حرمة المال العام


بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد فإن الله - تعالى - استخلف الناس فيما جعل تحت أيديهم من المال، وجعل من المال مالا مشتركا بين المسلمين، ينتفع به فقراؤهم وأغنياؤهم على حد السواء، أو يكون مختصا بشريحة من شرائحهم وفئة من فئاتهم، وهذا هو المال العام الذي هو حق مشترك للمسلمين تشترك فيه الأجيال اللاحقة مع الأجيال الموجودة.

وهذا المال العام مملوك لله - سبحانه وتعالى - ومستغل من طرف كل الشركاء فيه من المسلمين، ويجب الحفاظ عليه واحترامه، ويحرم إزهاقه وإهداره في غير طائل، وحرمته أشد من حرمة المال الفردي، لأن المملوك الفردي حقه مقتصر على صاحبه، والمال العام حقه مشترك بين جميع المسلمين، ولذلك فهو أشد حرمة من غيره ويترتب على أخذه توزع الحق وأن يكثر الخصماء يوم القيامة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه عند موته دعا عبد الله بن عمر فقال له انظر إلى كل شيء كنت أخذته من بيت المال وقد كتب ذلك فاردده إليه فإن كان في مال آل عمر وفاء فذاك وإلا فاسأل في بني عدي ابن كعب، وإلا في بطون قريش فلأن يكونوا خصما لي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون، والمقصود أن عمر - رضي الله عنه - كان يأخذ راتبه من بيت المال، وهذا الراتب كان حدد لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بمشورة واتفاق من المسلمين، فلما تولى عمر الخلافة أخذ ما كان يأخذه أبو بكر من المال العام، وهو راتبه، ولم يزد عليه، فلما مات خشي ألا يكون قام للمسلمين بما قام به أبو بكر، وأن يكون قد فرط في بعض مسؤولياته، فأراد أن يرجع جميع رواتبه لمدة عشر سنوات وأشهر لبيت المال، فأرجع راتبه طيلة هذا الوقت إلى المسلمين، ولم يأخذ هو من المال إلا ما كان حقا له، ولا شك أن راتب عمر ينبغي أن يكون أكثر بكثير من راتب أبي بكر - رضي الله عنه -، للزيادة الحاصلة في بيت المال ولاتساع الرقعة وفتح كثير من الأمصار التي لم تكن مفتوحة في أيام أبي بكر - رضي الله عنه -، ولكنه تورع من ذلك خشية أن يكون لم يقم بما كان أبو بكر يقوم به على الوجه الصحيح، وكذلك فإن عثمان - رضي الله عنه - لما تولى الخلافة لم يأخذ أي راتب من بيت المال ودعا المسلمين وقال: ما كان في بيت مالكم فهو رد عليكم فقد أغناني الله عنه بتجارتي.

وكذلك لما تولى علي - رضي الله عنه - الخلافة لم يأخذ من بيت المال إلا ما كان يعطيه الخلفاء الراشدون من قبل، أي عطاءه الذي كان يستحقه كأحد السابقين الأولين من الصحابة ولم يأخذ شيئا على خصوص الخلافة، وكان يوزع ما في بيت المال على المستحقين بشهادة الشهود، فإذا نفد ما فيه قَمَّهُ بردائه ونضح فيه من الماء وصلى فيه ركعتين.

وهذا المال العام خطر أكله عظيم جدا، فإن من أكل منه شيئا جاء يحمله على عنقه يوم القيامة وهو يصيح وينادي فتحصل الفضيحة والأذى والتعب الشديد بتطويقه له، فمن أخذ أرضا من المال العام ليست ملكا له طوقها من سبع أرضين يوم القيامة، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ولا تزدد في تخوم فإنك تأتي يوم القيامة وعليك مقدار سبع أرضين، وهذا من حديث أميمة مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الحاكم في المستدرك وغيره.

وكذلك قال: من اغتصب شبرا أرضا طوقه من سبع أرضين يوم القيامة، وقد اختلف أهل العلم في معنى طوقه على ثلاثة أقوال، القول الأول: أنه يعقد على عنقه فيأتي يحمله على ظهره، والقول الثاني أن معناه جعل له كالطوق وهو القلادة فيقلد به من سبع أرضين تثقب فيجعل فيها عنقه، يطول عنقه حتى تجعل له قلادة من تلك الأرض التي اغتصبها، والقول الثالث أن معنى طوقه أي كلف به فيأتي يحمله ويعطى طوقا على حمله والطوق هو القدرة أي يعطى قدرة على حمله فيأتي يحمله وهو يصيح يوم القيامة.

وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الغلول فعظم من شأنه، فقال: ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء يقول: يا محمد أغثني ولست له بمغيث، ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار يقول يا محمد أغثني ولست له بمغيث، ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة تيعر يقول: يا محمد أغثني ولست له بمغيث، ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته فرس لها حمحمة يقول: يا محمد أغثني ولست له بمغيث، ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تلوح يقول: يا محمد أغثني ولست له بمغيث، ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت يقول يا محمد أغثني ولست له بمغيث.

فكل من أخذ شيئا من المال العام فإنه يعذب به بحمله قبل الفصل بين الناس يوم القيامة، وقد جاء أيضا تعذيبه به في القبر، فقد ورد أن رجلا كان يسمى كِركِرَة كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج معه في غزوة خيبر ووادي القرى، فأصابه سهم فقتل، فقال الناس: طوبى له الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إن الشِّملَة التي غل لتحترق عليه، فبين أن هذا الرجل قد غل شملة وأنها تحترق عليه، وذلك بعذاب القبر ويكون تخفيفا من عذابه يوم القيامة أو مكفرا من مكفرات الذنوب، فعذاب القبر من مكفرات الذنوب، إذا عذب الإنسان فنال جزاءه فإنه يكفر عنه ذلك الذنب الذي عذب به في قبره نسأل الله السلامة والعافية، وكذلك فإن رجلا آخر غل شيئا فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الغنيمة ووقف عليها كالمغضب وتكلم في الغلول وعظم من شأنه، فلما سمع أصحابه ذلك جاؤوا يبكون فكل إنسان منهم قد أخذ شيئا جاء يحمله حتى جاء رجل بخرزات في يده ومخيط وخيط لم يأخذ سواها فردوا كل ذلك، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيا من الأنبياء خرج في قومه في غزوة، وكان الأنبياء من قبل لا تحل لهم الغنائم وإنما يجمعونها فتأتي نار فتأكلها، فإذا جاءت النار فلم تأكلها دل ذلك على أن فيهم غلولا، فخرج نبي من الأنبياء فغنم فجمعت الغنائم فأتت النار فلم تأكلها، فبين لأصحابه أن فيهم غلولا، فأراد أن يحدد مكانه فأمر كل بطن منهم أن يبايعوه فمن لصقت يده في يد النبي دل ذلك على أن الغلول فيهم، فجاء أصحابه يبايعونه حتى لصقت يد رجل في يده فعرف أن الغلول فيهم، أي في ذلك البطن، فجاؤوا بمثل رأس البقرة من الذهب كانوا قد غلوه فأكلت النار تلك الغنائم، وهذا يدل على خطر الغلول فإنه يقتضي عقوبة دنيوية وعقوبة برزخية، وعقوبة أخروية، وكل أخذ من المال العام هو داخل في نطاق الغلول سواء كان مما تحت يد الإنسان منه كمن كان مديرا لأية مؤسسة أو قائما على أي عمل فإن قيامه به يجعله أمانة لديه، والأمانة أخت الدين ولا إيمان لمن لا أمانة له، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان، فمن كان من أهل الخيانة في أمانته وما جعل تحت يده فإن إيمانه ناقص، وهو صاحب نفاق نسأل الله السلامة والعافية، وإن لم يكن تحت يده فاحتال عليه بأخذه بأية وسيلة من وسائل الاحتيال وهو غال ويعتبر ذلك سرقة ونهبا من المال العام، وهو أشد من حقوق الأفراد كما ذكرنا، وأشد أيضا من حقوق اليتامى وحدهم، وقد قال الله - تعالى -: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}.

فاحتيال الناس على المال العام أخذ أوجها كثيرة، فمنها ما يتعلق بالبيع الصوري واستيراد الأجهزة والأدوات، وهذا ما تفنن فيه الناس في مشارق الأرض ومغاربها تفننا كبيرا، فأصبحت الإدارات في كثير من البلدان إذا أرادت استيراد بعض ما يحتاج إليه من أدوات العمل فأقامت مناقصة لذلك لا بد أن يأخذ المسئولون حظا من الثمن فيأخذونه من بيت المال كرها، والبائع أو المستورد لا يرضى ذلك لكنه لا يستطيع المشاركة في المناقصة إلا إذا قدم ذلك.

وكذلك أن كثيرا منهم تخرب ذمته فيقيم المناقصات للأدوات وهو لا يريد تملكها والمؤسسة ليست بحاجة إليها، ولكنه يريد الاحتيال على أخذ المال العام فقط، فقد حدثت أن وزيرا في بلد من البلدان الإسلامية أرسى مناقصة لاستيراد بعض الأدوات التي تحتاج إليها وزارته، فأتاه التاجر الذي رست المناقصة عليه فلما دخل على الوزير قال: قد رست عليك المناقصة ولكن لا تنس أن تؤدي خمسة عشر بالمائة من الثمن، فلم يكن من التاجر إلا أن قبل ذلك مرغما عليه ليس له بد من قبوله ثم خرج إلى الأمين العام للوزارة أو الكاتب الأول للوزارة وهو وكيل الوزارة، فأيضا سأله مبلغا مساويا للمبلغ الذي سأل الوزير لم يسأله وإنما أخبره أنه ترتب عليه، فإذن أخذ إلى الآن ثلاثون بالمائة من نصيب التاجر من المال، فلما ذهب إلى المدير المباشر الذي سيسلمه الأوراق وسيستلم منه البضائع قال له: لا تنس عشرة بالمائة، فقال: خلاص أنا منسحب من المناقصة لأن الوزير يريد خمسة عشر بالمائة والوكيل يريد خمسة عشر بالمائة وأنت تريد عشرة بالمائة فهذه أربعون بالمائة ولم يبق لي ما أستورد به البضاعة المطلوبة، فقال: من كلفك أن تستورد أية بضاعة، الصفقة انتهت هنا، سلم للوزير خمسة عشر بالمائة وللوكيل خمسة عشر بالمائة ولي عشرة بالمائة والباقي لك ولا تستورد شيئا.

فهذا غاية في الفساد والاعتداء على المال العام والتحايل والخيانة، وهو عمل مشترك بين هؤلاء جميعا، فهم شركاء جميعا في هذه الجريمة، والتاجر شريك لهم إذا رضي بذلك ولم يبلغ به، وكذلك نجد كثيرا من الذين يتولون بعض الأعمال يحابون بعض أقاربهم فيكلفونهم بشراء المواد ليكون لهم نصيب من ثمنها فيزيد الغلاء على الدولة على حساب المواطنين في مقابل ربح ذلك الشخص الذي لا يستحقه وإنما هو مجرد محاباة له، وهكذا شر المحاباة ما كان أيضا بشراء مواد لا تصلح وفيها الخلل البين، ويختارها المسئول محاباة فيأكل منها مالا حراما يتعجله، ويكون مخلا بعمله وبأمانته ووظيفته، وقد باع دينه بعرض من الدنيا.

ونظير هذا كثير جدا في كثير من البلدان الإسلامية مع الأسف، ولا بد من الحذر منه ومحاربته بالكلية، وأين نحن من عمر بن عبد العزيز الذي كان قبل توليه الخلافة يوقد مصباحا لقراءة مصحفه، فلما تولى الخلافة وجاء إلى دار الخلافة إذا فيها القناديل والأضواء التي هي غاية في الحسن والجمال وهي تبع لدار الخلافة، فلما انتهى من عمله أطفأ أنوار الخلافة ودعا بمصباحه الذي كان يوقده لقراءة مصحفه، فقيل له في ذلك، فقال: هذه الأضواء لبيت المال فلا أستغلها إلا في مصلحة المسلمين، أما ما كان من مصالحي أنا فإنما أستغل فيه مصباحي الذي كنت أوقده قبل الخلافة.

وما نشاهده كذلك من استغلال السيارات التي هي ملك عمومي في خارج أوقات العمل، ومن استغلال الهواتف كذلك في الاتصالات الفردية التي هي لصالح الفرد نفسه وغير ذلك كله من هذا الغلول الذي هو محرم وهو خيانة للأمانة وكثيرا ما يترتب على ذلك أضرار كثيرة، منها أولا إفساد العمل بتبذير ميزانيته في غير طائل، ومنها أيضا إفساد المجتمع بتعويد الناس على الرشوة والمحاباة والخيانة، ومنها كذلك إفساد الشخص نفسه، فمن جرب عليه ذلك لم يعد محلا للثقة ولم يعد صالحا لتولي المسؤوليات ما لم تظهر توبته واستقامته.

والرشوة داء عضال، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لعن الله الراشي والمرتشي والرائش، والرائش هو الذي يمشي بينهما ليأخذ الرشوة من الراشي فيدفعها إلى المرتشي، والرشوة هي بذل مال للتوصل إلى إزهاق حق أو تقوية باطل، فمن دفع مالا من أجل أن يتوصل إلى ما ليس حقا له إنما هو حق لغيره كالحق العام ونحو ذلك فهو راش والذي أخذ ذلك مرتش، وكذلك من دفع مالا من أجل تزوير شهادة أو تزوير مستوى أو النجاح في مسابقة صورية أو غير ذلك كل هذا من الرشوة المحرمة.

ونظير ذلك أيضا ما يفعله كثير من الناس حيث يتولون بعض الأموال العمومية أو المصالح العمومية فيحابون بها لمصالحهم الخاصة كمكانتهم الاجتماعية أو للحصول على أصوات في الانتخابات أو نحو ذلك عن طريق تأثيرهم بمراكزهم الوظيفية فكل ذلك من أكل المال العام وتبذيره في غير وجهه وكله من الغلول الذي توعد أصحابه بهذا الوعيد الشديد، وكذلك لا شك أن الغلول فيه ضرر مستشر لأنه يلحق الأجيال اللاحقة، وقد حدثت في بعض البلدان الإسلامية أن بعض أصحاب الدراسات الاستراتيجية ذكروا أن إساءة استغلال موارد البلاد أدى إلى حرمان الأجيال اللاحقة بنسب كبيرة.

فمثلا الأسماك في كثير من البلدان الإسلامية كانت مصدرا مهما للثروة، وكان بالإمكان أن يستغني بها أجيال المجتمع المتلاحقة، فيأخذ كل جيل على قدر حاجته، وعلى قدر مستواه ويكون ذلك بحفاظ على البيولوجيا والحفاظ على هذه الموارد، وعدم الإسراف في استغلالها وعدم مخالفة الأنظمة في ذلك، ولكنها انتهبت نهبا رهيبا مما أدى إلى نضوب هذه الثروة وزوال نصيب الأجيال المستقبلية واللاحقة منها، فكان ذلك ظلما للذين لم يولدوا بعد، ومن المؤسف أن يأتي الإنسان يوم القيامة فيخاصمه من عرفه ومن لم يعرفه، يخاصمه أجيال ما ولدوا في حياته ولا في حياة أولاده ولا في حياة الذين بعدهم وهم جميعا يخاصمونه كل إنسان منهم يريد لديه حقا ثابتا لا يستطيع إنكاره قد أخذه من حقه.

وكذلك لا شك أن من المؤسف جدا أن يكتب على الإنسان تصرفات أقوام لحقوه في الأمر، فإن كثيرا من الناس إذا دعوا إلى الفساد أو عملوا به أصبحوا مدرسة يقتدى بهم في أعمالهم، وقد حدثني أحد الثقات أن بعض المتقنين لقضية نهب المال العام خرج لإجراء صفقة وهي استيراد حاجة بلاده من السكر في جهة معينة، وهو لا يستطيع اختلاس شيء من الثمن ولا نقص الكمية للرقابة القوية عليه ولكن لمهارته في نهب المال العام والغلول ذهب إلى الشركات المصنعة فبحث في أي شيء يستطيعون استغلاله فإذا المواد محددة وهم لا يستطيعون نقص المواصفات لأنها تجارتهم وصناعتهم، والثمن محدد وهم لا يستطيعون نقصه، لكن السكر إذ ذاك كان سكر القوالب التي يجعل عليها ورقتان ورقة بيضاء على السكر مباشرة وورقة خضراء فوقها، وفوقهما سلك يربط، فقال: لا نريد الأسلاك هذه واجعلوا على السكر ورقة واحدة، وادفعوا إلي مقابل ذلك، فدفعوا إليه مقابل ورقة في كل قالب وأيضا مقابل ذلك السلك فكان من ذلك مال كبير اشترى به سيارة فارهة.

فهذا النوع هو من استغلال المهارات والدهاء في استغلال المال العام وانتهابه، ولا شك أن هذا النوع من المهارات لا تحمد عقباها، وأن على الإنسان إثمها وإثم من عمل بها من بعده، فقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا، وفي مقابل هؤلاء نجد آخرين من أصحاب الورع والصدق الذين هم محل ثقة وهم قليل، ولكنهم يؤدون الأمانة على وجهها، فقاض من قضاتنا رحمة الله عليه عندما أراد تقديم استقالته من وظيفته بسبب عدم استقلال القضاء وبعض الضغوط عليه قدم القلم الذي كان يكتب به وهو في جيبه فقال: هذا القلم ملك للدولة قدمه مع استقالته.

وكذلك أحد المسؤولين الكبار وكان على هيئة مهمة من الهيئات الخدمية التي تقدم الخدمات للمجتمع وبالأخص للفقراء، وقد كان - رحمه الله - شديد الحرص على أداء الأمانة وعدم استغلالها بالكلية وكان يقتدي بعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في عدم محاباة أهله وأقاربه، فعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما أتاه عقيل بن أبي طالب وهو أخوه وأسن منه وسأله أن يعطيه مالا يتجر به، ذكر له حاجته وفقره، فقال: دعني حتى ينام الناس، فلما نام الناس أتاه فقال: اذهب إلى بيت المال فاكسر بابه وخذ ما فيه، فقال: أتأمرني بالسرقة؟ قال: أفتأمرني أنت بالسرقة؟ لا أدفع إليك إلا شيئا آخذه من بيت المال فما الفرق بين سرقتي وسرقتك، فامتنع علي - رضي الله عنه - من إعطاء أخيه، إلا ما يستحقه ولم يتجاوز ذلك.

فكذلك كان هذا المسئول رحمة الله عليه وهو من المسؤولين المشهورين بالورع في بلادنا، يأتسي بهذا النوع فلم يكن يأخذ شيئا لنفسه ولا يحابي أحدا في مسؤوليته وقد كان على مفوضية الأمن الغذائي فعرف بالصدق وأصبح محل ثقة لدى الناس جميعا في تصرفه، وهذا ينبغي أن يكون أسوة وينبغي أن يشهر ليقتدى به ويؤتسى به، فمن كان صالحا في أي عمل قام به ومن أدى العمل على وجهه وبالأخص في وقت الفساد فأجره أكبر بكثير ممن صلح في وقت الصلاح، فمن كان صالحا في وقت الفساد أجره عظيم جدا، وقد أخرج الترمذي في السنن من حديث نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنتم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس من أتى منهم بعشر ما أمر به نجا.

ولذلك يرجى الخير الكثير لمن كان من أهل الصدق والإخلاص والصيانة والعفة في هذا الوقت الذي كثر فيه الفساد واستشرى، ولا شك أن المسئول الذي يخرج من وظيفته بالموت أو بالعزل فإذا كشف لم يوجد لديه من المال إلا ما دخل به أو ما تعين بالوظيفة هو يملكه فهذا لا شك دليل على استقامته وصلاحه، أما من أتى الوظيفة فقيرا وخرج منها غنيا أو يملك البيوت الراقية أو السيارات الفارهة فهذه تهمة واضحة، ولا شك أنه لو كان في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لطبق عليه قاعدة من أين لك هذا.

وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا أن من الغلول ومن أخذ المال العام هدايا العمال، فالحكام والولاة ومديرو الشركات ما يهدى إليهم ليس ملكا لهم، وإنما هو ملك للمؤسسة التي يمثلونها، فلا يحل لهم التصرف فيه، ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل رجلا على الصدقة فجاء فقال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى يهدى لك.

فكذلك الوالي أو الحاكم أو الوزير أو مدير المؤسسة هلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى يهدى له، فإذا أهدي له على أساس الوظيفة فهو ملك عام ليس هو مستحقا له، بل لا بد أن يضعه في بيت مال المسلمين العام ولا يحل له التصرف في شيء منه، وكذلك كل ما يقدم له على هذا الأساس، فما يقدمه الناس للرؤساء والملوك من الذبائح والإكرام الذي هو أكبر من إكرامهم للضيوف المعتادين كله من هذا القبيل ومن الغلول، ولذلك ذكر الشاطبي في الموافقات أن مما أهل به لغير الله ما ينحر أو يذبح للكبراء في ضيافتهم ولا يقصد أن يأكلوه جميعا، فكثير من الرؤساء والقادة في كثير من البلدان إذا قاموا بزيارة نحر الناس وذبحوا الكثير جدا مما لا يقصد اقتصاره على الضيافة، ويكون ذلك مما أهل به لغير الله وما أهل به لغير الله رجس فهو جيفة لا يحل الأكل منه، وذلك بين واضح نسأل الله السلامة والعافية.

ولا شك أن أكل المال العام ظاهرة تستحق الدراسة والتنويه، ولا بد أن يراجع كل إنسان منا نفسه وأن يتهم نفسه لأنها أصبحت ظاهرة، وهذه الظاهرة يقع فيها الإنسان من حيث لا يشعر، فربما كان آكلا للمال العام وهو لا يتوقع ذلك، لا يتصوره مثل استغلاله للبنزين الذي هو لمؤسسته، واستغلاله للكمبيوتر الذي هو لمؤسسته، واستغلاله للهاتف الذي هو لمؤسسته، وغير ذلك من الأمور التي تكون أرق لدى الناس من الشعر وفيها إثم عظيم وحرب للمبادئ وحرب للشعب بكامله، فلا بد أن نتقي الله - سبحانه وتعالى -، وأن نحرص على احترام المال العام وعدم أخذ ما ليس لنا بحق، وما أخذ الإنسان حقه واقتصر عليه إلا بورك له فيه، وما زاد على حقه فكان من المطففين إلا نزعت البركة مما أخذه.

نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا لكل خير وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply