بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالَمِين، والصلاةُ والسلام على أشرفِ المرسَلِين وسيِّدِ الأوَّلين والآخرين، وعلى آله وصحبِه أجمعين. وبعد، فما أعظَمَ هذا الدِّينَ وما أشَدَّ عِنايتَه بالإحسانِ في الشؤون الذاتية والعلاقاتِ الاجتماعية! فقد رَبطَ بين الصِّيامِ وهو عِبادةٌ فَردِيةٌ خاصةٌ، وبين إطعامِ الطعام وهو عِبادةٌ جماعيةٌ مُتعدِّية. فالصَّومُ عِبادةٌ عظيمةٌ كريمةٌº ولكنها إذا اقتَرنَت بالإطعامِ وإفطارِ الصائمينº صارت أعظمَ وأكرم!
وقد روى ابنُ ماجه - رحمه الله - في كتاب (الصيام)، باب (في ثوابِ مَن فطَّرَ صائماً) عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن فطَّرَ صائماً كان له مِثلُ أجرِهم من غيرِ أن يُنقصَ مِن أجُورِهم شيئا). [1]
ورواه الترمذي - رحمه الله - في كتاب (الصوم عن رسول الله)، باب (ما جاء في فضلِ مَن فطَّرَ صائماً) بلفظ: (مَن فطَّرَ صائماً كان له مِثلُ أجرِه، غير أنه لا يُنقِصُ من أجرِ الصائم شيئا)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. [2]
ورواه ابنُ حِبان - رحمه الله - في كتاب (الصوم) من صحيحِه باب (فضل الصوم) بلفظ: (مَن فطَّرَ صائماًº كُتِبَ له مِثلُ أجرِه لا يَنقُصُ مِن أجرِه شيءٌ). [3]
فهذا الحديثُ أصلٌ في عَظمةِ فَضلِ إفطارِ الصائمº ورضوانِ الله على السخيِّ الحريصِ على إطعامِ الصائمينº فلِلصَّومِ أجرٌ، ولإفطارِ الصائمِ إخوانَه الصائمين معه أجرٌ آخر، بل بَلَغَ مِن عِنايةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإفطارِ الصائمِ وحَثِّه عليه أن بشَّرَ بأنَّ من فطَّر معه غيرَه من الصائمين فإنَّ الله - عز وجل - يَكتُبُ له أجرَ صِيامِه وصِيامِ مَن فطَّرَه!
وقد ترجَمَ النووي - رحمه الله - في (رياض الصالحين) ترجمةً جامعة: باب (فضل مَن فطَّرَ صائماً، وفضل الصائم الذي يؤكَلُ عندَه، ودعاء الآكلِ للمأكولِ عنده). [4]
فشَتانَ في الأجرِ بين مَن صامَ وأفطرَ وحدَه، وبين مَن صام وفطَّرَ غيرَه معهº فنالَ أجرَ الصِّيامِ وأجرَ الإطعام وأجرَ صِيامِ من أفطرَ عنده. ونالَ مع ذلك دُعاءَ الصائمين له بصلاةِ الملائكة عليه، وأن يُديمَ الله عليه نعمةَ إفطارِ الصائمين عندَه وأكلِ الأبرارِ من طعامِه ودعائهم له بالخيرِ الدائم.
وقد روى ابنُ ماجه - رحمه الله - في كتاب (الصيام)، باب (في ثوابِ مَن فطَّرَ صائما)، [5] وأبو داود في كتاب (الأطعمة)، باب (ما جاء في الدعاءِ لربِّ الطعامِ إذا أُكِلَ عنده). [6]
عن أنس - رضي الله عنه - أنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى سعد بن عبادة، فجاء بخبزٍ, وزيتٍ,، فأكلَ، ثم قال النبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: (أفطرَ عندَكم الصائمون، وأكلَ طعامَكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة).
ورواه ابنُ حبان - رحمه الله - في كتاب (الأطعمة) من (صحيحه)، باب (الضيافة) عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: (أفطرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عند سعدٍ,، فقال: أفطرَ عندَكم الصائمون، وصلَّت عليكم الملائكة، وأكلَ طعامَكم الأبرار). [7]
وروى ابنُ حبان كذلك عن عبد الله بن بُسر السٌّلَمي قال: (جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُبَي، فنزلَ عليه فأتاه بطعامٍ, وحَيسٍ, وسَوِيق وتمر، ثم أتاه بشرابٍ,º فناول مَن عن يمينه قال: وكان يأكلُ التمرَ ويضع النَّوَى على ظهرِ أصبعَيه السبابة والوسطى، ثم يرمي به، ثم دعا لهم فقال: اللهم بارِك لهم فيما رزَقتَهم واغفِر لهم وارحَمهم). [8]
وهذه مِن نِعَمِ الله - عز وجل - على مَن وسَّعَ عليهم من عبادِهº فوفَّقَهم إلى إطعامِ الصائمين. قال ابنُ القيم - رحمه الله -: \"الأغنياءُ الشاكرون سَببٌ لطاعةِ الفقراء الصابرينº لتقويتِهم إياهم بالصدقةِ عليهم والإحسانِ عليهم وإعانتِهم على طاعتِهمº فلهم نصيبٌ وافرٌ من أجورِ الفقراءِ زيادةً إلى نصيبِهم من أجرِ الإنفاق وطاعاتِهم التي تخصٌّهم كما في صحيحِ ابنِ خزيمة من رواية سلمان الفارسى - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، وذكر شهر رمضان فقال: (من فطَّرَ فيه صائماً كان مغفرةً لذنوبِه وعتقِ رقبتِه من النار، وكان له مثلُ أجرِه من غيرِ أن ينقصَ من أجرِه شيء)º فقد حاز الغنيٌّ الشاكرُ أجرَ صيامِه ومثلَ أجرِ الفقيرِ الذي فطَّرَه! \". [9]
فنِعمَ المالُ الصالِحُ الذي يَدَّخِرُه العبدُ عند ربِّهº فيُنَمِّيه له ويباركُ له فيه، كما روى البخاري - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن تصدَّقَ بعدلِ تمرةٍ, مِن كَسبٍ, طيِّبٍ, ولا يقبلُ الله إلا الطيِّبَ، وإنَّ الله يتقبلُها بيمينِه، ثم يُربِّيها لصاحبِها كما يُربِّي أحدُكم فُلُوَّهº حتى تكونَ مِثلَ الجبل). [10] وفي لفظٍ,: (مَن تصدَّقَ بعدلِ تمرةٍ, من كسبٍ, طيِّبٍ, ولا يصعدُ إلى الله إلا الطَّيِّبº فإنَّ الله يتقبَّلُها بيمينِه ثم يُربِّيها لصاحبِها كما يُربِّي أحدُكم فلُوَّه حتى تكونَ مثل الجبل). [11]
ورواه مسلم - رحمه الله - بلفظٍ,: (لا يتصدقُ أحدٌ بتمرةٍ, مِن كسبٍ, طيِّبٍ, إلا أخذَها الله بيمينهº فيُربِّيها كما يربِّي أحدُكم فُلُوَّه أو قَلُوصَهº حتى تكونَ مثلَ الجبل أو أعظم). [12]
ولله دَرٌّ ابنِ القيم - رحمه الله - ما أحسنَ قولَه: \"إذا كان الله - سبحانه - قد غَفرَ لِمَن سقَى كلباً على شِدَّةِ ظمأهº فكيفَ بِمَن سقَى العِطاشَ وأشبعَ الجِياعَ وكسَى العُراةَ من المسلمين؟ وقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (اتقُوا النارَ ولو بِشِقِّ تَمرة! قال: فإن لم تجدوا فبِكلمةٍ, طيِّبةٍ,)\". [13]
نسأل الله أن يجعلَنا من المحسِنين الذين يَصومُون ويُطعِمون، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
------------------------
[1] سنن ابن ماجة 1/555، حديث 1746.
[2] سنن الترمذي 3/171، حديث 807.
[3] صحيح ابن حبان 8/216، حديث 3429. وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
[4] رياض الصالحين 1/243. كتاب آداب السفر، باب (فضل من فطر صائما وفضل الصائم الذي يؤكل عنده وداء الآكل للمأكول عنده).
[5] سنن ابن ماجة 1/556، حديث 1747.
[6] سنن أبي داود 3/367، حديث 3854.
[7] صحيح ابن حبان 12/107، حديث 5296. وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: صحيح بشاهده، وهذا سند ضعيف.
[8] صحيح ابن حبان 12/109، حديث 5297. كتاب الأطعمة، باب الضيافة. وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[9] عدة الصابرين لابن القيم ص 265
[10] صحيح البخاري 2/511، حديث 1344. كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول...
[11] صحيح البخاري 6/2702، حديث 6993.كتاب التوحيد، باب قول الله: (تعرج الملائكة والروح إليه).
[12] صحيح مسلم 2/702، حديث 1014. كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها.
[13] عدة الصابرين ص 266.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد