بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فالحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وقد ثبت وجوبه وصفته بالنصوص المتواترة من الكتاب والسنة.
و كثرت بفضل الله - تعالى - المصنفات والرسائل في صفة الحج وما يتعلق به، ومشاركة في هذا الباب العظيم من أبواب الخير أحببت أن أجمع بعض مسائل الحج المعاصرة والتي تتجدد بتجدد أسبابها كتغير أحوال الناس، واستحداث مخترعات جديدة في وسائل النقل، واللباس وما يحتاجه عموم الناس وغير ذلك.
وقد حرصت في هذا الجمع تجنب التطويل والإشارة إلى ما يهمنا من بحثنا، وقللت من النقولات والعزو لأن مثل ذلك لا يهم عموم المسلمين، وهم المقصودون أصلاً بهذا البحث، ومظان هذه الأسطر كتاب الحج من كتب الفقه، والرجوع إليها لا يعجز طلبة العلم، وعملي - غالباً - مقتصر على جمع كلام العلماء، وقد استفدت من بعض المسائل التي أوردها المكتب العلمي بموقع الإسلام اليوم في بحث علمي في بعض مسائل الحج، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1- حج المدين: دين الحاج ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: دين حال فيجب إبراء الذمة أولاً بسداد الدين، فإن من كانت ذمته مشغولة بالدين لا يجب عليه أن يحج لكونه غير مستطيع، ولو حج صح حجه.
القسم الثاني: إذا كان الدين غير حال كأقساط المصارف والشركات فهذا يحج لأن ذمته ليست مشغولة بما لم يحل من الديون، وينبغي الوصية به لئلا تضيع حقوق الناس.
2- سفر المرأة بلا محرم للحج بالطائرة: اختلف العلماء في حكم سفر المرأة من غير محرم والراجح جواز ذلك إذا وجدت المرأة رفقة مأمونة وهو قول ابن سيرين وعطاء والزهري وقتادة والحكم بن عتيبة والأوزاعي ومالك والشافعي ورواية في مذهب أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمهم الله -.
جاء في\"الاختيارات\"لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم لزوال العلة. قال أبو العباس: وهذا متوجه في كل سفر طاعة.
عن الزهري قال: ذكر عند عائشة أم المؤمنين المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم؟ قالت عائشة:\"ليس كل النساء تجد محرماً\". وعن نافع مولى ابن عمر قال:\"كان يسافر مع عبد الله بن عمر موليات له ليس معهن محرم\". لاسيما مع مصاحبة بعض الموانع المادية والأمنية ووجود الأمن في الطائرات التي يقطع بها المسافات الطويلة في زمن يسير كانت تقطع قديماً بوسائل النقل القديمة بزمن طويل، وأما الحوادث التي قد تتعرض لها بعض الطائرات فهي نادرة، والنادر لا حكم له.
3- محاذاة الميقات المكاني: يجوز لمن حاذى ميقاتاً من المواقيت المكانية أن يحرم عند المحاذاة، سواء كان في الطائرة، أم في الباخرة، أم في السيارة، والدليل على ذلك ما رواه البخاري - رحمه الله - في\"الصحيح\"عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن أهل البصرة شكوا إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقالوا:\"يا أمير المؤمنين: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – وقّت لأهل نجد قرن المنازل، وإنها جور عن طريقنا، أي: مائلة وبعيدة عن طريقنا. فقال - رضي الله عنه -: انظروا إلى حذوها من طريقكم\". فلا يشترط الوقوف عند الميقات للإحرام بالنسك.
4- الاشتراط عند خوف المنع: اختلف العلماء – رحمهم الله – في الاشتراط عند الدخول في النسك، والصواب في هذه المسألة ما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه لا يسن الاشتراط إلا لمن خاف ما يمنعه من أداء النسك، وهذا القول به تجتمع الأدلة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أحرم في عمره كلها ولم يعرف أنه كان يشترط عند الإحرام، وكذا في حجة الوداع، ولم يأمر أصحابه به، وإنما أمر من جاءت تستفيه لأنها خشيت أن يشتد بها المرض فيمنعها من أداء النسك كما في حديث ضباعة بنت الزبير - رضي الله عنها - في\"صحيح مسلم\".
ويلحق في هذه المسألة من خاف من منع قوات الأمن له من أداء الحج وفقاً لترتيبات الحج الأمنية التي طبقتها السلطات في السعودية عند المواقيت المكانية، فمن خشي أن يمنع من أداء النسك فله أن يشترط عند الإحرام ويقول: اللهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، ومن لم يخف فليس له أن يشترط.
تنبيه: يتعمد بعض الحجاج – هداهم الله - من باب الحيلة لبس الثياب لتجاوز نقاط التفتيش الأمنية ثم يخلعون ثيابهم، ويبقون في ملابس الإحرام، ولا شك أن هذا الفعل محرم، ويلزم صاحبه دم لتعمده فعل محظور من محظورات الإحرام، وهو لبس المخيط.
5- وضع الشمسية: إذا ستر المحرم رأسه بساتر متابع كالمحمل والثوب والشمسية فعند الحنفية والشافعية أنه لا شيء عليه وهو الصواب، لما روى مسلم في\"صحيحه\"عن أم الحصين - رضي الله عنها - قالت:\"حججت مع النبي – صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي – صلى الله عليه وسلم – والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة\".
6- لبس النظارة، أو سماعة الأذن، أو ساعة اليد، أو الحزام أو ضبابة (ضغاطة) اليد أو الرجل أو الحذاء المخروز الذي فيه خيوط: بين النبي – صلى الله عليه وسلم - ما يحرم على المحرم لبسه، فقد روى البخاري ومسلم في\"صحيحيهما\"من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلا قال: يا رسول الله: ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس\". والنظارة والسماعة وساعة اليد والحزام وضبابة اليد أو الرجل والحذاء المخروز الذي فيه خيوط لا تدخل في هذه الخمسة لفظاً ولا معنى.
7- لبس المخيط لمصلحة عامة: يجوز للمحرم لبس المخيط لحاجة تتعلق بمصالح الحجيج كأن يكون جندياً إذ إنه لو لم يلبس لباسه الرسمي لما أطاعه الناس، وصار في الأمر فوضى، ويفدي احتياطاً.
8- وضع الكمام على الفم والأنف: يجوز للمحرم وضع الكمام على فمه وأنفه سواء كان ذلك لحاجة أو لغير حاجة لأنه يجوز على الصحيح من قولي أهل العلم أن يغطي المحرم وجهه، فإن مستند من منع ذلك ما رواه البخاري ومسلم في\"صحيحيهما من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في قصة الرجل الذي وقصته دابته فمات فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -:\"اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً\". زاد مسلم\"ولا تخمروا رأسه ولا وجهه\". وهذه الرواية غير محفوظة ويدل لذلك أن شعبة قال: حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث إلا أنه قال:\"لا تخمروا رأسه ولا وجهه\".
وروى القاسم قال:\"كان عثمان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم يخمرون وجوههم وهم حرم\"، وكذا ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في\"المحلى\"وروى الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر أنه قال:\"إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه\". وقال جابر - رضي الله عنه -:\"يغطي المحرم أنفه من الغبار، ويغطي وجهه وهو نائم\".
9- الصابون المعطر: اختلف المعاصرون في حكم الصابون المعطر للمحرم فمنهم من يمنعه – وهو رأي الأكثر – ومنهم من يجيزه – وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -. ولعلنا نستطيع الجمع بين القولين بتقسيم الصابون المعطر إلى قسمين:
القسم الأول: نوع من العطور يستخلص منه منظفات للرأس والجسم، وبخاخ للتطيب منه، ومنه الصابون أيضاً، وهذا لا شك أنه يمنع منه المحرم لأن الصابون يراد منه العطر نفسه.
القسم الثاني: الصابون المعروف الذي يستخدم لتنظيف اليدين وغيرهما، وهذا ليس بعطر ولا يلحق به لفظاً، ولا معنى، وإنما المقصد منه التنظيف، أو إزالة الرائحة الكريهة بالنكهة الذكية كرائحة التفاح، أو النعناع. ولو أنك دخلت على البقال فقلت: أعطني عطراً، وأعطاك الصابون لعددت ذلك سخرية منك. والتعليل في القسم الثاني هو معنى ما نص عليه الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في بعض مجالسه سماعاً منه.
10- استخدام مكائن الحلاقة: هل الأخذ من شعر رأس المحرم بهذه المكائن يكون حلقاً أم تقصيراً؟
والجواب أن يقال: الحلق في اللغة: أخذ شعر الرأس من أصله بالموسى، وما لا يمكن معه القص فهو الحلق، وهذا منتف في مكائن الحلاقة، إذ إنه بمختلف درجات ماكينة الحلاقة يبقى من الشعر شيء بعد الأخذ منه.
11- وجود الخط الأسود في بداية الطواف: تكلم المعاصرون في مشروعية هذا الخط على قولين مشهورين، فمنهم من يمنعه كالشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، والشيخ بكر بو زيد - حفظه الله -– وله رسالة في ذلك، ومنهم من يجيزه كالشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -، والشيخ محمد بن سبيل - حفظه الله -، وله رسالة في ذلك. ولكل من القولين حجته، لكن تنبغي الإشارة إلى أنه مع مشروعية هذا الخط إلا إن فيه خللاً هندسياً، فعرض الخط من أوله عند الحجر إلى آخر المطاف على قدر واحد، والمعروف هندسياً أن الدائرة كلما اتسعت اتسع قطرها، فالواجب زيادة عرض الخط الأسود وتغليظه كلما اتجهنا إلى آخر المطاف، وهذا يعني أن الطائف في آخر المطاف تكون محاذاته للحجر الأسود قبل وصوله إلى الخط الأسود خلافاً لما عليه الخط الأسود الآن.
12- التوكيل في الهدي: الواجب على الحاج إبراء للذمة أن يتولى ذبح هديه بنفسه، ويشرف على توزيعه على الفقراء والمساكين مع أكل شيء منه – استحباباً -، وأما التوكيل فإن كان الوكيل ثقة أميناً فلا بأس وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية بجواز دفع قيمة الهدي للبنك الإسلامي.
13- الاعتبار بعلة الزحام الموجودة في هذا الزمان: من أعظم مقاصد الحج تحقيق العبودية لله – سبحانه – بأداء المناسك، وإظهار معالم الأخوة الإسلامية في الإيثار، وبذل الخير للمسلمين، والتخلص من الأثرة وتقديم مصلحة النفس على الغير، والحذر من كل ما يفضي إلى إفساد النسك، أو نقصان الأجر كالرفث والفسوق والجدال والخصومة والخلاف والمضاربة أثناء تأدية مناسك الحج.
ومن الأسباب التي قد تؤدي إلى ما ذكرنا من مظاهر الخلاف والشقاق بين الحجاج شدة الزحام في المناسك بعد تزايد أعداد الحجاج في السنوات الأخيرة، وهذا أمر ينبغي الالتفات إليه ومعالجته، فإن هذه الشريعة ما جاءت بالعنت، والتشديد على المكلف، وإنما جاءت باليسر والسماحة، ورفع الحرج والمشقة عنه قال - تعالى -: \"ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون\". و(مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة المتعلقة بمكانها أو زمانها) فالطواف في مكان بعيد عن الكعبة مع الخشوع أولى من الطواف قريباً منها عند شدة الزحام.
وهذه بعض المسائل المتعلقة بشدة الزحام:
* ترك المبيت بمنى عند عدم وجود مكان فيها: المقرر عند الفقهاء وجوب المبيت في منى، وتركه يوجب الكفارة، لكن إذا ترك المبيت لعذر فلا شيء عليه، والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في\"صحيحيهما\"من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له\". وروى الخمسة عن عاصم بن عدي - رضي الله عنه -:\"أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر\".
ويلحق في ذلك أهل الأعذار ممن يشق عليه المبيت في منى، فقد روى سعيد بن منصور في\"سننه\"عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يقول:\"إذا كان للرجل متاعٌ بمكة يخشى عليه الضيعة إن بات بمنى، فلا بأس أن يـبيت عنده بمكة\".
قال ابن قدامة - رحمه الله - في\"المغني\": وأهل الأعذار كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاة في ترك البيتوتة.ا.هـ.
وقال ابن القيم - رحمه الله -: وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رخص لأهل السقاية وللرعاة في ترك البيتوتة، فمن له مال يخاف ضياعه، أو مريض يخاف من تخلفه عنه، أو كان مريضاً سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء. والله أعلم. ا.هـ.
ومع الزحام الموجود الآن فقد ألحق العلماء في ذلك ترك المبيت بمنى عند ضيقها، أو وجد مكاناً لا يصلح لمثله، ومنه المبيت على الشوارع والأرصفة والذي فيه إلحاق الضرر بالنفس والغير وانكشاف عورات النساء، وهذا لا شك أولى من رعاة الإبل الذين رخص لهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – في ترك المبيت بمنى، فإذا لم يجد مكاناً في منى فيبيت عند منتهى آخر خيمة من خيام الحجاج، وهذا كالمسجد إذا امتلأ بالحجاج فإنهم يصلون بعضهم إلى بعض.
والواجب في المبيت أن يكون معظم الليل، قال ابن حجر - رحمه الله -: ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل.ا.هـ. ولا يشترط أن يكون آخر الليل كما يفعله من يبيتون خارج منى، ويأتون منى جميعاً في وسط الليل لإدراك المبيت باقي الليل، فيستطيع الحاج المجيء إلى منى عند الغروب ويمكث أكثر الليل فيها، وفي هذا تخفيف على نفسه وعلى غيره من المسلمين.
* الدفع من عرفة قبل الغروب.
لا خلاف بين أهل العلم أن من وقف بعرفة ليلاً ولم يدرك جزءاً من النهار أن حجه صحيح ولا شيء عليه. قال في\"الشرح الكبير\": لا نعلم فيه خلافاً.
وإنما اختلفوا فيمن دفع من عرفة قبل الغروب على أقوال منها:
القول الأول: لا يجوز الدفع من عرفة قبل الغروب، ومن فعل ولم يرجع فعليه دم.
وهو قول الحنفية وأحد القولين عند الشافعية وقول الحنابلة وهو قول عطاء، والثوري، وأبي ثور.
واستدلوا على تحريم الدفع قبل الغروب بفعله – صلى الله عليه وسلم -، حيث لم يدفع إلا بعد غروب الشمس، والاقتداء بفعله هذا متعينº لقوله – صلى الله عليه وسلم: \"خذوا عني مناسككم\".
القول الثاني: جواز الدفع قبل الغروب، فمن دفع فلا دم عليه، ولا يلزمه الرجوع، ولكن خالف السنة، وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعية، واختاره النووي وهو مذهب ابن حزم واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول: حديث عروة بن مضرِّس - رضي الله عنه - قال:\"أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبل طي، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال – صلى الله عليه وسلم -:"من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد أتم حجه، وقضى تفثه" أخرجه أحمد والترمذي.
ووجه الدلالة من الحديث ظاهر: حيث دل على أن من وقف بعرفة نهاراً دون الليل فحجه تام، ولا شيء عليه.
ويُحمل فعله – صلى الله عليه وسلم - من الوقوف حتى الغروب على الاستحباب لأجل هذا الحديث.
فيكون وقوفه إلى وقت الغروب بمنـزلة نزوله – صلى الله عليه وسلم - بعرفة قبل الزوال.
قال الشنقيطي - رحمه الله -قوله – صلى الله عليه وسلم-:"فقد تم حجه" لا يساعد على لزوم الدم لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة إلى الجبر بدم. والحاصل أن من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار أو النهار دون الليل فأظهر الأقوال فيه دليلاً: عدم لزوم الدم"ا.هـ مختصراً.
الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"من أدرك عرفات قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج\"، وفي لفظ\"من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد أدرك حجه\". رواه أحمد والترمذي.
ووجه الدلالة: أنه إذا جاز الوقوف بعرفة ليلاً دون النهار بدون دم، فلأَن يجوز الوقوف بها نهاراً دون الليل بدون دم من باب أولى، ولا يصح التفريق بين الأمرين.
وبذلك يعلم أيضاً أن البقاء في عرفة إلى غروب الشمس هو فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وهديه، ولكن القول بالنفرة قبل الغروب من يوم عرفة له حظه من الاستدلال والنظر، وقال به أئمة علم يقتدى بهم، وأن الحرج الذي يصيب الناس في النفرة من عرفة حيث لا يصلون إلى المزدلفة إلاّ في ساعات متأخرة من الليل يجعل المصير إلى هذا القول والتوسعة على الناس به له اعتباره، وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أذن لضعفة أهله بالنفرة من المزدلفة خوفاً من حطمة الناس فإن المعنى موجود اليوم وعلى وجه أشد في النفرة من عرفة.
* الدفع من مزدلفة قبل الفجر: هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – المبيت بمزدلفة إلى بعد طلوع الفجر، والمستحب الاقتداء برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأما الضعفة من النساء والصبيان والكبار والعاجزين والمرضى، وكذلك من لا يستغنون عن رفقته من الأقوياء فيجوز لهم الدفع بعد منتصف الليل. والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في\"صحيحيهما\"من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:\"بعثني – رسول الله صلى الله عليه ومسلم – في الثقل – أو قال في الضعفة – من جمع بليل\". والمذهب الشافعي وأحمد – رحمهما الله -. جواز الدفع بعد منتصف الليل لأهل الأعذار وغيرهم.
والعمل بهذا القول مهم مع كثرة الناس وشدة الزحام، وما يلحق الناس من جراء ذلك من الكلفة والمشقة.
* الترتيب بين أعمال يوم النحر: أجمع العلماء على استحباب الترتيب بين أعمال يوم النحر، وذلك بتقديم الرمي، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، كما رتبها النبي – صلى الله عليه وسلم – في فعله.
كما أجمعوا على جواز على تقديم بعضها على بعض في حق الناسي والجاهل.
واختلفوا في تقديم بعضها على بعض في حق العامد العالم، فمذهب الشافعي وأحمد وجمهور التابعين جواز ذلك مستدلين بأحد طرق الحديث المروي في\"الصحيحين\"عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سأله رجل:\"يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح. قال: اذبح ولا حرج. وقال آخر: ذبحت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج، فما سئل عن شيء غلا قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج\". ولم يقيده بالناسي والجاهل.
ومثل هذا القول يتوكد مع الزحام الموجود الآن. والله أعلم
* الطواف في السطح والسعي فوق سطح المسعى: أصدرت هيئة كبار العلماء فتوى بجواز السعي عند الحاجة فوق سقف المسعى قياساً على جواز الطواف حول الكعبة في أروقة المسجد الحرام وفي سطوحه، وعلى جواز الصلاة الصلاة إلى هواء الكعبة ممن كان في مرتفع عن بنائها كمن في الطائف مثلاً وعلى صحة الطواف والرمي فوق دابة ونحوها، لأن ذلك لا يخرج عن مسمى السعي فهو سعي بين الصفا والمروة، وأما إذا لم يكن ثم حاجة بأن كان السعي في وقت لا ازدحام فيه فإن الاحتياط لكمال العبادة يقضي بعدم ذلك خروجاً من خلاف من منعه، ولانتفاء العذر المبرر للجواز. (فتاوي الشيخ ابن منيع 3/81)
* النزول إلى المسعى في الطواف: الناظر إلى زحام الناس الشديد عند بداية الطواف في سطح المسجد الحرام يجد ما يلحق الطائفين من المشقة الشديدة لضيق المكان، ويتوقف السير أحياناً دقائق عديدة، ويكثر اللغط والشجار بين الناس مما يضطر بعضهم إلى النزول إلى المسعى، ومع أن المسعى قد ألحق أخيراً ضمن المسجد من حيث البناء، إلا أن الرأي مستقر عند العلماء المعاصرين على أنه ليس من المسجد وأنه لا يشرع الطواف به لأن من طاف بالمسعى فقد طاف خارج المسجد ولا يصح الطواف حينئذ، ونظراً لما ذكرنا من المشقة الشديدة على الطائفين فقد رخص بعض العلماء في نزول الطائفين إلى المسعى عند الضرورة والزحام الشديد، وممن رخص في ذلك الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين – رحمهما الله -.
* رمي الجمرات من فوق الجسر: يجوز رمي الجمرات من أي جهة من فوق أو من أسفل أو جعلها عن يمينه أو عن يساره.
قال ابن حجر - رحمه الله -: وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها (أي جمرة العقبة) جاز، سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها، والاختلاف في الأفضل. ا.هـ.
قال في المنتهى وشرحه: وله رميها أي الجمرة من فوقها لفعل عمر لما رأى الزحام عندها.ا.هـ.
* الرمي ليلاً: ذهب جمع من العلماء إلى جواز الرمي ليلاً لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - حدد أوله ولم يحدد آخره، ولما سأله رجل كما عند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -:\"رميت بعد ما أمسيت. قال: لا حرج\". والمساء يكون آخر النهار، وفي أول الليل، ولم يستفصل النبي – صلى الله عليه وسلم – عما يقصده الرجل، فعلم أن الأمر واسع. وهذا القول هو مذهب الحنفية ورواية عند المالكية وهو المصحح عند الشافعية، وهو ما أفتى به المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ عبد العزيز ابن باز – - رحمه الله -، وذلك حينما اشتد الزحام على الجمرات.
* الرمي قبل الزوال في أيام التشريق: السنة في الرمي في أيام التشريق أن يكون بعد الزوال كما هو ثابت في حديث جابر - رضي الله عنه - في\"صحيح البخاري\"قال:\"رأيت الرسول – صلى الله عليه وسلم – يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس\"، وفي\"صحيح البخاري\"أيضا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: \"كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا\".
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الرمي قبل الزوال وهو قول طاووس وعطاء وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة واختيار ابن عقيل وابن الجوزي من الحنابلة والرافعي من الشافعية والشيخ صالح البليهي والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود والشيخ مصطفى الزرقا وقواه الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحم الله الجميع -. ودليلهم في ذلك القياس على\"الرعاة الذين رخص لهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – الرمي في الليل أو في أي ساعة من نهار\". رواه الدار قطني. وشدة الزحام، والخوف من السقوط تحت الأقدام أوكد من غيره من الأعذار. ومن أهل العلم من رخص لذوي الحاجات فقط كمن يخشى فوات رحلة طائرة أو باخرة أو رفقة لا ينتظرونه. والله أعلم.
* تأخير الرمي: يجوز لمن كان في معنى الرعاة ممن هو مشغول أيام الرمي بعمل لا يفرغ معه للرمي، أو كان منزله بعيداً عن الجمرات، ويشق عليه التردد عليها ـ أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز له أن يؤخره إلى ما بعد يوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق). والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء وأيام التشريق كاليوم الواحد. وهذا رأي الشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وهو المعتمد عندهم، واختاره الشنقيطي – رحمهم الله -.
قال ابن قدامة - رحمه الله -: إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده, أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة, ولا شيء عليه, إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث و يستدل لذلك بما رواه أحمد وأبو داوود عن أبى البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم –\"أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر\".
هذا ما يسر الله – سبحانه – جمعه من بعض المسائل المعاصرة الحج، جمعت على عجل، وقد تحتاج إلى زيادة تحرير لكن ضيق الوقت قبل موسم الحج يمنع من ذلك، وهي محاولة لإرشاد الناس لتحقيق المقصد من هذه العبادة العظيمة، وأداء العبادات فيها بكل طمأنينة وسكينة، وإزالة ما في قلوب الناس من احتمالات الأذى والهلاك والمقاتلات التي تحصل بين الحجاج، والسعي في إبراز ما يعين – بإذن الله – وفق الدليل وكلام من يحتج بهم من أهل العلم إلى تعظيم حرمات المسلمين ودمائهم وأعراضهم.
والله نسأل أن يوفق المسلمين لما يحب ويرضى، وأن يسلمهم ويحفظهم ويتقبل منا ومنهم. اللهم آمين.
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد