أبواق النفاق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله - تعالى -حقَّ التقوى.

عبادَ الله، بعثَ الله عبدَه ورسوله محمّدًا بالهدَى ودين الحقِّ، برسالةٍ, عامّة لجميعِ الثّقلين، وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ [سبأ: 28]. بعثه الله ليجدِّد به ما اندرَسَ من الملَّةِ الحنيفيّة، ثُمَّ أَوحَينَا إِلَيكَ أَن اتَّبِع مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِن المُشرِكِينَ [النحل: 123]. بَعثه بهذا الدِّين القويمِ فأكملَ بهِ الدّينَ وأتمّ بهِ النّعمة ورضيَ [لَه] الإسلامَ دينًا، الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَن هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف: 43].



أيّها المسلم، والخَلقُ حيالَ ما بعَث الله به نبيَّه مِن الدّين والهدَى ودينِ الحقّ انقسَموا إلى أقسامٍ, ثلاثة:

فمنهم مؤمنٌ آمَن بهذا الدّين ظاهرًا وباطنًا، صَادقٌ في إيمانه، فإيمانه ظاهرًا وإيمانه باطنًا، فسِرّه وعلانيتُه مستويَان في هذا الأمر، وهم الذين سبقَت لهم منَ الله السعادة، فشرح الله صدورَهم للحقّ وقبِلوا به واطمأنَّت بذلك نفوسهم، أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدرَهُ لِلإِسلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ, مِن رَبِّهِ [الزمر: 22].



ومِن عبادِ الله من كفَر بهذا الدّين ظاهرًا وباطِنًا، وانتصبَ عدوًّا وخصمًا لهذا الدين، وقد أوضحَ الله صفاتِ الكافرين، وأمرهُم واضح جليّ.



وفئةٌ من الناس آمنوا بهذا الدين ظاهرًا وكفروا به باطِنًا، آمنت ألسنتُهم وكفَرَت قلوبهم، فهم يتظاهَرون بالإسلامِ وينتسِبون إلى الإسلام، ولكنّ أعمالَهم وأقوالهم تضادٌّ الإسلام وتنافي الإسلام، فإيمانهم ظاهرًا وفي باطن الأمر اللهُ يعلم ما انطوَت عليه قلوبُهم، \" وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إِنَّا مَعَكُم إِنَّمَا نَحنُ مُستَهزِئُونَ \" [البقرة: 14]، \" وَمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ \" [البقرة: 8، 9].



أيّها المسلم، هذه الفرقةُ من النّاس أضرٌّ على الإسلامِ وأهلِه من كافرٍ, أعلن كفرَه وعداوتَه وضلالتَه، فذاك أمرُه واضح، ولكنِ المصيبةُ من تلبّسَ بالمسلمين وتظاهَر أنه مِنهم والله يعلَمُ أنه خارجٌ عنهم وعن سبيلِهم، وهذا ما يُسمَّى بالنفاقِ الذي كان سلفُنا الصالح يخافونَه على أنفسِهم، فكان المؤمِنون السابقون يخافون على أنفسِهم من هذا النوعِ من النفاقِ، أعني النّفاقَ الاعتقاديّ، يخافون منَ النفاق عمَلِه واعتقادِه، حِرصًا على إيمانهم وخَوفًا على إسلامِهم، قال بعض السّلف: \"أدركتُ ثلاثين مِن أصحابِ محمّد كلٌّهم يخاف النفاقَ على نفسِه، ما منهم من يقول: إنَّ إيمانَه كإيمان [جبريل وميكائيل]\"[1]، وقال الحسن - رحمه الله -: \"ما خافَ النّفاقَ إلاَّ مؤمنٌ، وما أمِنه إلا منافق\"[2]. هذا الخوفُ على أنفسهم من أن تكونَ أعمالهم منافيةً لما عملوا فيكون العملُ خلافًا للمعتَقَد.



أيّها المسلم، إنّ الله جل جلاله ذكر في كتابِه العزيز صفاتِ المؤمنين وصفاتِ الكافرين وصفاتِ وأخلاقَ المنافقين لنحذرَها ونبتعِدَ عنها. قد يسأل سائلٌ فيقول: هذا النفاقُ هل هو خاصّ بمن كان في عهدِ النبيّ أم هذا النفاقُ عامّ؟ والجواب أنّه عامّ لكلّ من تخلَّق بأخلاقِهم واتَّصفَ بصفاتهم وعمِل بأعمالهم.



أيّها المسلم، إنّ أعمالَ القلوب لا يعلمُها إلاَّ علاّم الغيوب، ولكنّ الله - جل وعلا - قد يظهِر ما يسِرّه العبد على فلتَاتِ لسانه، ويظهَر أيضًا من تصرٌّفاته وأعمالِه، قال - تعالى -: \" وَلَو نَشَاءُ لأَرَينَاكَهُم فَلَعَرَفتَهُم بِسِيمَاهُم وَلَتَعرِفَنَّهُم فِي لَحنِ القَولِ وَاللَّهُ يَعلَمُ أَعمَالَكُم \" [محمد: 30]. أجَل، تعرفُهم في لحنِ القولِ، تعرِفهم من خلالِ كلامِهم وأقوالهم ودِعاياتهم وما يقولونَه ويتحدّثون به.



أيّها المسلم، فليَكن حذرُك من النفاق عَظيمًا، واسألِ الله الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه.



إنَّ من أخلاقِ المنافقين كراهيةَ أحكامِ الله ورسولِه والرضا بالقوانينِ والأنظمَة الوضعيّة عِوَضًا عن شرع الله الكاملº ذلك أنّ المنافقَ يرَى أنّ أحكامَ الشّرع ظالمةٌ جائرة، ويَرى أن أنظمةَ البشر وقوانينَهم عادِلةٌ منصِفَة، وتلك ـ والعياذ بالله ـ علامةٌ من علامات النّفاق، \" أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدٌّونَ عَنكَ صُدُودًا \" [النساء: 60، 61]، وقوله: \" وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم إِذَا فَرِيقٌ مِنهُم مُعرِضُونَ وَإِن يَكُن لَهُم الحَقٌّ يَأتُوا إِلَيهِ مُذعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَم ارتَابُوا أَم يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيهِم وَرَسُولُهُ بَل أُولَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ \" [النور: 48-50].



مِن علاماتِ المنافقين تفضيلُهم أهلَ الضّلال وطريقةَ أهلِ الضّلال على أهلِ الإسلام، فيرَونَ الكافرَ الضالَّ سبيلُه وأعماله أفضلُ من أهل الإيمان مطلقًا، قال - جل وعلا - في كتابِه العزيزِ مخبِرًا عنهم في قوله: \" وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً \" [النساء: 51]. فهم يفضِّلون طريقَ المغضوبِ عليهم والضالّين على طريقةِ أهلِ الإسلام والإيمانº لأنهم كافِرون بذلك في قلوبهم، فيرونَ طريقةَ أهل الكفر والضلال أفضلَ من طريقةِ أهلِ الإسلام.



ومِن صفاتهم أنَّهم أمَرَةٌ بالمنكر نُهاةٌ عن المعروفِ، فهم دعاةٌ لكلِّ رذيلة حربٌ على كلِّ فضيلة، \" المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَن المَعرُوفِ وَيَقبِضُونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم \" [التوبة: 67].



مِن أخلاقِ المنافقين فرَحُهم بذلِّ الإسلامِ وأهلِه وسرورُهم يضعفِ الإسلام، قال - جل وعلا -: \" إِن تُصِبكَ حَسَنَةٌ تَسُؤهُم وَإِن تُصِبكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَد أَخَذنَا أَمرَنَا مِن قَبلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُم فَرِحُونَ \" [التوبة: 50].



مِن أخلاقهم السّخريةُ بالإسلام وأهلِه والاستهزاءُ بأحكامِه والتنقٌّص لمبادئِه والطّعنُ فيه بكلِّ سبيل.



من أخلاقِهم الذميمةِ أنهم كُسالى عن الخيرِ، ولذا قال - جل وعلا -: \" وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء: 142]. وهم لا ثباتَ لهم، مُذَبذَبِينَ بَينَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ \" [النساء: 143].



ومِن أخلاقهم أنَّ قلوبَهم وأيدِيَهم مع أعداءِ الإسلام ضدَّ الإسلام وأهلِه، أَلَم تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِم الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا أَبَدًا [الحشر: 11].



مِن أخلاقِهم تلوٌّنُ أحوالِهم، فلا ثباتَ لهم على أمرٍ,، بل هم متغيِّرو الفِكر دائمًا، قال - تعالى -: \" وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم وَإِن يَقُولُوا تَسمَع لِقَولِهِم كَأَنَّهُم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ, عَلَيهِم هُم العَدُوٌّ \" [المنافقون: 4].



مِن أخلاقِهم وصفُهم أهلَ الإسلام بالذّلِّ والهوان، ووصفُهم أعداءَ الإسلام بالعزّةِ، قال - تعالى -: \" يَقُولُونَ لَئِن رَجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأَعَزٌّ مِنهَا الأَذَلَّ قال - تعالى -: وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ \" [المنافقون: 8].



أيّها المسلم، كم نسمَع وكم نقرَأ من أناسٍ, يكتُبون وينشُرون مقالاتٍ, تضادٌّ الإسلامَ وأهله، كم ينشُرون وكم يكتبون وكم يذيعونَ أقوالاً تضادٌّ الإسلام وأهلَه، تفوَّهت ألسنةُ أولئك بما انطوَت عليه قلوبُهم من العداءِ لله ورسولهِ وكراهيةِ ما جاء به محمّد، قال - تعالى - عَنهم: \" ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُم فِي بَعضِ الأَمرِ وَاللَّهُ يَعلَمُ إِسرَارَهُم \" [محمد: 26].



تأمَّل كتاباتِهم، وتأمّل ألفاظَهم، واستمِع إلى ما يذيعون ويقولونº لتعلَمَ حقيقةَ أمر أولئك.



إذا جاؤوا يتحدَّثون عن قضايا الأمّة تحدَّثوا عنها من منطلَقٍ, سيّئ ومن تصوٌّر خاطِئ ومن رأيٍ, ضالّ ومن عقيدةٍ, باطلة والعياذ بالله. خُذ مثلاً أنّهم يطعَنون في أحكامِ الله، ويزعُمون أنّ الشرعَ لا يصلح لهذه العصور، وأنّ شرعَ الله الذي بعَث به خاتمَ أنبيائه ورسله قد انتهى دورُه في الحياة، فلا مجالَ له في الحياة، لماذا؟ لأنّه الشرع الذي جاء عن ربِّ العالمين، وفي قلوبِهم مقتٌ لهذه الشريعة وكراهيّة لها وبُغض لها، فيرونَ أنّ الشرعَ قد انتهى دورُه في الحياة. إذًا بماذا تحكَم البشريّة؟ وبمَ تنظَّم أحوالها؟ إنما هو دعوةٌ لتنظيمٍ, قانونيٍّ, كافرٍ, بعيدٍ, عن الإسلامِ وأهلِه وتعاليمِه الصّالحة.



انظُرهم إذا تحدَّثوا عن نظُمِ الحياة ومناهجِ تعليم الأمة تحدَّثوا من منطلقٍ, خبيث، فيَصِفون مناهجَ الأمّة وتعليمَ الأمّة بأنه الإرهاب وبأنه وبأنه..لماذا؟ يريدون أن نربِّيَ أجيالَنا حاضِرًا ومستقبلاً على غيرِ الدين، يريدون أن ينشَأ النشءُ لا يعرِف الدينَ وأهلَه، ولا يعرِف أصولَه ولا فروعَه، منقطعًا عن دينِه، مبتور الصّلةِ بماضيه، لا علاقةَ له بماضيهِ بأيِّ صِلَة، هكذا يدعو أولئك.



إذا تحدَّثوا عن وحدةِ الأمّة واجتماع كلِمتها أرادوا أن يجعَلوها وحدةً بعيدة عن الدين قائمةً على غيرِ أصولِ الشرع، والله يقول لنا: \" وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبٌّكُم فَاتَّقُونِ \" [المؤمنون: 52].فأمّتنا الحقّةُ هي الأمّة المجتمِعة على دين الله المنطلِقة من توجيهِ محمّد، أمَّا وحدَةِ على غيرِ هذا الدين فوحدَةٌ على أمرٍ, لا يثبُت ولا قرارَ له.



إذا تحدَّثوا عن قضايا المرأةِ المسلِمة أتوكَ بكلِّ غريب، وكأنهم يغيظُهم أن يرَوا في المسلماتِ متحجِّبةً عفيفة صيِّنة، يريدون خَلعَ جلبابِ حيائها، ويريدون تذويبَ شخصيّتها، ويريدون القضاءَ على حيائها وفضيلتِها، يسرٌّهم هذا الأمرُ المشين والعياذ بالله.



إذا تحدَّث أولئك عن ملتَقَياتِ الأمّة ومجتمعاتها وأنديَتِها وكيف تخدم هذه الأنديةُ قضايا الأمة رأيتَهم [يجولون ويصولون]، لكنّهم أحيانًا قد لا يصرِّحون، لكن فلتَاتُ اللّسان تدلّ على أنهم يريدون للأمّة نقلةً من دينٍ, وخلُق واستقامةٍ, إلى آراء شاذّة علمانيّة بعيدة عن الإسلام وتعاليمِه الخالِدَة.



أيّها المسلم، أيّها الكاتب، أيّها الناشر، اتّقِ الله فيما تقول وتتحدّث، وليعلَم العبدُ أنّ الله مجازيه ومحاسبُه عن ألفاظِه التي يقولها، فإن يكن يقول حقًّا فليحمدِ الله، وإن قال باطلاً فليعلَم أنّ الله محاسبُه عن ذلك، مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ, إِلاَّ لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]، ((وإنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلِمة من سَخط الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغَت، يكتُب الله له بها سخطَه إلى يومِ يلقاه))[3].



إنَّ النفاقَ وأهلَ النفاق للأسَف الشديد بدأت ألسِنتهم تنبسِط في الإسلام وأهلِه، وبدَؤوا يقولون ويقولون باسم حرّيّة الرّأي والنشر، لكنها وللأسفِ الشديد استُغِلّت في حربِ الإسلام والطّعن في مبادئه وقِيَمه وفضائله وأخلاقِه التي شرَّف الله بها الأمّةَ ورفع قدرَها بهذا الدّين وحده.



فالأمّة لا عزَّ لها ولا كرامةَ لها ولا ثباتَ لها إلاَّ إذا كان شرعُ الله نظامَها في كلِّ أحوالها والتقت قلوبها على الدّين وتعاليمه الخالدة، إنّ الله يقول: \" فَمَن اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلٌّ وَلا يَشقَى \" [طه: 123]، فالمستَمِع لهدَى الله ليس ضَالاًّ ولا شقيًّا، بل هو مهتَدٍ, وسعيد، \" وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى \" [طه: 124]، هكذا حالُ من أعرضَ عن دين الله.



فليتَّقِ الله أيٌّ قائل يقول، وليتَّقِ الله من يتحدَّث ويلقي ويُعِدّº أن يعلمَ أنّ الله سائلُه ومحاسِبهº لأنّ هذا الدين أمانةٌ في أعناقِ الأمّة، وكلٌّ إنسانٍ, سيُسأَل يومَ القيامة عمّا قال وتحدّث.



كم مِن أناسٍ, يدّعون ويدّعون وإذا أصغيتَ إلى أقوالهم وجدتَ ـ والعياذ بالله ـ فيها شطَطًا وبعدًا عن الهدى، وما كأنَّ أولئك عاشوا بينَ المسلمينº يحمِلون الحِقدَ على الإسلام وأهلِه وعلى تعاليمه وعلى مبادِئه وعلى قيَمِه وعلى فضائلِه وعلى محاسِنِه، وكأنَّهم جنودٌ مجنّدة مِن أعداء الدين لهدمِ هذا الدين واقتِلاعه من قلوبِ العِباد.



فليحذرِ المسلمون هذا النفاقَ، هذا النّفاقُ بعَينِه، نفاقٌ وإن ادّعى أهلُه وأنِ ادَّعى المتكلِّم والقائل ما ادّعى، فإنَّ كلَّ قولٍ, ينافي هذا الدينَ وكلَّ قولٍ, يعادي هذا الدينَ وفضائله وقيَمَه وأخلاقه فإنَّ ذلك يصدُر من إنسانٍ, غيرِ مؤمِنٍ, حقًّا.



فلنتَّق اللهَ في أنفسنا، ولنتمسَّك بدينِ الإسلام الحقّ، ولنعلَم أنّه لا سعادَةَ ولا عِزّ ولا نصرَ ولا استقامةَ ولا استقرارَ للأمة إلاَّ إذا كان دينُ الله يحكُم بينها في كلِّ أحوالها، إلاَّ إذا كان شرعُ الله هو المنظِّم لحياتها في كلِّ شؤونها وأحوالها.

نسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه، وأن لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.



----------------------------------------

[1] القائل هو أبو بكر ابن أبي مليكة، علقه عنه مجزومًا به البخاري في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ووصله المروزي في تعظيم قدر الصلاة (688) من طريق الصلت بن دينار عنه لكن فيه: \"أدركت زيادة على خمسين\"، قال ابن رجب في فتح الباري (1/195): \"في الصلت ضعف\". وله طريق آخر عن ابن جريج عنه، رواه البخاري في التاريخ الكبير (5/137) والخلال في السنة (1081). قال ابن حجر في الفتح (1/110): \"وصلهُ ابن أبي خيثمة في تاريخه، لكن أبهم العدد. وكذا أخرجه محمّد بن نصر المروزيّ مُطوّلاً في كتاب الإيمان له، وعيّنه أبو زُرعة الدّمشقيّ في تاريخه من وجه آخر مختصرًا كما هُنا\".

[2] علقه عنه البخاري في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قال ابن رجب في فتح الباري (1/195): \"هذا مشهور عن الحسن صحيح عنه\"، وقال ابن حجر في الفتح (1/111): \"هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة\".

[3] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: \"وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).



الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.

سأل أميرُ المؤمنين عمر بنُ الخطاب - رضي الله عنه - حذيفةَ بن اليمان صاحبَ سرِّ رسولِ الله فقال: يا حذيفة، أسألك بالله هل عدَّني لك رسولُ الله من المنافقين أم لا؟ قال: لا، ولا أزكّي أحدًا بعدك[1].

فهذا عمَر الفاروقُ ثاني خلفاءِ رسول الله، هذا عمَر يخشى أن يكونَ في أعمالِه نفاق، ويسأل حذيفةَ: هل عُدَّ من المنافقين أم لا؟ مع أنه من المجاهدين الصادقين، لكن حبٌّ الإيمان وكراهية الشرِّ جعلَتهم يخافون على إيمانهم، ويسألونَ الله الثباتَ على إيمانهم، ويحاسِبون أنفسَهم عن أقوالهم وأفعالهم.



قال بعض السلف: \"ما عرضتُ عملي على قولي إلاَّ خشيتُ أن أكونَ كاذبًا\"[2]، كلٌّ ذلك حِرصًا على الإيمان، حِرصًا على هذا الدّين. نسأل الله أن يثبِّتنا وإيّاكم عليه أقوالاً وأعمالاً، وأن يجعلَنا صادقين في إيماننا ظاهرًا وباطنًا.



وأحذِّر إخواني المسلمين منَ المنافقين وأخلاقِهم وصفاتهم وأعمالهم السيّئة ومقالاتهم الخطيرة وكتاباتهم الضالّة المنحرفة من أقوامٍ, يحسَبون على الإسلام وأهله، وأنهم كُتّاب وأنهم وأنهم.. ولكن إذا سمعتَ الأقوالَ وأصغيتَ إلى بعض الألفاظِ وجدتَ ـ وللأسفِ الشديد ـ ما يحزِن القلبَ ويؤلم نفسَ كلِّ مسلم من ألفاظٍ, سيّئة وأقوالٍ, خطيرة وانخداعٍ, وانبِهار لما لدى الأعداء، وزُهدًا في هذه الأخلاق الإسلاميّة وبُعدًا عنها، بل ألفاظ تأتي كثيرة لا ترى فيها ذِكرًا لله ولا اسمًا لله، وإنما هي ألفاظٌ فيها منَ الشرّ والخُبث ما الله به عليم.

فنسألُ الله الثباتَ على الإسلام، \" رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيتَنَا وَهَب لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ \" [آل عمران: 8]. اللهمّ مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك.



واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعةِ، ومن شذّ شذّ في النّار.



وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمرَكم بذلك ربكم، قال - تعالى -: \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب: 56].

اللهمّ صَلِّ وسَلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الرّاشدين...



----------------------------------------

[1] انظر: سير أعلام النبلاء (2/364).

[2] القائل هو إبراهيم التيمي، علقه عنه مجزومًا به البخاري في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ووصله في التاريخ الكبير (1/334)، والفريابي في صفة المنافق (95)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة والجماعة (1580)، وأبو نعيم في الحلية (4/211)، قال ابن رجب في فتح الباري:\"هذا معروف عنه، وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه\".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply