بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قام الناس صباح اليوم على حدث جلل وفقد مصاب عظيم لأمة الإسلام، وفاة سماحة شيخنا وأستاذنا الجليل عبدالعزيز ال الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية، وإليكم قطوفًا زاخرة من سيرته الطيبة الفواحة العطرة، ولا غرابة فهو خليفة ابن باز عليه رحمة الله، وما أدراكم ما الباز؟!
درة في جبين الأمة ساطعة.
كنت أراه في درس شيخنا ابن باز ، وكان حينئذ نائبًا له، كان مواظبًا على درس الفجر يوم الخميس.
درّسنا بالمعهد العالي للقضاء في الماجستير ، وكان محبًا للتدريس، مجتهدًا في التحضير للدرس، يراعي الطلبة كثيرًا، صادقًا في نصحه لهم وتعليمهم، مفهمًا لهم المسائل، لا يضجر من أسئلتهم ومناقشاتهم، سأله طالب في مسألة علمية محرجة فأجابه بأدب وحكمة وما نهره وزجره.
لم يتخلف عن درسه في المعهد طيلة تدريسه لنا، مواظبًا على الدرس دخولًا وانصرافًا، أداء الأمانة رسالة عظيمة.
زرته بعد وفاة شيخنا ابن باز رحمه الله في الإفتاء وكنت أبحث في أحكام المكي في الحج والعمرة، وعرضت عليه الموضوع فاستحسنه، وقال كذلك مر على المشايخ في اللجنة لتستفيد منهم: الشيخ ابن غديان والشيخ الفوزان.
جاءتني رسالة على البريد من أحد موظفي مكتبه نرغب منكم زيارة سماحة المفتي في بيته حيث قرأ عليه في كتابك (التحفة) فقلت في نفسي لعلي كتبت شيئا فيه مخالفة للإجماع أو المصلحة ونحوها، فلما دخلت بيته في مكة وانتظرته فلما دخل علينا وجلس في مجلسه وسأل عني وقال أين فلان قالوا بجوارك. فقال قرأنا كتابك واستفدنا منه …إلخ فقلت أنتم أهل العلم والإفادة ثم قال ماذا عندك من المسائل التي عرضت عليك وفيها غرابة فذكرت له شيئًا من ذلك فقال ماذا أجبتم؟ فقلت العلم عندكم ومنكم نستفيد فقال لابأس نريد نسمع ونستفيد.
دروس من حياته رحمه الله:
- سير من عبادته:
عرف بضبطه وإتقانه للقرآن ويختم كل ثلاثة أيام.
عرف بكثرة قيامه لليل وطول صلاته فيه.
عرف بكثرة ذكره لله وتانيه في الذكر، لا يستعجل في القيام بعد الصلاة.
كان إذا انتهى من صلاة العشاء في مسجده دخل غرفته فيجلس يصلي قرابة الساعة ثم ينصرف إلى بيته.
- سير من عطائه العلمي:
درّس في الجامع والجامعة، ملازمًا للعلم والتعليم والبذل والعطاء لخدمة دينه وأمته.
عرف سماحته ببلاغة كلامه وفصاحته مع كونه أعمى، فهو خطيب مفوه لغة وأداء، في خطبه ومحاضراته، فهو خطيب عرفة البليغ منذ سنين.
عرف بتعظيمه للدليل من الكتاب والسنة وسلف الأمة ويقدمها على المذهبية إذا كان الدليل أقوى .
تأثر بالعلامة الإمام ابن باز كثيرًا في كثير من حياته العلمية والعملية، وكان يقول من يسد مكان ابن باز .
كثيرًا ما يركز في علمه ودعوته على التمسك بالسنة والهدي النبوي والتوحيد والتحذير من الشرك والبدع بالحكمة .
يتسع صدره للخلاف السائغ ولا يتعصب لاختياراته وآرائه، ولا يصارع ويرد على فلان وفلان، فما عهد عنه الدخول في الخلافات المنهجية ولا العلمية، همه العلم والتعليم.
محبًا للكتب ومتابعة الجديد من البحوث والكتب، فكنت إذا زرته يسأل عن جديد البحوث والكتب والمسائل التي تعرض في مكاتب الفتوى في الحرم، ويطلب نسخة من كل بحث وكتاب، ويرسل من يبلّغ شكره للمؤلف بعد قراءة الكتاب عليه أو يتصل به.
ديدنه التواضع العلمي، الورع في الفتوى، وكثيرًا ما يقول تحتاج المسألة مراجعة أو يسكت ويحوقل، واليوم شباب صغار لم يبلغ الثلاثين ونحوها يتصدى ويترأس ويخالف ويبدع ويفسق ويكفر، غرور علمي قبيح تستهجنه الأسماع والقلوب والعقول.
وفيًا للعلماء فقد حج عن عدد من العلماء الذين لم يحجوا كابن عبالبر وابن حزم وابن رجب.
- أخلاقه ومنهجه:
عرف بسلامة قلبه وعفة لسانه ومحبته للناس، وخاصة الدعاة وطلاب العلم فلا أحد يذكر عنده في مجلسه بسوء، وينهى عن الكلام في أهل العلم والدعاة، وكم سمعناه يحذر من ذلك، ويدعو للائتلاف وجمع الكلمة وعدم الفرقة والخلاف.
يسأل عن طلاب المنح الدوليين في الجامعات ومعهد الحرم، لأنهم سفراء العلم والدعوة. ولعلمه بأهميتهم في بلدانهم وأثرهم.
عرف بتواضعه للناس ولطلابه ومحبيه يؤانسهم ويجالسهم ويمازحهم، ويقبّل أحيانًا يد من يستفيد منه من طلابه في العلم والمعرفة، تواضع عملي رفيع، وقد قبل ابن تيمية جبين ابن الوردي حينما أفاده في مسألة ، واليوم من الطلبة من يستنكف من تقبيل رأس شيخه لأنه نال مركزًا أو شهادة علمية.
يثني على أقرانه في العلم وبستمع لشروحهم، وكان يقول لنا: (إني أستمع لشروح الشيخ ابن عثيمين) ويثني عليه، فما استنكف للاستفادة من زملائه وأقرانه والثناء عليهم.
كان يرسل زكاته لبعض القضاة في القرى لتوزع على المحتاجين.
وما ابن آدم إلا ذكر صالحةٍ
أو ذكر سيئة يسري بها الكلمُ
معشر طلاب العلم والدعاة : كونوا على سيرة العلماء علمًا وتعليمًا وبذلًا وعطاء ومنهجًا وأخلاقًا.
فسيروا على ماساروا على البر واصنعوا.
معشر الشباب: موت العلماء كثر في الأمة، وأنتم الخلف لخير سلف، فكونوا على خطاهم وهداهم، {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وسير الرجال مدارس الأجيال، وأمتنا أمة الأبدال، فكلما مات عظيم قام مكانه آخر.
أيها الجيل: صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساء، كل منكم يقوم على ثغرة من ثغور هذا الدين في نفسه وأمته ووطنه، فجددوا نواياكم ومشاريعكم وأعمالكم، ودعوا الكسل والتسويف والبطالة والترف ومتابعة التافهين وضياع الأوقات والتلون والتذبذب والوهم الزائف، دينكم وأمتكم وأوطانكم بحاجتكم، فلا تبرحوا أماكنكم.
وَكُن رَجُلًا إِن أَتَوا بَعدَهُ
يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر
أيها الجيل العلمي: كونوا أوفياء وصورًا مشرقة مضيئة للعلم وأهله، لا تدنسوا ثياب العلم ، فالعلم شريف وحملته شرفاء.
أيتها الأجيال: أنتم الورثة للعظماء وخط الدفاع على ثغور دينكم وأوطانكم وأمتكم.
العلم العلم، والعقل العقل، والحكمة الحكمة، {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا}.
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثاني
لم تنته سير العظماء الربانية، وفي الأمة مازالت النماذج السامية لم تنقطع، ولا يزال الخير في أمة محمد ﷺ إلى قيام الساعة، وفي الزوايا خبايًا وفي الرجال بقايا.
إنها أنفاس طاهرة زاخرة، قدمت أرواحها ومهجتها في مرضاة الله،فما أعظمها وأجلها.
وتحية إجلال وإعظام حال الحياة وبعد الوفاة للعلماء الربانيين، ولكل من سار على نهجهم واقتفى أثرهم وهم ورثة الأنبياء.
كلنا راحلون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولمثل هذا فليعمل العاملون.