومصالح العباد من مراعاة هذه الأحوال كلها، والنظر فيها عند الكلام في هذه النوازل، وعدم المبادرة بالتكفير فورًا في مثل هذه الأبواب.



خاصة وأن صورة سبب نزول قوله - تعالى -: {أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلاَلاً بَعِيداً{60} وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدٌّونَ عَنكَ صُدُوداً} [سورة النساء] هي صورة غير هذا الذي نتكلم فيه - في ظل عدم وجود سلطان لحكم الله -.



فهذه الآيات نزلت في وقت كان لحكم الله دولة وسلطان، وأعدل الخلق بين ظهراني الناس ينصف المظلوم، ويأطر الظالم على الحق، ويعطي كل ذي حق حقه...كما هو بيِّن في قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدٌّونَ عَنكَ صُدُوداً} [سورة النساء] ومع هذا يُعرض هؤلاء المذكورون في الآيات ويصدون عن حكمه مختارين التحاكم إلى الطواغيت وأحكامهم، سواءً كانوا كهانًا أم يهودًا أم غيرهم، ليحكموا لهم بحسب أهوائهم، وبحسب ما يشتهون.



وقد حاولت جمع شتات البحث على قدر الطاقة فخلصت إلى عدد من الفصول، خصصت الأول والثاني منها كمقدمة لهذا البحث، وقد وضحت فيها معتقد أهل السنة والجماعة في الحكم والتحاكم ووجوب الحكم بما أنزل الله، وكفر من شرّع قوانين وأجبر الناس على التحاكم إليها، ثم بدأت بذكر مسألتنا، وكانت الفصول كالتالي:

توطئة: بينت فيها شيئًا من حال الأمة - أعزها الله -.

الفصل الأول: وجوب التحاكم إلى الشريعة. ويشمل:

- تعريف الحكم والتحاكم.

- علاقة الحكم بما أنزل الله بتوحيد الألوهية.

- علاقة الحكم بما أنزل الله بتوحيد الربوبية.

- علاقة الحكم بما أنزل الله بالرضا بنبوة محمد ف.

- علاقة الحكم بما أنزل الله بأصل الإسلام.

- حقيقة الحكم بما أنزل الله.



الفصل الثاني ويشمل:

- العلماء الذين نقلوا الإجماع على كفر المشرعين.

- من أقوال العلماء في كفر المشرعين

- بيان كفر أعيان المشرعين، وأنه لا تلازم بين الحكم بكفر أعيانهم والخروج عليهم.

- ردود على بعض الشبهات حول التشريع والتحاكم.



الفصل الثالث: حكم التحاكم إلى الطواغيت لأخذ حق أو رفع مظلمة مع عدم وجود حكم الله - وهو محل البحث - ويشمل:

- صور ليست محل البحث.

- الصورة التي بين أيدينا.

- التحكيم قبل التحاكم.

- أقوال أهل العلم في المسألة.

- اعتراض والجواب عليه.

الترجيـح.

الخاتمــة.

وأسأل الله أن يوفقني وإخواني المسلمين إلى ما يحب ويرضى.. آمين



-----------

[1] وصلت أسئلة كثيرة بهذا الشأن، منها سؤال لأخت أمريكية الأصل تزوجت من سوري -متجنس بالجنسية الأمريكية- ثم تنازعت معه فضربها وهجرها، تقول: وهذا من سنتين، ولم يقبل أن نتحاكم إلى المركز الإسلامي، ولو رفعت أمري إلى القاضي لسجنه على ضربه لي وعوقب، وسيطلقونني منه ويحكم لي بنصف ماله، وأنا لا أريد إلا الطلاق والنفقة على الأولادº فهل لي أن أتحاكم إليهم؟؟

وسؤال آخر من أمريكا، يقول فيه السائل: بعد أحداث سبتمبر بستة أشهر فوجئنا بدخول أحد الأمريكان على مسجدنا بشاحنته فهدم المسجد، ومن لطف الله - تعالى -أنه دخل قبيل صلاة الظهر وإلا لدهس عددًا من = = المسلمين، فهل نرفع دعوى ضده للمحاكم أم لا؟؟ وإذا علم الأمريكان أننا لا نتحاكم إلى الكفار فسيؤذوننا جدًا؟؟

وورد كذلك سؤال لأخ لاجئ سياسي في أوربا أخذ عليه تعهد ألا يضرب ولده، فلما ثبت عندهم أنه ضربه مرة ثانية أُخذ ولده وبنته إلى الكنيسة وهما دون العاشرة، فهل له رفع دعوى لأخذ ابنيه أم يتركهما للكنيسة؟؟

ولو سردت ما وصل من الأسئلة لسودت صفحات كثيرة.

[2] هذا في حال فقد المال أما عند تعرض النفس أو العرض للانتهاك فقد يكون هو الأولى.

[3] الغياثي - الجويني - ت:عبد العظيم الديب - الثانية - (1401هـ) (ص: 387).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply