العدل بين الأولاد في العطية والوقف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتَقوَى اللهِ - جل وعلا -. أيّها المسلمون، إنَّ خيرَ ما يشتَغِل به الإنسانُ في حياتِه هو الفقهُ في دينِه والتبصٌّر في تعاليم إسلامه، يقول رسولُ الله: ((مَن يُردِ الله بِه خيرًا يفقِّهٌّ في الدين)) متفق عليه.

إخوةَ الإسلام، مسألة يجهلها بعض المسلمين، فيقع فيها من غيرِ أن يدركَ حكمَها، أو أن يستبصر عاقبَتَها، إنها التفضيلُ بين الأولادِ في العطيَّة، وتفضيل بعضِهم على بعضٍ, على وجهِ المحاباة والتَّميِيز.

أيّها المسلمون، إنَّ المشروعَ للعَبدِ أن يسوِّيَ بين أولادِه في رعايته وعطيَّتِه وسائر شؤونِه وفقَ وصية الله لعبادهº إذ يقول - جل وعلا -: يُوصِيكُم اللَّهُ فِي أَولادِكُم [النساء: 11]. قال إبراهيمُ النخعي: \"كانوا يستحبون ـ أي: السلف  التسويَةَ بين الأولادِ حتى في القُبَل\". فلا يجوز للأبِ أن يفضِّلَ بعضَ أولاده على بعضٍ, في العطيّة والهدية، ولا يجوز له أن يميِّز بعضَهم دون غيرِه من أولادِه في ذلك، رَوَى النعمانُ بن بشير - رضي الله عنهما - قال: تصدَّق عليَّ أبي بصدقةٍ, من بعض مالِه فقالت أمِّي: لا أرضَى حتى تُشهِدَ رسولَ اللهِ، فانطَلَق أبي إلى رسولِ الله ليُشهِدَه على صَدَقَتي، فقال رسولُ الله: ((أكُلَّهم نحلتَه كذلك)) قال: لاَ، قال رسول الله: ((اتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادِكم))، فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة. رواه مسلم. وفي لفظٍ,: ((فاردُده))، وفي لفظٍ,: ((فأَرجِعه))، وفي لفظٍ,: ((لا تشهِدني على جَور))، وفي لفظٍ,: ((فلا تشهِدني إذًا)) وفي لفظٍ,: ((فأشهِد على هذا غيري)) متفق عليه. وفي لفظٍ, آخر: ((سوِّ بينَهم)) رواه أحمد والنسائي. قال الفقهاء: وهذا دليل على التحريمِº لأنّه سماه جَورًا، وأمَرَ برَدِّه، وامتَنَع من الشهادةِ عليه، والجَورُ حرام، والأمرُ يقتضي الوجوبَ.

واعلم ـ أيها المسلم ـ أنَّ الأمَّ في المنع من المفاضَلَةِ في العطيّة بين أولادها كالأبِ لعمومِ قولِه: ((اتَّقوا اللهَ واعدلوا بين أولادكم)).

أيّها المسلمون، والراجِحُ من القولين من أقوالِ أهلِ العلم في عطيَّةِ الأولاد القسمَةُ بينهم على قدرِ ميراثِهمº للذكرِ مِثلُ حظِّ الأنثَيَين. قال شُريح لرجل قسم ماله بين أولاده: \"اردُدهم إلى سهامِ الله وفرائضه\"، وقال عطاء: \"ما كانوا يقسِمون إلاّ على كتاب الله - جل وعلا -\".

إخوةَ الإيمان، وأما تخصيصُ بعضِ الأولاد لمعنى يَقتضيه تخصيصُه من حَاجَةٍ, أو نَفَقَة للولد أو مَرضٍ, أصابَه أو كَثرةِ عيالٍ, عنده أو لاشتغالِه بعلمٍ, ونحوه فإنه لا بأس حينئذٍ,º لعدمِ قصد التخصيصِ والأَثَرة، ولا يلزمُ الأَب حينئذٍ, أن يسوِّيَ في ذلك، بل يعطي كلاًّ على حسبِ حاجته، بدون أن يقصد التفضيلَ أو الأَثَرَةَ له على غيره، والأعمالُ بالنّيّاتِ كَمَا ثَبَت ذلكَ عَنِ النبيِّ.

عبادَ الله، ومَن وقَع في تفضيلِ بَعضِ أولادِهِ على بعضٍ, في العطيَّة فالواجبُ المتحتِّم عليهِ العَدلُ بينهمº إمّا برجوعٍ, في عطيَّتِه التي خُصَّ المعطَى بها، أو بإِعطاءِ بقيَّة الأولادِ بِالمثل على قاعِدَة: (للذكَر مثلُ حظِّ الأنثيين).

إخوةَ الإسلام، وتحرُمُ الوصيَّة لوارِثِه من ولدٍ, وغيرِهº لظاهر قوله: ((إنَّ الله قد أَعطَى كلَّ ذِي حقٍّ, حقَّه، فلا وصيَّةَ لوارث))، وصحَّ عن ابن عباسٍ, - رضي الله عنهما - موقوفًا: (الإضرارُ في الوصيَّة من الكبائر)، ولكن إذا أجاز ذلك باقي الورثةِ جازت في قول جمهور أهل العلم، كما في زيادة عندَ الدارقطنيّ والبيهقي: ((إلا أن يجيزَ الورثةُ)). وإن أسقَطَ عن وارِثِه دينًا أو أوصَى بِقضاءِ دَينِ وارِثِه، فهو كالوصيَّةِ ما لم تَقُم قرينة قويّة ثابتة على صِدقِه في ذلك. ومن أعطَى عَطيَّة أو وهب هِبَةً وهو في مَرَضِ موته المخُوفِ لأحد أولاده فحكمُ عطيّته حكمُ الوصيّة، فلا تنفذ إلاّ بالثلث، ولا تصحّ للوارث إلى بإجازَةِ الورثة إن مات الموصي في مرضِه ذلك.

 

إخوةَ الإسلام، ومن القواعِدِ الكلّيَّة في الفقه الإسلامي: (الأمورُ بمقاصدها)، ومن أصول الإسلام: (الأعمال بالنيّات)، فمن قصد مضادَّةَ شيءٍ, شرَعَه الله فعمله غير جائز في حكمِ الله. وإنَّ مما ينبغي الحذرُ منه الوقوعَ فيما يمنع وارِثَه من الميراث بأيِّ حيلة كانت، فذلك كبيرة من الكبائر كما نص على ذلك الحجّاويّ وغيره من أهل العلم، قال السفاريني - رحمه الله -: \"لا ريبَ أنَّ مَن قصَدَ منعَ ميراث ورَثَتِه قد ارتكب ذنبًا عظيمًا وجُرمًا جَسيمًا، سيَّما في هذه الحَالةِ التي يَصدُق فيهَا الكاذِب ويَتوبُ فيها الفاجِر، فإقدامُه على ذلك فيهَا دَليلٌ ظاهر على قسوةِ قَلبه وفسادِ لُبِّه\" انتهى.

فبعضُ الناس ـ أيها المسلمون ـ يريد مَنعَ أولاده من التصرٌّف في مالِه بعد انتقاله إليهم من بعد موته، فيتَّجه إلى حيلة الوقف، وقصدُه منعُ الورثةِ مِنَ التصرف في الموروث ببيعٍ, أو تصرّف ناقل، وهذا مذمومٌ شرعًا، قال الشيخ عبد الرحمن بن حَسَن - رحمه الله - فيمَن هذا قصدُه: \"وهذا في الحقيقةِ يريد أمرين: الأول: تحريمَ ما أحلَّ الله لهم من بَيعِه وهديّتِه والتصرّف فيه، والثاني: حرمانَ زوجات الذكورِ وأزواجَ الإنَاثِ فيشابِهُ مشابهةً جيِّدَةً ما ذكره الله عن المشركين في سورة الأنعام\" انتهى كلامه.

وليحذر المسلم من تفضيلِ بعضِ الأولاد على بعض في الوقف، فذلك مما حرَّمَه رسول الله بعموم قولِه: ((اتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادكم))، ولكن لو أوقَفَ على المحتاجِ مِن ذرّيّته فلا بأسº لما ذكَرَه البخاري عن ابنِ عمَرَ - رضي الله عنهما - أنّه وقفَ نَصيبَه من دارِ عُمَر لذَوِي الحاجة من آل عبد الله.

قال ابن قدامة - رحمه الله -: \"والمستحَبٌّ أن يَقسِم الوقف على أولادِه على حَسبِ قِسمَة الله - تعالى -في الميراث بينهم للذكّرِ مثل حظ الأنثيين، وإن خالف فسوَّى بين الذكر والأنثى أو فضَّلها عليه أو فضَّل بعضَ البنين أو بعض البنات على بعض أو خصَّ بعضَهم بالوقف دون بعض فقال أحمد في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق الأثَرَة فأكرههُ، وإن كان على أنَّ بعضَهم له عيالٌ وبه حاجة يعني فلا بأس به، ووجهُ ذلك أن الزبيرَ خصَّ المردودةَ من بناتِه دونَ المستَغنِيَة منهنّ بصدقَتِه، وعلى قياس قول أحمد لو خصَّ المشتغلين بالعلمِ مِن أولاده بالوقفِ تحريضًا لهم على طَلَبِ العِلمِ أو أذَا الدّينِ دون الفُسَّاق أو المريضَ أو مَن له فضيلةٌ من أجلِ فَضيلَتِه فلا بأسَ، وقد دلَّ على صِحّة هذا أنَّ أبا بكرٍ, الصدّيقَ نحلَ عائشةَ جذاذَ عشرين وسقًا دون سائر وَلَدِه. أخرجه مالك\". انتهى كلامه - رحمه الله -.

أيّها المسلمون، هذه أحكامُ دينكم، وتلك شريعة ربِّكم، فالتزموا بها، وتمسكوا بمضامِينِهاº تفلِحوا وتسعَدوا في الدنيا والآخرة. بارك الله لي ولكم في القرآن، ونَفَعَنا بما فيه من الآيات والهدَى، وأقول قولي هذا، وأستَغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وليِّ الصالحين، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله أفضل العالمين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى أصحابه أجمعين.

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله - جل وعلا -، فهي وصيّتُه اللازِمَة للأوّلين والآخرين.

أيّها المسلمون، وبعضُ الناسِ يوقِف على أولادِ الظّهور دون أولاد البُطُون، أي: أنّه ينصٌّ على حِرمَان أولادِ البنات، وهذا وإن أجَازَه بعضُ الفقهاء فالَّذي ينظُرُ إليه بتمعٌّنٍ, يجِد أنه وقفٌ أريد به حِرمان أولادِ البنات في عاقبةِ الأمر ممّا أباحَه الله - جل وعلا - لأمَّهاتهنَّ من ميراثº ولهذا فالمحقِّقون على التحذيرِ منهº استنادًا لنصوصِ الوحي ومقاصِد الشريعة، قال الشيخ عبد الرحمن بن حَسَن - رحمه الله - في أثناءِ جوابٍ, له: \"وما أشرتَ إليه من أنَّ بعضَ الناس يوقف عقارَه وشجَرَه على ذرّيّتِه الذكور ما تناسَلوا والأنثى حياتَها فهذا وقفُ الإثم والجَنَبº لما فِيهِ من الحيلة على حرمان أولاد البناتِ ممّا جعله الله لهم في العاقبة، وهذا الوقفُ على هذا الوجهِ بِدعةٌ ما أنزل الله بها من سلطان، وغايتُه تغييرُ فرائضِ الله بحيلةِ الوقف، وقد صنَّف فيه شيخنا محمّد بن عبد الوهّاب - رحمه الله - وأبطَلَ شُبَه المعارضين\" انتهى كلامه المتين. وفي فتاوى الإمامِ عبد الكريم بن زيادٍ, الشافعيّ - رحمه الله - ما لفظه: \"وأما الوقفُ على الذكور من الأولادِ دونَ الإناثِ فقد عَمَّ في جِهَةِ الجِبال، والقواعدُ ـ أي: القواعد الشرعيّة ـ مُشعِرَة بقَصدِ حِرمانهنّ، بل ربما يصرِّحون بِذَلك، فالواجبُ القيام في إبطال هذا الوقف\" انتهى. وقد ذكر مثلَ هَذَا التقرير الألوسيّ في تفسيره ممّا تؤيِّده مقاصدُ الشريعة وغاياتها وأهدافُها وعدلُ أحكامِها ونُبل تعاليمها.

أيّها المسلمون، وأعظَمُ الفرائضِ الإكثارُ مِنَ الصلاةِ والتّسليم على النبيّ الكريم.

اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا محمّد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائرِ الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللّهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين...

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply