بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا … من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في ملكه، ولا معقب له في حكمه، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة..اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [الأحزاب: 69، 70]
أيها الإخوة المسلمون:
الوقف من شرائع الإسلام، دعا إليه، وجعله قربة من القرب، التي يتقرب بها المسلم إلى الله - تعالى -، ثبت بالسنة النبوية الشريفة.. والأصل فيها ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: \" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له \" (رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي).
وللإنسان أجل محدود، كما أن للأمم أجلاً محدوداً، قال - تعالى -: { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }[الأعراف: 34] وبهذا الأجل تنتهي مهمة الإنسان على الأرض، وتطوي صحيفته، التي يلقى بها وجه الله - تعالى -، فلا يضاف إلى صحيفته شئ إلا ما ورد عن رسول الله ، والمقصود بالصدقة الجارية الوقف ويضاف ثواب هذه الثلاثة إلى صحيفته، لأنها من عمل يده، ولأنه كان السبب في اكتسابها، فيدوم ثوابها مدة دوامها.
وأخرج ابن ماجه أن رسول الله قال: \" إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً اجراه، أو صدقة أخرجها من ماله وصحته وحياته تلحقه من بعد موته \" [فقه السنة].
(2)
هذه كلها تجري كالنهر الجاري، لا يتوقف ولا ينقطع ثوابها، قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي ذو مقدرة إلا وقف. وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقفه، واشتهر ذلك منهم، فلم ينكره أحد، فكان إجماعاً.
فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها فقال: \" يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال له رسول الله: \" إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر، إنها لا تباع ولا توهب ولا تورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول \" قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم، لا نعلم أحداً من المتقدمين منهم في ذلك خلافاً.
وهذا عثمان - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله: \" من حفر بئر رومة فله الجنة، قال: فحفرتها\" (رواه البخاري والترمذي والنسائي) وفي رواية للبغوي أنها كانت لرجل من بني غفار عين، يقال لها رومـة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتي النبي rفقال: أتجعل لي ما جعلت له؟: قال: نعم قال: قد جعلتها للمسلمين [فقه السنة]
بل كان الصحابة رضوان الله عليهم يتخيرون أفضل أموالهم، ويوقفونه على المسلمين.. هذا أبو طلحة فيما رواه أنس - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسـجد، وكان رسول الله يشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}[آل عمران: 92]
قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: إن الله - تعالى - يقول في كتابه: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }، وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقـة، أرجـو برها وذخرها عنـد الله، فضعها يا رسـول الله حيث شئت، فقال رسول الله: \"بخ بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقســمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه \". (رواه البخاري ومسلم والترمذي)
(3)
أيها الإخوة المسلمون:
لم يكن في العصور السابقة للأمة الإسلامية وزارة للصحة ترعى شئون المرضى، ولا وزارة للأوقاف تعني بشئون المساجد، ولا وزارة للتربية تهتم بالتربية والتعليم، ولا وزارة للشئون الاجتماعية ترعى حاجات المسلمين وآلامهم، فكان أهل الخير يتسابقون في فعل الخيرات وعمل الطاعات، ويتبارون في وقف أموالهم، ابتغاء وجه الله، ويمدون جسور الخير بين عمل الدنيا وثواب الآخرة.
فمنهم من كان ينشئ المساجد، ومنهم من كان يقيم المستشفيات، ومنهم من كان يبني دوراً للضيافة وأبناء السبيل، ومنهم من وقف ماله أو بعض ماله على طلاب العلم.. وبهذه الأوقاف ازدهرت العلوم والمعارف، وقامت النهضات المباركة وتحول كثير من المساجد إلى جامعات، في شرق العالم الإسلامي وغربه.
أيها المسلمون:
من فضل الله على هذا الوطن المعطاء أن أفاض على أهله بالنعم الوفيرة وأغدق عليهم من الأرزاق ما جعل مستواهم المادي من أعلى مستويات العالم، كما أن من فضل الله - عز وجل - أن هيأت لهم وزارة الأوقاف صناديق وقفية، تغطي جميع المشاريع، فأنشأت صندوقاً للقرآن الكريم وحفظه وطباعة مصاحفه، وأجرت على طلابه جوائز مادية كبيرة، استجابة لقول الرسول: \" خيركم من تعلم القرآن وعلمه \".
كما أنشأت صندوقاً لرعاية المساجد، والمحافظة عليها، وتجديد القديم منها، وإقامة مساجد جديدة أملاً في أن يكون الواقف منهم من أهل هذا الحديث الشريف: \" من بنى لله مسجداً، يبتغي به وجه الله، بني الله له مثله في الجنة \" (متفق عليه) وأنشأت أيضاً صندوقاً لرعاية المعاقين وذوي الحاجات، وغير ذلك من الصناديق الوقفية التي ترضى الله ورسوله.
لقد يسرت وزارة الأوقاف أمور الوقف لكل راغب في المال الرابح على حد قول الرسـول لأبي طلحة، وذلك باشتراكات زهيدة، تزيد أرصدتهم في الدار الآخرة، وتذهب من مخاوفهم وهمومهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد