شأن وسائل الإعلام وأثرها في نقل الكلمة وإبلاغها لا يخفى على أحدº فهي تصل إلى متلقيها في أي مكان على وجه الأرض، وتسهم في تشكيل مواقف الناس وسلوكياتهم وقيمهم.
ولذا كان لا بد للدعاة إلى الله - عز وجل - من أن يتطلعوا إلى استثمار هذه الوسائل في إبلاغ الدعوة وإيصالها للناس.
ولما كانت معظم وسائل الإعلام المؤثرة ـ التي تصل رسالتها إلى فئات واسعة من الناس ـ ليست في يد الصالحين، ويغلب عليها الفساد والانحراف كانت المشاركة في هذه الوسائل محل إشكال شرعي وتوقف كثير من الدعاة إلى الله - عز وجل -º فهل يسوغ لهم أن يشاركوا فيها برغم ما تحويه من مخالفات شرعية وانحرافاتº بل هي تحمل لواء الفساد والترويج له ونشره في الأمة؟ أم أن هذا الفساد والانحراف الذي يغلب عليها يمنع من المشاركة فيها والاستفادة منهاº إذ الدعوة إلى الله - تعالى - لا بد من أن تكون على بصيرة ومنهج شرعي، ومن ثَمَّ فالوسائل التي يسلكها الدعاة إلى الله - عز وجل - في تبليغ دعوتهم للناس ينبغي أن تخلو من أي مخالفة شرعية؟
لذا كان لا بد من تحرير مسألة المشاركة في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة، وهل يسوغ للدعاة أن يستخدموها في نشر دعوتهم أم لا؟
وحيث إن هذه المسألة من المسائل الحادثة ولم يكن فيها نص بخصوصها فلا بد من بحثها من خلال القواعد الشرعية وبخاصة قواعد المصالح والمفاسدº إذ أصل المشاركة في هذه الوسائل تحقق مصالح ويلزم منها مفاسدº فمن نظر إلى المفاسد وغلَّبها رجَّح جانب الحظر والسلامة، ومن نظر إلى المصالح وغلَّبها رجَّح جانب الإقدام والمشاركة.
وأحسب أن هذه المسألة لا تعدو الاجتهاد في الموازنة بين المصالح والمفاسد، والعمل جارٍ, على هذا عند العلماء والخاصة والعامة.
ولا يكاد يخلو أمر أو نهي في الشريعة، أو عمل من أعمال الناس الدينية والدنيوية من مفاسد ومصالح:
ففي الجهاد ذهاب الأنفس.
وفي خروج المرأة للصلاة وفي الحج والعمرة المستحبين للرجل والمرأة: فتنة وافتتان بين مقطوع به أو مظنون.
وفي خروج الرجل والمرأة لحاجتهما تعرٌّض لفتن مظنونة أو مقطوعة.
وفي التجارة تعرض لمثل ذلك في سفر أو سوق.
وفي الجهاد مع أئمة الجور تثبيت لسلطانهم الجائر، ولكن لما اشتمل ذلك على حرب الكفار وبث الدعوة: اغتفرت هذه المفسدة.
فالمصلحة الخالصة عزيزة الوجـود كما قـال ذلك العز بن عبد السلام (1).
ومن ثم فبحثنا لهذه المسألة سينطلق من استعراض المفاسد والمصالح الناشئة عن المشاركة وحصرها، والترجيح بينها بما نرى أنه أقرب إلى رعاية المصالح الشرعية، مع ذكر الأدلة الشرعية المتعلقة بالموضوع منعاً أو جوازاً إن وجدت.
والورع في هذه المسائل ليس هو الترك والمفارقة على كل حالº بل إن الورع هو في القيام بأمر الله - تعالى - واتباع ما كان الأشبه بأنه من مراده ورسوم دينهº سواء كان ذلك بالفعل أو الترك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما، أو دفع شر الشرين وإن حصل أدناهما»(2).
قال العز بن عبد السلام - رحمه الله -: «إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله - تعالى - فيهما لقوله - سبحانه وتعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم} [التغابن: 16]، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة. قال الله - تعالى -: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الـخَمرِ وَالـمَيسِرِ قُل فِيهِمَا إثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَّفعِهِمَا} [البقرة: 219] حرمهما لأن مفسدتهما أكثر من منفعتهما.. وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصَّلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما، وقد يتوقف فيهما»(3).
* المصالح المترتبة على المشاركة في وسائل الإعلام:
في هذا المبحث سنتناول عرضاً للمصالح التي يراها القائلون بالمشاركة، وجواب المانعين عنها:
المصلحة الأولى: تبليغ الدعوة:
وسائل الإعلام المعاصرة وسيلة لتبليغ الدعوة، وقد فرض الله ـ تبارك و تعالى - تبليغ الدين والدعوة إليه، وهذا أمر واجب لا خيار فيه، ولئن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - اتَّبع الوسائل المتاحة في عصرهº فالواجب على الدعاة اليوم أن يسعوا لتبليغ الدعوة بالوسائل الأنجع، والأكثر مخاطبة لجماهير الناسº ووسائل الإعلام المختلفة اليوم أقدر على إبلاغ الرسالة وإيصالها للناس(4).
وأجيب عنها: بأن المطلوب تحقيق البلاغ المبين وإظهار دين الله - تعالى - على سبيل العموم والشمول، ووسائل الإعلام تحرم ذلكº فيتعذر في قنواتها الحديث عن الولاء والبراء، وجهاد أعداء الله - تعالى -، بل قد تمنع الحديث عن الربا وحقوق الرعية ونحو ذلكº فلا يعرض من الإسلام إلا طائفة من العبادات والأخلاق... فيحصل من ذلك التشويه والتضليل، وقد ورد في الحديث: «إنه لا يقوم بدين الله إلا من أحاطه من جميع جوانبه»(5).
ويُرَدٌّ على هذه الإجابة بأنه يتحقق في هذه الوسائل بعض البلاغ وإن لم يتحقق البلاغ التام، وهذا أمر معهود في غيرها من الوسائل الدعوية، كترك المحاضرين والكتاب والخطباء بيان بعض الحق حتى لا يؤدي ذلك إلى مفسدة عدم وصول دعوتهم للناسº فلا يختص هذا بوسائل الإعلام.
ومن المعلوم أنه لا يُبلَّغ من الدين إلا ما يمكن علمه والعمل به:
قال الإمام ابن تيمية: «.. والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكٌّن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل ببعضه كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلاًº وهذه أوقات الفتراتº فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بُعِثَ به شيئاً فشيئاً. ومعلوم أن الرسول لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملةº وكما يقال: إذا أردت أن تطاع فائمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه والعمل بهº كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقَّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويُذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجباتº لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.. »(1).
المصلحة الثانية: شمول تأثيرها:
وهذا الشمول معلوم مشاهد لا يحتاج إلى وقفات.
وأجيب عن هذه المصلحة بأن هذا الشمول قد يتأتى عبر وسائل أخرى دون المشاركة في تلك الوسائل الموبوءة.. كالخطبة والموعظة والدرس والكتاب والشريط السمعي والمرئي والمطويات والهاتف.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد