بسم الله الرحمن الرحيم
\'المسيح ولد يهوديا\'
لقد رأينا في الحلقة الماضية أن تناقضات\"الكتاب المقدس\"في نظرته لليهود ظلت مأزقا ذهنيا وخلقيا للمسيحيين على مر العصور. فلنر الآن كيف انعكست هذه التناقضات على عقل ماتن لوثر (1483-1546) مؤسس المذهب البروتسنتي، وأعظم المصلحين أثرا في تاريخ المسيحية خلال القرون الستة الماضية. خصوصا وأن المسيحية الصهيونية ظاهرة بروتستنتية في أساسها.
لقد برز لوثر في التاريخ المسيحي باعتباره الرجل الذي خلص المسيحيين من سلطات البابا الكنسية، وردهم إلى حرية الدين والتعاطي المباشر مع النص، دون وصاية من رجال الكنيسة. وقاد لوثر الانشقاق الذي انتهى بظهور المذهب الروتستنتي الذي يدين به اليوم أغلب الأمريكيين والبريطانيين والألمان.
بدأ مارتن لوثر ذو الأصل الألماني ثورته ضد البابا في روما بعد أن انتشرت ظاهرة بيع\"صكوك الغفران\"على يد الباباوات، واعتبر لوثر هذه الظاهرة تحويلا للدين إلى تجارة دنيوية تافهة، وتحريفا له عن قصده. وعبر عن ذلك بصياغة ثيولوجية فلسفية في كتابه\"الأطروحات الخمس والتسعون\"95 Theses.
وفي خضم خصومته مع البابا، وتتبع عوراته، وجد لوثر أن من الأفضل له التقرب إلى اليهود، فانتقد موقف السلطة البابوية منهم، والتعامل معهم على أنهم\"كلاب لا بشر\"حسب تعبيره. وكتب حول هذا الموضوع كتيبا صغيرا يحمل عنوانا ذا دلالة أصبح فيما بعد أحد الشعارات الأساسية لدى أتباع المسيحية الصهيونية. كان عنوان الكتيب:\"كون يسوع المسيح ولد يهوديا\"That Jesus Christ was Born a Jew.
كانت دوافع مارتن لوثر في ذلك الموقف دوافع تنصيرية إلى حد ما، فهو يجادل في كتيبه بأن التعامل الفظ الذي تمارسه السلطة الكنسية ضد اليهود هو الذي ينفرهم من المسيحية، ويجعلهم يفضلون البقاء على دينهم. وحتى حينما يقرر بعضهم اعتناق المسيحية فإنه يجد نفسه تحت طغيان الكنيسة وابتزازها، فيندم على هجر دينه الأصلي.
يقول لوثر:\"سوف أسوق النصوص الواردة في الكتاب لمقدس، التي تدل على أن يسوع المسيح كان يهوديا، ولد من امرأة عذراء، ولعلي بذلك أكتسب بعض اليهود لاعتناق العقيدة المسيحية. إن الحمقى منا، أعني الباباوات والقسس وعلماء الدين ذوي القلوب الفظة تعاملوا مع اليهود بطريقة جعلت كل من يأمل أن يكون مسيحيا مخلصا يتحول إلى يهودي. لو كنت يهوديا ورأيت كل هؤلاء الحمقى يقودون ويعلِّمون العقيدة المسيحية، فسأختار على البديهة أن أكون خنزيرا بدلا من أن أكون مسيحيا. لقد تعاملوا مع اليهود على أنهم كلاب لا بشر\".
ويتابع مارتن لوثر كاشفا عن دوافعه التنصيرية وراء التعاطف مع اليهود:\"آمل أن الواحد منا لو تعامل مع اليهود برفق، وعلمهم بكياسة من خلال الكتاب المقدس، فيتحول العديد منهم إلى مسيحيين مخلصين، ويرجعون إلى دين آبائهم من الأنبياء والأسباط\". وينهي لوثر طرحه الذي كان غريبا على المسيحية يومذاك بالدعوة إلى التعامل مع اليهود\"لا بقانون البابا بل بمحبة المسيح\".
لكن أهم فكرة في هذا الكتيب بالنسبة لموضوعنا – موضوع المسيحية الصهيونية – فهي قول مارتن لوثر مخاطبا المسيحيين:\"قبل أن نتفاخر بموقفنا يجب أن نتذكر أننا مجرد\"أغراب\"Gentiles أما اليهود فيتصل نسبهم بالمسيح، نحن غرباء وأباعد، أما هم فأقارب وبنو عمومة وإخوة للرب\".
وطرح هذه الفكرة في كتاب لوثر تدل على أن لوثر وقع تحت تأثير تضلعه بالعهد القديم والنصوص العبرانية الأخرى، فازدحمت المشاعر والمواقف من اليهود في عقله وقلبه، من الحقد الدفين إلى المحبة الهوجاء.
ومن الواضح أن مارتن لوثر لم يكن يدرك قيمة الأفكار التي طرحها، وأثرها التاريخي الآتي، وخصوصا فكرة\"كون المسيح ولد يهوديا\"التي طورها أتباع لوثر من رجال الدين البروتستنت حتى أصبحت تعني عندهم اليوم من ضمن ما تعنيه:
• أن اليهود هم أهل المسيح وعترته، فلهم ذمة وحرمة خاصة بسبب ذلك، تقتضي دعمهم وخدمتهم و\"تطييب خواطرهم\"كما ورد في العهد القديم.
• أن اتهام اليهود بسفك دم المسيح ليس واردا، كيف وهم أهل القرابة والرحم. وكل نصوص الإنجيل الواردة في ذلك يجب تأويلها أو ردها.
• أن اليهود\"أبناء الرب\"– هكذا يقول المسيحيون الصهاينة اليوم حرفيا – شأنهم شأن المسيح الذي هو ابن الله عند المسيحيين (- تعالى - الله عن ذلك).
• أن اليهود هم الشعب المختار – كما يقولون عن أنفسهم – ولا بد من قبول ذلك، والقول بأن المسيحيين احتلوا تلك المكانة بمجيء المسيح قول مردود.
ومن الواضح أن مارتن لوثر لم يقصد مد فكرته إلى كل هذا المدى، وما كان في وسعه ذلك، وهو ابن عصره، العصر الوسيط الأوربي.. لكن الفكرة ملك للقراء إذا خرجت من قلم الكاتب كما يقال. بل إن لوثر هو أول من تخلى عن أفكاره الواردة في كتيبه هذا، فكتب في أواخر أعوام حياته كتابه المعنون\"عن اليهود وأكاذيبهم\"On Jews and their Lies وهو يعتبر أشد الكتب على اليهود خلال قرون عدة، وأبعدها أثرا في النفسية المسيحية المعادية لهم.
لكن اليهود أدركوا قيمة الفكرة التي طرحها لوثر في كتيبه\"كون اليهود ولد مسيحيا\"وعرفوا أنها تحمل بذور انقلاب تاريخي في النظرة المسيحة إلى اليهود. لذلك يذكر بعض مؤرخي المسيحية أن اليهود نشروا الكتيب ووزعوه على نطاق واسع في أوربا، بل أوصلوه إلى فلسطين.
لقد فتح مارتن لوثر ثغرة في تاريخ المسيحية ظلت تتسع حتى اليوم، ولذلك لا عجب أن نجد اليوم مقولة\"المسيح ولد يهوديا\"من أكثر المقولات تواترا على ألسنة المسيحيين الصهاينة. وذلك حديث آخر لم يحن وقته بعد على أية حال.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد