ظاهرة اللقيط وأحكامها


بسم الله الرحمن الرحيم

  اللقيط: على وزن فعيل بمعنى مفعول: كجريح وقتيل، ويسمى ملقوطاً باعتبار أنه يُلقط، ومنبوذاً باعتبار أنه ينبذ، إذا ألقي في الطريق ونحوه.

 

واصطلاحاً: (هُوَ الطِّفلُ المَنبُوذُ) والمراد بالطفل: الصبي من سن الولادة إلى البلوغ، سواء كان ذكراً أم أنثى. (المنبُوذُ) أي: المطروح في شارع أو مسجد أو غيرهما، ويغلب كونه بعد الولادة.

 

والتقاطه فرض كفاية: إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، ولو تركه جماعة أثموا مع إمكان أخذه، لأنه آدمي محترم، وفي التقاطه إحياء نفسه، فكان واجباً، كإطعامه إذا اضطر، وقد دل على ذلك عموم قوله - تعالى -: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى البرِّ وَالتَّقوَى)) (المائدة: 2).

وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسلِمُهُ...)) الحديث[1].

 

وقوله: «وَلا يُسلِمُهُ» \"بضم أوله، يقال: أسلم فلان فلاناً: إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يَحمِهِ من عَدُوِّه... \"[2]، وهذا فيه دليل على مشروعية التقاط المنبوذ. قاله ابن كثير في \"الإرشاد\"[3]، وفي زماننا هذا أقامت الحكومة -وفقها الله- دوراً لرعاية اللقطاء، والقيام على تربيتهم وتعليمهم، لكن لو أراد لاقطه أن يأخذه جاز، وأما النبذ فهو محرم، لما فيه من تعريض المنبوذ للتلف وضياع نسبه، وربما ادٌّعي رِقٌّهُ، ولأن من ينبذه يُسقط عن نفسه النفقة الواجبة عليه ويُحمِّلُها من ليست عليه.

 

أحكام اللقيط:

الحكم الأول: من أحكام اللقيط، وهو أن اللقيط محكوم بإسلامه إذا وجد في بلد فيه مسلم، وإن كان في البلد أهل ذمة، تغليباً للإسلام والدار، بشرط أن يمكن كونه منه، وذلك بأن يكون هذا المسلم ممن يولد لمثله، ويترتب على هذا الحكم أنه إذا مات اللقيط يغسل ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين.

 

ومفهوم ذلك أنه إن لم يوجد في البلد مسلم حكم بكفره، لأن الدار لهم، وأهلها منهم.

 

الحكم الثانِي: من أحكام اللقيط، وهو أن ما وُجِدَ عنده أو قريباً منه من فراش أو ثياب، أو مال في جيبه، أو تحت وسادته أو فراشه فهو له، عملاً بالظاهر، ولأنه كالمكلف له يد صحيحة، بدليل أنه يرث ويورث، ويُمنع التقاطه بدون التقاط المال الموجود عنده، لما فيه من الحيلولة بين المال ومالكه.

 

الحكم الثالث: وهو أن ملتقطه ينفق عليه مما وجد عنده بالمعروف، لولايته عليه، وإن لم يكن معه شيء فمن بيت المال، ولا تجب نفقته على الملتقط إجماعاً.

 

فإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال فعلى من علم حاله من المسلمين، ودليل ذلك ما ورد عن ابن شهاب، عن سُنين أبي جميلة -رجلٍ, من سُلَيم- أنه وَجَدَ منبوذاً في زمن عمر بن الخطاب، قال: فجئت به إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: ((مَا حَمَلَكَ عَلَى أَخذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ؟ فَقَالَ: وَجَدتُهَا ضَائِعَةً فَأَخَذتُهَا، فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَم، فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: اذهَب فَهُوَ حُرُّ، وَلَكَ وَلاؤُهُ، وَعَلَينَا نَفَقَتُهُ»، وفي رواية: «وَعَلَينَا نَفَقَتُهُ مِن بَيت المَال))[4].

 

الحكم الرابع: من أحكام اللقيط، وهو أن أولى الناس بحضانته وحفظه والقيام بمصالحه هو واجده (إن كَانَ عَدلاً) والعدالة: استقامة الدين بأداء الواجب واجتناب المحرم، واستقامة المروءة بفعل ما يحمده الناس عليه من الآداب والأخلاق، وترك ما يذمه الناس عليه من ذلك، وقيل: العدل: كل من رضيه الناس، واطمأنوا إليه، ودليل ذلك أن عمر - رضي الله عنه - أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين قال له عريفه: «إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ» فإن لم يكن عدلاً لم يُقَرَّ معه لانتفاء ولاية الفاسق، وليس لكافر التقاطه إلا إذا حكم بكفره بالدار، لأنه من أهل الولاية عليه.

 

الحكم الخامس: من أحكام اللقيط، وهو أنه إذا ادعاه إنسان وأقر بأنه ولده لحق به ونسب إليه، لأن الإقرار به مَحضُ مصلحةٍ, للطفل لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، وشرط ذلك أمران:

 

الأول: أن ينفرد المقِرٌّ بدعواه، فإن ادعاه اثنان فسيأتي.

الثانِي: أن يمكن كونه منه.

فإن ادعته امرأة ففي إلحاقه بها ثلاثة أقوال:

الأول: أنه يلحق بها مطلقاً، سواء كانت ذات زوج أم لا، لأن الإقرار به محض مصلحة للطفل، لاتصال نسبه، وهذا هو المذهب[5]، وهو ظاهر كلام المصنف، لعموم قوله: (وَمَن ادَّعَاهُ... ).

 

والقول الثانِي: لا يلحق بها مطلقاً، لأن المرأة لا ينسب إليها، فلا فائدة من إلحاقه بها، ولأنها يمكنها إقامة البينة على الولادة، فلا يقبل قولها بمجرده.

 

والقول الثالث: يلحق بها، إلا أن تكون ذات زوج فلا يلحق بها إلا أن يقر به الزوج، لأن في لحوق النسب بها وهي ذات زوج إلحاقاً للنسب بزوجها، وذلك غير جائز[6]، وهذا أقرب الأقوال[7]، على أنه يمكن الاستفادة من الطب الحديث عند ادعاء اللقيط، وذلك بتحليل الدم لمعرفة فصيلة دم الطفل وفصيلة دم مَن يتنازعون عليه، وقرينة التحليل أقوى وأثبت من قرينة الشَّبَه

 

السادس من أحكام اللقيط: وهو أن ديته إن قُتِلَ فَيء يكون لبيت مال المسلمين، وكذا ميراثه، وهذا إن لم يخلف وارثاً، لأنه مسلم ولا وارث له، فكان ماله وديته لبيت المال، كغير اللقيط، وهذا هو المذهب[8].

 

والقول الثانِي: أن ميراثه وديته لواجده، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ونصره[9]، وحكى صاحب \"الإرشاد\" عن بعض شيوخه أنه رواية عن أحمد[10] واختارها صاحب \"الفائق\"، قال الحارثي: \"وهو الحق\"[11]، ومن المتأخرين الشيخ محمد بن إبراهيم[12]، ودليلهم حديث واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المَرأَةُ تَحُوزُ ثَلاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقَهَا، وَلَقِيطَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لاعَنَت عَلَيهِ))[13].

 

وهذا القول فيه وجاهة، فإن الحديث وإن كان في إسناده مقال، إلا أن بين الملتقط واللقيط من الصلة بسبب حفظه وتربيته ما يجعله أولى بميراثه من بيت المال، الذي هو لعموم المسلمين.

واللَّه - تعالى -أَعلَم.

----------------------------------------

[1] أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580).

[2] \"فتح الباري\" (5/97).

[3] \"إرشاد الفقيه\" (2/97).

[4] أخرجه مالك (2/738)، وعنه الشافعي(1368)، والبيهقي (6/201)، قال في \"الإرواء\": \"هذا إسناد صحيح \".

[5] \"الإنصاف\" (6/453).

[6] \"الممتع شرح المقنع\" (4/110).

[7] \"الشرح الممتع\" (10/394-395).

[8] \"الإنصاف\" (6/445).

[9] \"الإنصاف\" (6/445)، \"الفتاوى\" (31/349).

[10] \"الإرشاد\" لابن أبي موسى ص(350).

[11] \"الإنصاف\" (5/446).

[12] \"فتاوى ابن إبراهيم\" (9/31).

[13] أخرجه أبو داود (2906)، والترمذي (2115)، والنسائي في \"الكبرى\" (6360، 6420)، وابن ماجه (2742)، وأحمد (25/392) من طريق عمر بن رؤبة التغلبي، عن عبد الواحد بن عبد الله النصري، عن واثلة به، وهذا إسناد ضعيف، لضعف عمر بن رؤبة، قال البيهقي (6/240): \"هذا غير ثابت\".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply