بسم الله الرحمن الرحيم
إذا أردنا بحق أن ننتقل في رمضان وما بعده من الانفعالات والتأثر إلى الإصلاح والتغيير، فلا بد من الانتصار على النفس في أهوائها الجامحة لنسعد في حياتنا الزوجية والأسرية ونحقق الوحدة العربية والإسلامية،.
وهذا هو الطريق الطبيعي لننتصر في الميدان لنكون الأمة الراقية الشاهدة على العالم كله، لنعيد إلى العالم انتصارات بدر وفتح مكة وحنين وتبوك، وحطين وعين جالوت، وهي الخطوات الإصلاحية التي ربّى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة، وهذه خطوات الإصلاح والتغيير من خلال مدرسة الصيام التربوية.
أولاً: الصيام مدرسة التغيير للنفس:
إن طريق الإصلاح والتغيير يبدأ بالنفس لقوله - تعالى -: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى\" يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد: 11) والحق أنها هي الأصعب حيث استطاع إنسان القرن الحادي والعشرين أن يملك ما حوله لكنه فقد السيطرة على نفسه، يضغط على زرٍ, فتفتح له الأبواب للبيوت والسيارات، أو تفتح على الفضائيات والبلاد والعباد عبر البحار والمحيطات على الإنترنت والتلفونات، لكنه ينهار أمام الشره على الطعام أو السعار على الجنس أو الحماقة في الغضب، أو البذاءة والثرثرة في اللسان، والصيام يعين الفرد على تجاوز هذا الضعف أمام هوى النفس التي قال عنها ربنا - سبحانه -: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)(يوسف: 53)، أو التي قال عنها سفيان الثوري: \"ما عالجت أمراً أشد عليَّ من نفسي\".وقال عنها الحسن البصري: \"ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام من نفسك\".
إن الصيام يعطي كل فردٍ, ثقة هائلة في نفسه أنه بعون الله - تعالى -قادر على ضبط زمام الهوى، وكبح جماح النفس ليس في الامتناع عن المحرمات من أكل الحرام أو الزنا أو السكر والتدخين أو الظلم والطغيان، بل الامتناع عن الحلال بكلمة \"الله أكبر\" عند الفجر، ثم يباح بكلمة \"الله أكبر\" عند الغروب، ليستقر في أعماق كل مسلم ومسلمة أنه ما زال إنساناً يحمل الفطرة النقية. إن \"كبسولة الصيام\" تعالج في الفرد الروح والخلق والعقل والجسد في آن واحد على النحو التالي:
أ- علاج قسوة القلوب وجفاف الروح: إن التجرد بالصيام لله سر بين العبد وربه، ويعلمه أن يكون باطنه خيراً من ظاهره، وقراءة القرآن وطول الصلاة والقيام، والأذكار والدعاء والقنوت في أجواء مهيأة من تقييد مردة الشياطين، ونزول الرحمات، وتجول الملائكة، ووجود المسلم بين إخوانه أو المسلمة بين أخواتها الذين تنبع منهم كل أفعال الخير، هذا كله يجعل الروح تأخذ قسطها الوافي من العلاج الشافي من أمراض قسوة القلوب، وجفاف الروح، وجمود العين عن البكاء، وقصور اليد عن التضرع والدعاء، وخمول اللسان عن الذكر والثناء.
ب- علاج دنايا الأخلاق: إن الشهوات الأربع في كل إنسان هي لعمارة الأرض، واستمرار النسل، وبقاء القيم لكن بشرط الاعتدال في استعمالها، لكن ثوران شهوات البطن والفرج والغضب والكلام كفيل بتحطيم الإنسان لنفسه وأسرته ومجتمعه وعالمه، والصيام مدرسة تربوية رائعة تضع لجاماً اختيارياً على هذه الشهوات الأربع في وقت واحد، ليكون المسلم أهلاً لرضى الله والجنة، لما رواه مسلم بسنده عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: أوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيدكم\".
ج- علاج جمود العقل: حقاً \"إن البطنة تذهب الفطنة\"، كما أخبرنا الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكثرة الطعام تستوجب ذهاب أكثر الدم من الدماغ إلى البطن لتهضم الفضل من الطعام الزائد، وهنا يسترخي العقل أو ينام، فيحرم الإنسان من حب العلم والتعلم، والفكر والتدبر، والاختراع والإبداع.
د- علاج أمراض الجسد: إن شهوة الطعام بغير لجام الصيام تجعل الفرد يصاب بأخطر الأمراض ومنها الجلطة وضغط الدم والسكري والسرطان وقرحة المعدة والأمعاء والتهاب القولون والمرارة والمفاصل والحصوات والبروستاتا والنقرس والأملاح والحساسية والحكة والغازات الكريهة، كما أن عادات التدخين والشيشة التي ابتلي بها الملايين تحرم هؤلاء من طيب الفم، وصحة الجسم فهي أكبر مسببات السرطان والسل والالتهاب الرئوي والضعف الجنسي كما تؤثر سلباً على الإنتاج والاقتصاد.
وشهوة الجنس بغير لجام الصيام تصيب الجسد بالأيدز والسل والسيلان والتقيح في الفروج والأبدان.
وشهوة الغضب تؤدي إلى التوتر العصبي، والاعتداء على الغير فتجرح أو تبتر بعض الجسد أو تنتهي بالقتل العمد.
لكن كبسولة الصيام وقاية وحماية، وعلاج وشفاء من كل هذه الأمراض التي تحول الإنسان إلى العفيف الشريف، القوي الفتي، الهمام النشيط، ولعل صيام رمضان فرصة لاستعادة الثقة في أننا نحمل فطرة نقية وعزيمة قوية على ترك عادات الأكل الكثير أو التدخين، إن استحضر في هذا الشهر الكريم ثقته في نفسه، ودعا ربه أن يعينه على نفسه قال - تعالى -: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) 69(العنكبوت).
وهكذا تصنع مدرسة الصيام المسلم والمسلمة صاحب القلب التقيّ، والخلق النقيّ، والعقل الذكيّ، والجسد الفتيّ، وهذا لعمري مفتاح كل رقيّ.
ثانياً: التغيير لإصلاح الأسرة
الصيام يربي الأسرة زوجاً وزوجة على الحب القلبي والتفاهم العقلي والتناغم الجسدي، ويرتقي بالأولاد إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، ورفيع الشمائل والمكرمات، ويتضح ذلك مما يلي:
1- مدرسة الصيام تصنع الزوجين قبل العقد والبناء ليكونا متوازنين معتدلين في الطبع والمزاج، والخلق والجسد، وهما أكبر أمان للحياة الزوجية السعيدة.
2- الصوم لمن لا يقدر على الزواج وجاءٌ من الانحراف والانجراف الذي يؤدي إلى التمادي في الحرام والعزوف عن الحلال مما يؤدى إلى العنوسة، وهي أخطر أمراض المجتمع.
3- المودة والرحمة هما أساس السعادة الزوجية كما قال - سبحانه -: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة (الروم: 21) وهما لا يشتريان بأي مال، بل تنزل الرحمات مع أول عشر من رمضان حتى آخره، وتتوالى الرحمات مع تلاوة القرآن والذكر والقيام، وتنزل الملائكة تستمع إلى القرآن وتصلي على المتسحرين، وتؤمن على دعاء الصائمين والقائمين والقانتين، فتهرب الشياطين وتفتح أبواب الحب القلبي.
4- علاج شهوة الجنس بالقدرة على الامتناع عن الحلال هي أكبر ضامن للزوجين ألا تزل قدم بعد ثبوتها، فتنهار أمام فتنة الحرام.
5- شهر رمضان تربية للأسرة كلها فهم يتسحرون معاً، ويصلون في المسجد معاً، ويعتكفون معاً، لتكون الأسرة كلها في معية الله وحفظه.
ثالثاً: إصلاح المجتمع
يحدث الصيام سلاماً اجتماعياً كبيراً لا نظير له في أي مجتمع آخر، ويتجلى ذلك فيما يلي:
1- في رمضان تصفد مردة الشياطين، وتنادي ملائكة الرحمن يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتجد المساجد ملأى، والصدقات تتزايد، والأرحام تتزاور، ومع الصيام والقيام والذكر والدعاء تهدأ النفوس ويشيع الهدوء والسلام والعفو والتسامح والغفران بين أبناء المجتمع الإسلامي.
2- يرغب كل مسلم في إطعام الطعام وإفشاء السلام، هذا مع شعيرة القيام، وهي السلالم إلى الجنان كما أخبر نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وإطعام الطعام يتنوع بين دعوة ذوى الأرحام والأهل والأقارب والأصدقاء والجيران مسلمين وغير مسلمين كي يتناولوا جميعاً طعام الإفطار مما يساهم بقوة في توثيق الأواصر الإنسانية والروابط الاجتماعية والوحدة الوطنية بين أبناء المجتمع الواحد.
3-كما يكثر الإطعام على سبيل التهادي، فإنه يزيد كثيراً أيضاً على سبيل التصدق والبر والصلة للفقراء والأيتام، وهذه الكفارات العديدة، وإفطار الصائمين مما يجلب مغفرة الذنب والعتق من النار، وكذلك حقائب رمضان لكفالة المحتاجين مما ينزع فتيل الأحقاد والأغلال بين الأغنياء والفقراء، فأي سلام أعظم من هذا الحب والانسجام بين أبناء المجتمع الواحد؟!
4- في رمضان تكون أعظم فرصة لإنهاء الخصام، وجمع المسلمين الذين فرقهم الشيطان، وأحدث فجوة بين الإخوان أو الأهل والخلان، أو الأقارب الجيران، فهنا تكون أعظم فرصة مع هدوء النفس، وعظم الأجر، وانتشار الخير أن يتسامح كل مع الآخر، وهنا يأتي دور المصلحين الذين يدركون عظمة أجرهم لما رواه ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"ألا أدلكم على خير من الصلاة والصدقة والصلة والصيام\"؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: \"إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين\".
رابعاً: إصلاح الأمة
1- إن الصيام في رمضان من أعظم الشعائر التي تساهم مساهمة فعالة في جمع الأمة العربية والإسلامية بكل دولها ومذاهبها ولغاتها وأعرافها حيث يتفق جميع أبناء الأمة في العالم كله على أن الصيام في رمضان واجب وليس نافلة، وأنه واجب في شهر رمضان وليس في أي شهر آخر غير رمضان، كما يتفقون على أن الصيام من الفجر إلى المغرب.
كما أن جميع المسلمين يُمسكون عن المفطرات نفسها من طعام وشراب وجماع، وهذا هو الذي يجعل كل عاقل من الأمة ينظر إلى نقاط الاتفاق والوفاق التي تمثل جذع الشجرة بجذورها العميقة المستندة إلى النصوص القطعية في القرآن والسنة مما لا يختلف عليه أحد من المسلمين، لكن هناك فروعاً عديدة في الفقه مثل فروع الشجرة.
هذه الثوابت مع الفروع تعد جزءاً من مرونة الإسلام، واحترامه لاختلاف العقول، وأساليب الاستنباط.
2 -يحرص كثير من المسلمين الميسورين على إخراج زكاة أموالهم في رمضان طمعاً في مضاعفة الأجر، وهذا له تأثير كبير على الدولة والأمة الإسلامية في جوانب كثيرة منها ما يلي:
أ- علاج مشكلات البطالة والجريمة في آن واحد، فالسياج الإيماني للزكاة والصيام يعالج البطالة التي تؤدي غالباً إلى الجريمة.
ب- الزكاة ومعها الصدقات الكثيرة في رمضان تساهم في إنهاء الفقر العالمي، وإذا كانت مجلة التايم الأمريكية قد نشرت في صفحاتها الأولى في مارس 2005م، أن هناك ملياراً ومائة مليون فقير فقراً شديداً في العالم، فإن أغنياء الأمة الإسلامية هم أول من يجب أن يبادروا إلى إعلان عالمي لكفالة فقراء العالم تحت شعار: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)(المائدة: 32)، وهذا مما تؤكده أكثر من مائة وثلاثين آية في القرآن الكريم ومئات من الأحاديث النبوية في الحث على الإنفاق، وبذل المال لكل محتاج مسلماً أو غير مسلم، وبهذا يُساهم أغنياء الأمة في إعطاء صورة ناصعة عن الإسلام والمسلمين مغايرة لصورتنا المشوهة في العالم الآن.
ج- تساهم الزكوات والصدقات في تقوية الوقف الإسلامي للمساجد والمدارس والمؤسسات ذات النفع العام دعما لفعل الخير ونفع الغير.
3 -في أحكام الصيام ما يؤكد استقلال الأمة وتميزها بخصائص وأعراف وقيم وتقاليد لا يجوز تذويبها في بوتقة العولمة التي تدعو إلى التحلل من القيم الاجتماعية، والخصائص الذائبة لكل شعب أو أمة.
4- شهر رمضان والصيام يذكر بانتصارات الأمة عبر تاريخها العريق، فأكبر نصرين في عهد النبوة غزوتا بدر وفتح مكة كانتا في رمضان، وفتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد كان في 28 رمضان سنة 92ه، وموقعة عين جالوت التي هزم فيها السلطان قطز مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام أكبر قوة في هذا الوقت وهم المغول كانت في 15 رمضان سنة 658ه، وكذا حرب العاشر من رمضان سنة 1383هـ على الصهاينة المغتصبين لأرضنا ومقدساتنا في فلسطين وسورية ولبنان.
هذه كلها نتيجة طبيعية لأن الأمة إذا تعمق الإيمان في قلوب رجالها ونسائها، وانتصرت على أهوائها وشهواتها وتجمعت صفاً واحداً خلف قادتها وعلمائها فإنها قطعاً تكون جديرة بالنصر والعزة والتمكين وفقاً لوعد الله رب العالمين القائل: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)(الروم: 47)، وهذا مما يعيد إلى الأمة العربية والإسلامية الأمل قبل العمل، ثم البذل والتضحية وجهاد أعدائهم وليس تصويب مدافعهم إلى صدور أبنائهم في الملة الواحدة.
هذه بعض آثار مدرسة الصيام لإحداث تغيير حقيقي في كيان هذه الأمة الواحدة ذات الجذر والجذع الواحد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
متى رمضان
10:37:47 2021-04-06