بسم الله الرحمن الرحيم
من العجيب أن النصارى مع إيمانهم بهذه العقيدة رغم بطلانها يقرون بأنها فوق طاقة العقل البشري، وفوق إدراكه، وأنه من الصعب عليهم أن يحاولوا فهم هذا الأمر بعقولهم القاصرة، وأن كل ما يمكنهم إيضاحه حول كيفية وجود ذات الله في ثلاثة أقانيم وأن كلا منهم ممتاز عن الآخر في الأقنومية لا في الجوهر، فهم جوهر واحد، وطبيعة واحدة، وإله واحد، ولكل واحد منها صفات اللاهوت...
وقد حاول علماؤهم وفلاسفتهم مراراً وتكراراً إيضاح ثالوث الوحدانية هذا فلم يفلحوا، لأن ذلك فوق طاقة عقولهم، وصرحوا بأنه سر من الأسرار الإلهية يستحيل فهمه وإدراكه، ولا يجوز لهم أن يتفلسفوا في تفكيك هذا السر أو تحليله، أو يلصقوا به أفكار من عندياتهم، وكل من يحاول إدراك هذا السر الثالوثي فهو كمن يحاول أن يضع مياه المحيطات كلها في كفة.يقول الدكتور دونالديماري:
\" لو واجهنا الحقائق بأنصاف لتحتم علينا القول بأن عقيدة التثليث لا يمكن تفسيرها بل يجب قبولها كحقيقة لاهوتية \".
وقد يتكفل المستقبل بإيضاح سر الثالوث هذا وبيانه بواسطة النور الإلهي، وذلك يوم الكشف عن البصائر لكل ما في السموات والأرض، أمام الحضرة الإلهية. كما يزعمون.
وإنا لنعجب إذا كان هذا هو حال علمائهم ورجال الدين منهم فما هو يا ترى حال بسطائهم وعامتهم، إذا ما حاولوا أن يفهموا عقائدهم.
وكفى فساداً بعقيدة يؤدي اعتقادها إلى المحال باعتراف أصحابها.
والواقع أن هناك فرقا بين ما يحكم العقل باستحالته كالتثليث، وبين مالا يستطيع العقل إدراكه، وعقيدة التثليث مما أثبت العقل تناقضها مع الحس والمنطق، هذا التناقض الذي يبدوا فيما يأتي:
أولا: يبدوا تناقضهم واضحاً بين ما أثبتوه في أمانتهم، وبين ما يعتقدونه، حيث اتفقوا على أن الأب والابن وروح القدس إله واحد، أي أن الباري جوهر واحد ثلاثة أقانيم. بينما الأمانة التي اتفقوا عليها أوضحوا فيها أن ذات الابن غير ذات الأب وهما معا غير الروح القدس. وبذلك خالفوا ما يعتقدونه من أنهم إله واحد في ثلاثة أقانيم، وتناقضوا، حيث جعلوا جوهر البدن شيئا معبودا وليس من الثلاثة، فأثبتوا بذلك تربيعا لا تثليثا. وفي ذلك يقول أبو عبيدة الخزرجي مخاطبا النصارى:
\" قد اتفقتم على أن أقانيم: الأب والابن والروح القدس غير مختلفة، بل هي واحد، فإذا كان هذا فالأب هو الابن وهما مع الروح القدس شئ واحد. وقلتم: وهذا توحيد. فلم خصصتم المسيح بالابن ولم تقولوا هو الأب، وقد قلتم: أن الأب والابن والروح القدس شئ واحد؟ ثم جعلتم جوهر البدن شيئا معبودا وليس من الثلاثة، فهؤلاء إذن أربعة، وقد بطل التثليث وصار تربيعا، فإن أبيتم إلا ثلاثة فقد جعلتم نفي العدد وإثباته سواء، وكابرتم العقول \".
وبنفس الرأي يورد ابن كمونة على لسان مخالفي النصارى بطلانا عقليا على التثليث فيقول: لمخالفي النصارى أن يقولوا: إن هذه الأقانيم التي ذكرتموها: إن كان مرادكم بها ذوات ثلاثة قائمة بأنفسها فبرهان الوحدانية يبطله، وهو أيضا على خلاف معتقدكم في التوحيد، وإن كان مقصودكم أنها صفات، أو أحدهما ذات والباقيتان صفتان، فهلا جعلتم صفة القدرة أقنوما رابعا؟
وكذا سائر ما يوصف به سائر الله - تعالى -أقانيم؟ فإن قالوا: قدرته هي علمه، قلنا: وحياته أيضا هي علمه، فلم أفردتموها أقنوما؟
…ولو كان المراد بقولكم: إن الباري - سبحانه - جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أنه ذات عالمة حية، أو ذات عاقلة لنفسها، وذات معقولة لها، فما قلتموه في أمانتكم التي اتفقتم عليها ينافي ذلك، فإن فيها تحقيقا أن الابن ذات غير ذات الأب، وأن ذات الابن هي التي نزلت وصعدت دون الأب، فجميع مذاهبكم باطلة.
ثانيا: يتناقض النصارى في عقيدة التثليث، إذ يقصرون الصفات الإلهية على اثنين (الحياة والنطق)، وأن الباري - تعالى -ذات حية ناطقة، وأن الحياة والنطق وإن كانا غيره في الشخصية فهما هو في الجوهرية. فنقول لهم: \" إذا كان الحيي له حياة ونطق، فأخبرونا عنه، أتقولون: أنه قادر عزيز، أم عاجز ذليل؟ فإن قلتم: لا، بل هو قادر علزيز، قلنا: فأثبتوا له قدرة وعزة، كما أثبتم له حياة وحكمة.
فإن قلتم: لا يلزمنا ذلك: لأنه قادر بنفسه، عزيز بنفسه. قلنا لكم: وكذلك فقولوا: إنه حي بنفسه، وناطق بنفسه، ولابد لكم مع ذلك من إبطال التثليث، أو إثبات التخميس، وإلا فما الفـرق، وهيهـات من فرق.
ثالثا: يدعي النصارى أن العدد ثلاثة هو أكمل الأعداد، لجمعه بين الزوج والفرد، لذا صاروا إلى القول بالتثليث دون غيره من الأعداد. وهو من سفه القول الذي اعتادوا وذلك لأن:
أ الله لا يوصف بكمال ولا تمام من باب الإضافة: لأن ذلك لا يقع على ما فيه نقص.
ب- ولأن قولهم أن الثلاثة هي أكمل الأعداد مناقض لقولهم: إن الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد ليست الفرد الذي هو فيها، (وهي جامعة له ولغيره، بل ولا هي بعض، فالكل ليس هو الجزء، والجزء ليس هو الكل، والفرد جزء للثلاثة، والثلاثة كل للفرد وللزوج معا. فالفرد غير الثلاثة، والثلاثة غير الفرد، والعدد مركب من واحد يراد به الفرد وواحد كذلك وواحد كذلك إلى نهاية العدد المنطوق به. فالعدد ليس الواحد، والواحد ليس هو العدد، لكن العدد مركب من الآحاد التي هي الأفراد، وهكذا كل مركب من أجزاء، فذلك المركب ليس هو جزءا من أجزائه كالكلام الذي هو مركب من حرف وحرف حتى يقوم المعنى المعبر عنه، فالكلام ليس هو الحرف، والحرف ليس هو الكلام.
ج ولأن كل عدد بعد الثلاثة فهو أتم من الثلاثة، لأنه يجمع إما زوجا وزوجا، وإما زوجا وزوجا وفردا، وإما أكثر من ذلك.
وبالضرورة يعلم أن ما جمع أكثر من زوج فهو أتم وأكمل مما لم يجمع إلا زوجا وفردا فقط.
فيلزمهم أن يقولوا: أن ربهم أعداد لا تتناهي، أوأنه أكثر الأعداد، وهذا أيضا ممتنع ومحال لو قالوه.
ثم إن الزوج والفرد نجده في الاثنين، لأن الاثنين عدد يجمع فردا وفردا، وهو زوج مع ذلك، فيلزمه أن يجعل ربه اثنين.
د ولأن كل عدد فهو محدث، وكذلك كل معدود يقع عليه عدد فهو أيضا محدث والمعدود لم يوجد قط إلا في ذي عدد، والعدد لم يوجد قط إلا في معدود، والواحد ليس عددا.
رابعا: يتناقض النصارى في جمعهم بين التوحيد والتثليث، وحملهم إياهما على المعنى الحقيقي. وذلك سفسطة محضة، لأنه إذا وجد التثليث الحقيقي وجدت الكثيرة الحقيقة، ومع وجودهما يختفي التوحيد الحقيقي، والإلزام اجتماع النقيضين، واجتماع النقيضين محال.
فقائل التثليث لا يكون موحدا لله - تعالى - توحيدا حقيقيا، وذلك لأن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله - تعالى-.
وكيف وأن الواحد الحقيقي ليس له ثلث صحيح، والثلاثة لها ثلث صحيح، وهو الواحد، وأن الثلاثة مجموع آحاد ثلاثة، والواحد الحقيقي ليس مجموع أحاد رأسا، وأن الواحد الحقيقي جزء الثلاثة، فلو اجتمعا في محل يلزم كون الجزء كلا، والكل جزءا، وأن هذا الاجتماع يستلزم كون الله مركبا من أجزاء الجزء كلا، والكل جزءا، وأن هذا الاجتماع يستلزم كون الله مركبا من أجزاء غير متناهية بالفعل لاتحاد حقيقة الكل والجزء على التقدير، والكل مركب، فكل جزء من أجزائه أيضا مركب من الأجزاء التي تكون عين هذا الجزء.. وهلم جرا.
وكون الشيء مركبا من أجزاء غير متناهية بالفعل باطل قطعا، وأن هذا الاجتماع يستلزم كون الواحد ثلث نفسه، وكون الثلاثة ثلاثة أمثال نفسها، والواحد ثلاثة أمثال الثالثة، وهو محال.
ثم إنه لو وجد في ذات الله ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي \" كما قالوا فمع قطع النظر عن تعدد الموجبات يلزم أن لا يكون لله حقيقة محصلة، بل يكون مركبا اعتباريا، فإن التركيب الحقيقي لابد فيه من الافتقار بين الأجزاء، فإن الحجر الموضوع بجنب الإنسان لا يحصل منهما أحدية، ولا افتقار بين الواجبات، لأنه من خواص الممكنات، فالواجب لا يفتقر إلى الغير، وكل جزء منفصل عن الآخر وغيره وإن كان داخل في المجموع، فإذا لم تفتقر بعض الأجزاء إلى بعض آخر لم تتألف منها الذات الأحدية، على أن يكون الله في الصورة المذكورة مركبا، وكل مركب يفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، والجزء غير الكل بالبداهة، فكل مركب مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فيلزم أن يكون الله مكنا لذاته، وهذا باطل.
وعلى ذلك إذا أثبت الامتياز الحقيقي بين الأقانيم، فالأمر الذي حصل به هذا الامتياز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون، فعلى الشق الأول لم يكن جميع صفات الكمال مشتركا فيه بينهم، وهو خلاف ما تقرر عندهم أن كل أقنوم من هذه الأقانيم متصف بجميع صفات الكمال وعلى الشق الثاني، فالموصوف به يكون موصوفا بصفة ليست من صفات الكمال، وهذا نقصان يجب تنزيه الله عنه.
ولو كانت الأقانيم الثلاثة ممتازة بامتياز حقيقي وجب أن يكون المميز غير الوجوب الذاتي، لأنه مشترك بينهم، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيكون كل واحد منهم مركبا من جزأين، وكل مركب ممكن لذاته، فيلزم أن يكون كل واحد منهم ممكنا لذاته.
وإذا علمت بالبراهين العقلية القطعية أن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله، فلو وجد قول من الأقوال النصرانية دالا بحسب الظاهر على التثليث يجب تأويله، لأنه لا يخلو إما أن نعمل بكل واحد من دلالة البراهين ودلالة النقول. إما أن نتركهما، وإما أن نرجح النقل على العقل، وإما أن نرجح العقل على النقل. والأول باطل قطعا، وألا يلزم ارتفاع النقيضين. والثالث أيضا لا يجوز، لأن العقل أصل النقل، فإن ثبوت النقل موقوف على وجود الصانع وعلمه وقدرته وكونه مرسلا للرسل.. فالقدح في العقل قدح في العقل والنقل معا، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل، ونشتغل بتأويل النقل، والتأويل عند أهل الكتاب ليس بنادر ولا قليل.
وهكذا يتضح لنا بطلان عقيدة التثليث عقلا بما تستلزمه من هذه المحالات والنقائض، كما اتضح بطلانها نقلا بفساد الأدلة التي استند إليها أصحابها فيها. وكان على أصحاب هذه العقيدة ألا يلغوا عقولهم أمام دعوى الإيمان والتسليم. فالعقيدة التي لا تكون عن اقتناع وفهم لا تكون لها قيمتها الدينية، ولا يكون لها تأثيرها في حياة صاحبها.
والدين الصحيح يوجه خطابه إلى الكيان الإنساني كله بعقله ووجدانه، فليس هو مجرد مشاعر ذاتية ينفعل بها وجدان المرء، ولكنه أيضا حقائق معقولة يدركها فكره.
وهكذا فإننا نجد الخطاب القرآني في أمر العقيدة يتوجه إلى عقول المؤمنين وقلوبهم. يتوجه إلى عقولهم بالإقناع والدليل، حيث يطالب المخالفين له بالبرهان على صحة عقائدهم ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ((، ويندد بتقليدهم لآبائهم في تلك العقائد ((أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ((، ويهيب بهم قائلا: ((قل إنما أعظمكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا.. ))، ويتوج عرضه للعقائد التي يدعو الناس إلى الإيمان بها بقول الله لهم: ((إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)). ((إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ((، ولا يسمح أن يكون الإيمان بعقائدهم وليد تسلط فكري ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)).
ومع ذلك كله، فإن خطاب الوجدان البشري له مكانه في القرآن الكريم ليحرك المشاعر حتى تنفعل بهذه العقائد التي يقنع بها العقول والقلوب معا.
أما أن يأتي رجال الدين في النصرانية المحرفة ليبتدعوا عقيدة التثليث بكل ما تتضمنه من محالات، ونقائض عقلية، ويطالبوا الناس مع تسليمهم باستحالة فهمها بالإيمان بها دون محاولة لتعقلها، فذلك مسلك لا يتفق مع الدين ولا مع المنطق السليم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد