وفاة النبي صلى الله عليه وسلم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب الأرض والسماء. تفرد بالعظمة والكبرياء وتوحد بالنصرة والبقاء. هو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء - سبحانه - سبحانه - كتب لنفسه البقاء. وعلى خلقه الفناء. هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. أحمد الله وأشكره. وأتوب إليه وأستغفره. وأستعين به وأستنصره. وأسأله اللطف فيما جرى به القضاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله واصطفاه واجتباه ووفقه وهداه فكان صفوة البرايا الأوفياء. اللهم صل وسلم وبارك على رسول الله محمد خير عبادك وعلى آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وسار على دربه إلى يوم اللقاء. أما بعد فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم أستفتح بالذي هو خير. يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين. مخاطبا رسوله محمدا الصادق الأمين: بسم الله الرحمن الرحيم: \"إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا \".

 

عباد الله أيها المسلمون:

نزلت هذه السورة المباركة على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع. في عيد النحر. لتخبره بقرب أجله. وهذا لم يحدث إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- فالموت بالنسبة لنا لا نعرف موعده يأتي بغتة أو يسبقه مرض. فالعلل والأمراض بريد الموت فإذا جاء الأجل حضر الملك وقال للإنسان كم بريد بعد بريد وكم رسول بعد رسول وكم خبر بعد خبر. هاأنا البريد الذي ليس بعدي بريد وأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول وأنا الخبر الذي ليس بعدي خبر أجب ربك طائعاً أو مكرها وليبكي الباكي على نفسه. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- علم بقرب أجله فعاد من حجة الوداع وهو يعلم أنه بعد أيام يلقى الله. لهذا نزل عليه قول الله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله). ويصح في ذلك ما روى الإمام الطبراني - رحمه الله - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه السورة \" سورة النصر \" قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسيدنا جبريل: \" نعيت إلى نفسي يا جبريل\". وروى الإمام الطبراني - رحمه الله - عن بن عباس - رضي الله عنه - قال لما نزلت هذه السورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: \" نعيت إلى الرسول نفسه\". فأخذها بأشد ما يكون اجتهادا في أمر الآخرة، فقد نعت إلى الرسول نفسه. بما ضربت من مواعيد تحققت فامتثل لها الرسول أمر ربه. كي يختتم حياته بما ينبغي أن تختتم به حياة أفضل مجاهد عرفته البشرية كلها منذ فجرها الأول. ويصح في ذلك ما روى بن خزيمة-  رحمه الله - عن أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - قالت كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: \" سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه فقلت: يا رسول الله إنك تدعو بدعاء لم تدع به من قبل. فقال: إن الله أراني علامة في أمتي وتلا عليها السورة وقال فإني أستغفر الله وأسبحه تعالى \". لهذا كان من حق رسول الله أن يعرف باقتراب أجله وأن يعرف بانتهاء أيامه في هذه الدنيا. فقال على منبر مكة أمام آلاف الحجاج من المسلمين: \" أيها الناس خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا. ولما عاد من حجة الوداع جمع الناس وخطبهم وقال: أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب. ثم حث علي التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله ثم ودع الناس فقال الناس هذه حجة الوداع \".

وفي ذات يوم من أيام شهر صفر عاد من جنازة أحد أصحابه من الأنصار يشكو صداعا ألم به فاجتمع الأنصار حول بيته يبكون فطلب أن يصب عليه الماء من سبع قرب ثم خرج بعد أن أحس الشفاء. خرج معصوب الرأس فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأوصى بالأنصار خيرا ثم قال: أيها الناس إن عبدا خيره الله بين ما في الدنيا وما عند الله فاختار ما عند الله تعالى فبكي أبو بكر وقال: نحن نفديك بأنفسنا وأموالنا يا رسول الله. فكان أبو بكر أعرف الناس بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. ثم عاد إلى منزل عائشة واشتد عليه الألم واشتدت به الحمى فدعا بحضور فاطمة فحضرت ثم دعا بماء بارد فجيء بركوة فيها ماء بارد فجعل يضع يده الشريفة على الماء ويمسح وجهه الشريف ويقول - سبحان الله - إن للموت لسكرات. اللهم هون علي سكرات الموت, وتنظر فاطمة إلى ما ألم بأبيها وتقول: في صراخ وحزن وآكرب أبتاه. فيقول لها - صلى الله عليه وسلم-: لا كرب علي أبيك بعد اليوم. إن ما حدث لأبيك ليس الله بتارك منه أحدا إلى يوم القيامة. ثم أغمي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأسرعت عائشة إليه وضمته إلى صدرها فلما أفاق سمعته يقول: اللهم الرفيق الأعلى مع جبريل وإسرافيل وميكائيل مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما. ولما أصبح الصباح علا صوت بلال ولاح حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال الرسول لفاطمة مري بلال يقرئ أبا بكر السلام ويصلى بالناس. فبلغ بلال السلام والرسالة. وامتثل أبو بكر لأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم- وتقدم للصلاة وكبر فلما قرأ الحمد لله رب العالمين. تذكر موقف الرسول ومكان الرسول فخنقته العبرة. وبكى فبكى الناس أجمعون. فكان لهم ضجة سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فسأل ما هذه الضجة؟ فقالت فاطمة إنها ضجة لأن الناس افتقدوك في الصلاة يا رسول الله. فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخفف عنه الحمى. فاستجاب الله فخرج رسول الله متوضئا متوكئا على الفضل بن العباس وأسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب. فلما أحس المسلمون أنوار الرسول تخترق المسجد جعلت الصفوف تنفرج وجعل الرسول يخترق. وأراد أبو بكر أن يرجع ولكن أشار الرسول أن اثبت. فوقف حذو أبي بكر فلما ختم الصلاة رقى المنبر. وقال أيها الناس: بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم فهل خلد نبي من قبلي فيمن بعث فيهم؟ ألا وإني لاحق بربي وأنتم لاحقون بي. ألا وإني فرطكم وأنتم لاحقون بي ألا وإن موعدكم الحوض وإني أنظر إليه من مقامي هذا. أوصيكم بالمهاجرين خيرا وأوصي المهاجرين فيما بينهم خيرا أوصيكم بالأنصار خيرا ألم أبلغ الرسالة. ألم أؤد الأمانة؟! فقالوا: بلي يا رسول الله! لقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وكشفت الغمة وجاهدت في سبيل ربك حتى أتاك اليقين فجزاك الله خير ما جازى نبيا عن أمته. أيها الناس إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على شفير قبري ساعة فإن أول من يصلي على الله - عز وجل - ثم الملائكة يصلي علي جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة وذلكم قوله – تعال- :\" إن الله وملائكته يصلون على النبي\"ثم رجال من أهل بيتي ثم نساء من أهل بيتي ثم ادخلوا علي الأدنى فالأدنى زمرا زمرا وجماعات جماعات فصلوا علي وسلموا تسليما كثيرا. ولا تؤذوني بصيحة ولا ضجة ولا رنة ولا تصلوا علي بإمام فإن رسول الله سيد الأئمة. ثم نزل وذهب إلى بيت عائشة واشتد به المرض ونام بين سحرها ونحرها. وبدأ يثقل فلما أفاق نظر فإذا جبريل ومعه ملك الموت قال من؟ قال جبريل وقد أرسلني الله إليك أخيرك فإن أردت أن تنتقل إلى الله فهذا ملك الموت فإن كنت تريد خلودا خلدك الله. فقال له ائذن لملك الموت فدخل فسلم على رسول الله وقال له أمرني ربي بطاعتك فنظر جبريل إلى النبي فقال له لقد طال شوق الله إليك. فقال: وأنا قد اشتقت إلى لقاء ربي..وسرعان ما أشرقت الشمس وعلا معها صوت فاطمة الزهراء تدق على مسامع الوجود ذلك البيان المحزن واأبتاه أجاب ربا دعاه.واأبتاه إلى جبريل ننعاه.واأبتاه إلى جنة الفردوس مأواه. فلما علم الصحابة منهم من أخذته الدهشة. ومنهم من أغمي عليه. ومنهم من أخرس. حتى إن عمر بن الخطاب قال بلسانه: من قال إن محمدا قد مات قطعت رقبته بسيفي هذا. فاستدرك أبو بكر الموقف ورقى المنبر وقال: أيها المسلمون من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي باق لا يموت أبدا وقرأ قول الله: \"و َمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرٌّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أَعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَىَ عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيئاً وَسَيَجزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144]فقال عمر وكأني لم أسمعها من قبل. وهكذا توفي رسول الله خير الخلق. كي ما يدلنا على أنه لو كانت الدنيا تدوم بأهلها لدام رسول الله حيا وباقيا. فلما أرادوا غسله قالوا: ما ندري أنجرّد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم أحد إلا وذقنه في صدره، ثم كلّمهم مكلّم من ناحية البيت لا يدرون من هو: (أن غسّلوا رسول الله وعليه ثيابه). فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، فيدلكون دون أيديهم. فكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل رسول الله إلا نساؤه. وعن علي: (أنه لما غسّل رسول الله ذهب يلتمس منه ما يلتمس من الميت فلم يجد شيئا، فقال: بأبي الطيب! طبت حيا وطبت ميتا). فلما فرغوا من غسله كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. كما قالت عائشة - رضي الله عنها -. ثم أخذوا في الصلاة عليه فرادى، لهم يؤمهم أحد، دخل الرجال ثم النساء ثم الصبيان. فلما أرادوا دفنه اختلفوا أين يدفنونه؟ فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله شيئا ما نسيته، قال: (ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه، فدفنوه في موضع فراشه). وكان بالمدينة رجل يلحد، وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه. فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي. قالت عائشة - رضي الله عنها -: ما علمنا بدفن النبي حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء. فلما فرغوا من دفنه قالت فاطمة - رضي الله عنها -: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب!!. اتقوا الله عباد الله واتعظوا بوفاة نبيكم صلى الله عليه وسلم \"يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخشَوا يَوماً لَّا يَجزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَولُودٌ هُوَ جَازٍ, عَن وَالِدِهِ شَيئاً إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقُّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدٌّنيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ [لقمان: 33].

 

روي أهل الأثر قالوا لما نزل قول الله -تعالى-: \"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا \" بكى أبو بكر وقال ليس بعد الكمال إلا الزوال, وليس بعد التمام إلا النقص وصدق من قال

 

لكل شيء إذا تم نقصـــــــــان * * *  فلا يغر بطيب العيش إنسان

 

هي الأمور كما شاهدتها دول  * * * من سره زمن ساءته أزمان

 

وهذه الدنيا لا تبقي على أحد  * * *  ولا يدوم على حال لها شـان

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

قال -تعالى- مخاطبا رسوله: \" إنك ميت وإنهم ميتون \"روي عن بن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخلت على رسول الله وهو بين الحياة والموت فدمعت عيناه وقال: مرحبا بكم حياكم الله. نصركم الله. آواكم الله لقد دنا الفراق إلى سدرة المنتهى.أقرؤا على أنفسكم مني السلام وعلى من دخل من دنيانا من بعدي الإسلام السلام والسلام عليكم ورحمة الله. وموت النبي أعظم مصيبة ابتليت بها الأمة. فمن مات له حبيب أو قريب ورأى أن المصيبة جلل فليتذكر مصابه بفقد الحبيب - صلى الله عليه وسلم- فإنه يخفف عنه المصيبة. ومن ثم فالموت موت ليس منه فوت والكل يموت فسبحان الحي الذي لا يموت.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply