بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما يسّر الله تقييده وتحريره في هذه المسألة في بحثي: \"اختيارات ابن القيم وترجيحاته في التفسير - دراسة وموازنة \"
- تعريف الاختيار والترجيح، والفرق بينهما:
أولاً: تعريف الاختيار:
الاختيار في اللغة مصدر اختار يختار، و (الخاء والياء والراء أصله العطف والميل)([1])، وخار الشيءَ واختاره: انتقاه، واختَرت فلاناً على فلان: عُدِّيَ بعلى لأَنه في معنى فَضَّلتُ.
والاختيار: الاصطفاء، وكذلك التَّخَيٌّرُ. ([2])
والاختيار كذلك: طلبُ ما هو خيرٌ، وفعلُه. قال الله – عزوجل - : { وَلَقَدِ اختَرنَاهُم عَلَى عِلمٍ, عَلَى العَالَمِينَ } (الدخان: 32)، أي: قدمناهم على غيرهم، واصطفيناهم من بينهم. ([3])
قال الإمام ابن تيمية: (والاختيار في لغة القرآن يراد به التفضيل، والانتقاء، والاصطفاء كما قال - تعالى -: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبٌّكَ فَاخلَع نَعلَيكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اختَرتُكَ فَاستَمِع لِمَا يُوحَى} (طه: 11-13)...)([4]
وتعريف الاختيار في الاصطلاح لا يختلف عنه كثيراً في اللغةº وأكثر من يستعمل الاختيار كاصطلاح علمي له مدلوله أئمة القراءاتº فالاختيار عندهم يراد به: (ملازمة إمام معتبر وجهاً أو أكثر من القراءاتº فينسب إليه على وجه الشهرة والمداومة، لا على وجه الاختراع والرأي والاجتهاد.)([5])
ومعلوم أن اختلاف القراء يفترق عن اختلاف غيرهم من أهل العلوم الأخرىº فإن اختلاف القراء يكون بين قراءات كلها حق وصواب. ([6]) وهذا يدل على أن اختيار أحدهم القراءة لا يعني ردّ أي قراءة ثابتة غيرها.
وأما الاختيار في اصطلاح المفسرينº فلم أرَ من حرره من المتقدمين، واستعمالُ المفسرين له يدل على أنه بمعنى الترجيح، حيث يستعملونه في ترجيح قول على آخر، سواء على وجه التقديم واختيار الأولى أم على وجه تصحيح القول المرجّح، ورد القول الآخر.
وقد عرّف أحد الباحثين الاختيار بقوله: (والمراد بالاختيار في التفسير: الميل إلى أحد الأقوال في تفسير الآية، مع تصحيح بقية الأقوال. )([7])
وفي هذا التعريف نظر لوجهين:
الأول: أن مجرد الميل إلى أحد الأقوال لا يصلح أن يكون سبباً للاختيارº لأن الاختيار المعتبر لا يكون إلا بعد بذل الجهد، والنظر في الأقوال التي يتخير منها، ثم يختار ما يرى أنه الأولى والأقوى. فلا يكون للاختيار قيمة إلا إذا كان مبنياً على التروي والتفكر والنظر، وليس ناشئاً عن ميل سابق أو هوى غالب.
جاء في تفسير الرازي: (الاختيار هو أخذُ الخير من أمرين، والأمران الّذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أولاً ميل إلى أحدهما، ثم يتفكر ويتروى، ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر. )([8])
وقال ابن عاشور: (فالاختيار هو تكلف طلب ما هو خير. )([9])
والوجه الثاني: قوله: (مع تصحيح بقية الأقوال) يحصر الاختيار في تفسير الآيات التي صحت جميع أقوالها. ومعلوم أن من الآيات ما يكون في تفسيرها عدة أقوال، بعضها صحيح مقبول، وبعضها ضعيف مردودº فهذا القيد لا يناسب هذه الآيات، ولا يصلح لها.
والأنسب في تعريف الاختيار، والأولى أن يقال: هو تقديم أحد الأقوال المقبولة في تفسير الآية لسبب معتبر.
ثانياً: تعريف الترجيح:
الترجيح في اللغة مصدر رجّح، و (الراء والجيم والحاء أصل واحد، يدل على رزانة وزيادة. يقال: رجح الشيءُ، وهو راجح، إذا رَزَن. )([10])
والترجيح في الاصطلاح: تقوية أحد الدليلين بوجه معتبر. ([11])
وعرفه بعضهم: بالتقوية لأحد المتعارضين، أو تغليب أحد المتقابلين. ([12])
وفي اصطلاح الأصوليين: تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى. وقيل: الترجيح إظهار الزيادة لأحد المثلين على الآخر. وقيل: بيان اختصاص الدليل بمزيد قوة عن مقابله ليُعمل بالأقوى. ([13]) وقيل: تقوية أحد الدليلين المتعارضين. ([14])
وأما المفسرون فليس للترجيح عندهم حدّ أو تعريف متفق عليه، ولم أرَ من ذكر له تعريفاً من المتقدمين. واستعمالهم للترجيح في تفاسيرهم يدل على توسعهم في إطلاقه، فهو عندهم يشمل كلّ تقديم لقول على آخر، سواء كان تقديماً يلزم منه ردّ الأقوال الأخرى، أم كان تقديماً لا يلزم منه ذلك.
وعلى هذه فالترجيح عند المفسرين يفترق عن الترجيح بين القراءات عند القراءº فمن شرط جواز الترجيح بين القراءات المتواترة عند من يجيزه: عدم ردّ القراءة المرجوحة. ([15])
وأما الترجيح الذي سرت عليه في هذا البحث فهو: اعتماد أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل، أو لتضعيف وردّ ما سواه. ([16])
ثالثاً: الفرق بين الاختيار والترجيح:
سبق التنبيه على أن عمل المفسرين يدل على عدم تفريقهم بين الاختيار والترجيح، وقد نهجت بعض الدرسات العلمية المتأخرة منهج التفريق بينهماº لأن كل لفظ له دلالته في اللغة، كما أنّ ذلك يفيد في التمييز بين الترجيحات الواردة في كتب التفسيرº فإنها ليست على مرتبة واحدة.
ومن خلال التعريفين السابقين للاختيار والترجيح، الّذَين اعتمدتهما في هذه الدراسة يتضح أن بينهما فرقاً من وجهين:
أحدهما: أن الترجيح تقوية لأحد الأقوالº ليُعلم الأقوىº فيُعمل به، ويُطرح الآخر. بخلاف الاختيارº فإنه ميل إلى المختار، وليس فيه طرح للأقوال الأخرى.
ومما يؤيد هذا التفريق ما ذكره الأصوليون في مسائل الترجيحº فقد نص بعضهم على أنه إذا تحقق الترجيح وجب العمل بالراجح وإهمال الآخر. ([17])
كما يؤيده أيضاً ما اتفق عليه الأصوليون من كون الجمع بين الدليلين أولى من الترجيحº لأن في الترجيح إسقاطاً لأحدهما. ([18])
والثاني: أن الترجيح يكون بين الأقوال المقبولة وغير المقبولة، والصحيحة والضعيفة. وأما الاختيار فلا يكون إلا بين الأقوال المقبولة في تفسير الآية.
ويُبنى على هذا أن الاختلاف بين الأقوال في الترجيح يكون في الغالب من اختلاف التضاد، بخلاف الاختيارº فإن الاختلاف بين الأقوال فيه إنما يكون من اختلاف التنوع. ) انتهى المراد نقله
----------------------------------------
([1]) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/232.
([2]) انظر لسان العرب لابن منظور، مادة » خير «.
([3]) انظر مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص301، وعمدة الحفاظ للسمين الحلبي 1/630.
([4]) جامع الرسائل 1/137.
([5]) معجم الاصطلاحات في علمي التجويد والقراءات للدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري ص21.
([6]) انظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/52.
([7]) رسالة: ترجيحات الإمام ابن جرير في التفسير للدكتور حسين الحربي ص66.
([8]) التفسير الكبير 19/134.
([9]) التحرير والتنوير 16/198.
([10]) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/489.
([11]) انظر كتاب التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي 1/170.
([12]) المصدر السابق 1/170.
([13]) انظر البحر المحيط للزركشي 8/145.
([14]) انظر مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص538.
([15]) انظر معجم مصطلحات علمي التجويد والقراءات للدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري ص40-41.
([16]) ذكره الدكتور حسين الحربي في كتابه قواعد الترجيح عند المفسرين 1/35 بلفظ: (تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل أو قاعدة تقويه، أو لتضعيف أو ردّ ما سواه).
([17]) انظر تقرير ذلك في البحر المحيط للزركشي 8 /145.
([18]) انظر الجامع لأحكام القرآن 10/305.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد