بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مع تعقد الحياة الاجتماعية، وغلاء حاجات المعيشة، تراجعت نسبة الزواج في حياة المسلمين، وبدأ الناس يفكرون في حلول عملية، للحصول على حقهم في تكوين أسرة وقضاء الحاجة الفطرية، فبدا في سطح الحياة الاجتماعية ما يعرف ب "زواج المسيار"، واختلفت وجهات النظر حوله، ولكن الفيصل في الحل والحرمة إنما هو للشرع، فما هو رأي علماء الشريعة في هذا الزواج؟
والمسيار يطلق على الزيارة السريعة، أو الزوار الذين لا يطيلون البقاء عند من يزورونهم.وهو عند الفقهاء المعاصرين: زواج شرعي مكتمل الأركان والشروط، لكنه يأخذ واحداً من شكلين:
1. إسقاط النفقة والمسكن.
2. أو وجوب النفقة والمسكن، وإسقاط العدل في المبيت بين الزوجتين، بحيث تتنازل الزوجة عن مساواتها للزوجة الأخرى في المبيت.
وتكاد تكون فتاوى الفقهاء المعاصرين على إباحة زواج المسيار.
الفقيه العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي على رأس من يرى إباحة هذا النوع من الزواج، ومستنده في هذا أنه زواج تتكامل فيه الشروط والأركان، وأن العبرة في العقود بمقاصدها لا مبانيها، وأن روح هذا الزواج موجود منذ القدم، وأنه قد يكون حلاً لكثير من النساء اللاتي لم يستطعن الزواج وقد كبرت سنهن. ولا يعتبر الشيخ القرضاوي الرفض الاجتماعي لهذا الزواج مانعاً شرعياً، وإن كان الشيخ لا يحبذه، لكنه يرى أنه مباح شرعاً.
وفي الفارق بين المسيار والزواج العرفي يرى د. القرضاوي أن "الفرق بينه وبين الزواج العرفي أن الزواج الذي يُسمى المسيار قد يكون زواجاً مسجَّلاً. أما الزواج العرفي فهو زواج شرعي غير موثق ولا مسجل، وأحياناً زواج المسيار يكون هكذا، وفي بعض أنواع زواجات المسيار تأخذ الشكل العرفي، وأحياناً تُسجَّل".
مفتي مصر الشيخ الدكتور علي جمعة يرى ما ذهب إليه القرضاوي، فيرى أنه يجوز للمرأة أن تتنازل عن حقها في المبيت، مستدلاً بأن أم المؤمنين سودة بنت زمعة -رضي الله عنها- قد تنازلت عن ليلتها لعائشة، ويرى أنه يجوز أن تتنازل عن مهرها أو نفقتها لأن الله يقول: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4) (النساء). وللمرأة أن ترجع فيما تنازلت عنه في أي وقت.
ويرى الشيخ الدكتور سلمان العودة أن زواج المسيار، وإن كان يمكن أن يفهم أنه يقصر النظرة إلى المرأة على أنها مجرد متاع، لكن تنازلها يعد مسؤوليتها، وهي إن تنازلت عن رغبة واقتناع، فلا بأس، كما أنه يرى أن زواج المسيار حل لمشكلة العنوسة، بشرط أن تدرك المرأة ما تفعل باختيار حر، مشدداً على ألا ينقلب هذا الزواج إلى متعة جسدية، وليس بناء أسرة، مع التنازل عن بعض حقوق المرأة.
وممن ذهب للجواز أيضاً الشيخ عبدالباري الزمزمي عضو رابطة علماء المغرب، ويرى أن هناك فرقاً بين زواج المسيار وزواج المتعة، فحقيقة زواج المتعة "أنه زواج إلى أجل معلوم متفق عليه بين الزوجين، أما زواج المسيار فليس كذلك، فإنه يقوم فقط على تنازل المرأة عن بعض الحقوق، وقد قرر لها القرآن الحق في ذلك، كما قال - تعالى-: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير.. (النساء: 128).
وكانت دار الإفتاء المصرية في عهد الدكتور نصر فريد واصل قد أصدرت فتوى بإباحة هذا النوع، "إن تحققت فيه هذه الشروط والأركان، وهي الرضا الكامل من كلا الزوجين، والصيغة التي تدل على التأبيد، والوليّ من قِبَل الزوجة، والشهود الذين تتوافر فيهم الأهلية الكاملة للشهادة، والإشهار والإعلان بشتى الطرق فهو زواج صحيح بصرف النظر عن مسماه، ما دام أنه غيرُ مُحَدَّد بمدة"، وكذلك المجمع الفقهي المنعقد بمكة المكرمة في دورته الأخيرة.
وإذا كانت جمهرة الفقهاء ترى إباحة هذا الزواج، فإن عدداً من العلماء يرفض هذا الزواج، ومنهم الدكتور عبدالعظيم المطعني، الذي يرى أن زواج المسيار وإن كانت تتوافر فيه شروط الزواج وأركانه، إلا أنه ينجم عنه مشكلات اجتماعية كثيرة، كأن يكون الزوج في بلد والزوجة في بلد أخرى، وينجب لهم، فتضيع الأولاد، وأن هذا الزواج لا يحقق الرغبة المشروعة منه، وليس من الشرع أن تكون المتعة الجنسية هي مقصد الزواج.
ويوافق الدكتور عبد الصبور شاهين ما ذهب إليه الدكتور المطعني، ويرى أن زواج المسيار، وإن أباحه المجمع الفقهي وعدد كبير من الفقهاء إلا أنه يجب أن يكون حلاً في حالات الضرورة، وليس مباحاً كأصل، فهو كأكل الميتة عند الاضطرار، وأن هذا الزواج لا يحقق ما وصفه الله من السكن والمودة والرحمة.
ولكن يمكن الأخذ به في ظروف معينة، كالذين يسافرون في تجارة أو عمل، ولا يمكن لهم أخذ زوجاتهم معهم، فهو زواج ضرورة لا يحقق مقاصد النكاح في الشرع، بل أوجبته ظروف الحياة العصرية.
وإذا كان غالب الفقهاء يرون إباحة هذا النوع من الزواج، وبعض علماء الاجتماع ومعهم بعض العلماء والدعاة يرفضه، فأحسب أنه من الأولى ألا نسارع بالقول بإباحته أو حرمته، بل يمكن أن تقوم دراسات شرعية واجتماعية لمعرفة ما قد يترتب على هذا الزواج من آثار اجتماعية ودينية، ثم نبني حكمنا عليها، وبعد ذلك يبقى هو الحكم الشرعي، وهو بخلاف الفتاوى الفردية التي تسقط الحكم على الواقع، ليتم التمييز بين الحكم والفتوى، كما ذهب إليه الأئمة، وعلى رأسهم الإمام القرافي الذي كتب كتابا أسماه: "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد