القول البتار على مستحلي أموال الكفار


بسم الله الرحمن الرحيم 

هذه رسالة حملها البريد إلينا، يقول كاتبها: لقد أفتى [ذكر اسماً أصبح معروفاً بالمجازفات وتضليل الشباب، وقد اعتدنا على عدم ذكر هذه الأسماء إلا عند الضرورة] بجواز سرقة أموال الكفار فعملنا بها، ثم وجدت رسالتين [كذلك فالاسم غير واضح وغير معلوم عندنا] ترد عليه، فأرجو نشرها في مجلتكم حتى تظهر السنة، وتقمع البدعة، ويعلو الحق، ويخفض الباطل، ولكم الشكر.

 

توقيع: أبو عبد الرحمن

 

 المحرر: ونحن ننشر الرسالة لأن هذا المفتي المزعوم ضلل الشباب حتى أصبحت هذه السرقات مشكلة وأي مشكلة في ديار الغرب، والموضوع الذي أرسل مقبول ويستحق النشر، ولنا عليه ملحوظة واحدة فقد استدل بأقوال بعض الغلاة الذين يخالفون هذا المفتي المزعوم في هذه المسألة، ويوافقونه في أمور مثلها أو أسوأ منها، وعلى كل حال سيرد الحديث عن هذه السرقات التي أسموها غنائم في سلسلة: \"السلفية بين الولاة والغلاة\" التي تنشر في المجلة، وجزى الله كاتب الرسالة وكاتب الموضوع كل خير.

 

 الحمد لله الذي جعل مرجعنا الكتاب والسنة، والصلاة والسلام على معلم هذه الأمة، وعلى آله وأصحابه الأئمة، وبعد:

لقد كثر اللغط والخلط والخطأ في مسألة الاستحلال دون الرجوع إلى الكتاب والسنة، فمن شروط المفتي أنه يجب أن يكون عالماً بأحكام الكتاب والسنة وأقوال من سبقه من العلماء، فإذا وجدهم قد أجمعوا في المسألة وجب عليه الإفتاء بالإجماع، وإذا وجدهم اختلفوا في المسألة، وجب عليه الترجيح بين أقوالهم بما علمه من الأدلة وفق قواعد الترجيح والاجتهاد المعروفة لأهل العلم، ثم يفتي بالقول الراجح في المسألة.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"أجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى وبقول أو بوجهة من غير نظر في الترجيح\"(1).

 

ونقل ابن القيم عن أحمد بن حنبل - رحمهما الله -: \"ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم وإلا فلا يفتي\"(2).

 

قلت: إن مسألة استحلال أموال الكفار وأخذها بالخلسة أو السرقة هل فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ هل فعلها الصحابة؟ هل فعلها أتباعه؟ هل فعلها أصحاب الخلق السوي؟ وقد كانوا يعيشون بين أظهر الكفار والمشركين واليهود والنصارى. الجواب بـ (لا)(3).

 

إذن هو فعل أهل الغلو والبدع كما قال أبو محمد المقدسي في كتابه الكواشف الجلية، فصل دار الكفر ودار الإسلام: \"أما بالنسبة للفرد المسلم فبمجرد حمله لتابعية دار الكفر أو إقامته فيها، أو عبور فيها بإذن أهلها، يصبح بينه وبينهم ميثاق وعهد وأمان فلا يحل له سفك دمائهم أو الاعتداء على أموالهم وأعراضهم إلا بحقها، خلافاً لما يزعمه بعض أهل الغلو والبدع\".

 

وكذلك هو فعل أهل الغدر والخيانة كما قال علماء السلف. ونقله الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز في كتابه(4): \"ومن دخل بلاد الكفار بأمان منهم فلا يحل له أن يخونهم في أنفسهم وأموالهم لقوله - تعالى -: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً}\".

 

وقال أبو القاسم الخرقي في مختصره: \"ومن دخل أرض العدو وبأمان لم يخنهم في مالهم ولم يعاملهم بالربا\".

 

وقال ابن قدامة في شرحه: \"وأما خيانتهم فمحرمة لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بتركه خيانتهم وأمنه إياهم من نفسه وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ فهو معلوم في المعنى. ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخافنا كان ناقضاً لعهده، فإذا ثبت هذا لم تحل له خيانتهم لأنه غدر. ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"المسلمون عند شروطهم\" فإن خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئاً وجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه. فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان رده عليهم وإلا بعث به إليهم لأنه أخذه على وجه حَرُمَ عليه أخذه، فلزمه رد ما أخذ كما لو أخذه من مال مسلم\"(5).

 

وقال الشيخ عبد القادر في نفس كتابه: وتعتبر تأشيرة الدخول (الفيزا) التي يحصل عليها المسلم لدخول بلاد الكفار الأصليين عقد أمان؟... وحتى لو دخل بلادهم بتأشيرة مزورة ظنوها صحيحة لوجب عليه الوفاء وقد ضرب محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله - لهذا صوراً فراجعها بكتابه. اهـ (6).

 

قلت: ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله القولية أو الفعلية أو التقريرية ما يدل على جواز استحلال أموال الكفار بالسرقة أو الخلسة، قال - صلى الله عليه وسلم -: \"لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له\" صحيح الجامع رقم الحديث: 7179.

 

وبالجملة، فالأمانة هي رعاية حقوق الله - تعالى - وحقوق عباده.. وليس من الدين ولا من العقل أن يستحل الإنسان لنفسه مالاً ليس له فيه حق بعد أن ظن به أهل البلد خيراً، واعتقدوا فيه حسناً، ثم يخدعهم ويسرقهم باسم الدين والعلم، وقد قال القائل:

 

لا خير في العلم إن لم يرق صاحـبه***  على أســاس من الأخلاق في الصغر

 

كم من عالم فاسد ضـلت مذاهــبه *** وقد غــــــــدا علمه شراً على البشر

 

إبليس أعلم أهـل الأرض مزرعــــة *** إن تخبث الأرض تــذهب نعمة المطر

 

والنفس تأبى ورود الماء إن وجدت ***  في الماء رجسـاً ولو كانت على النهر

 

والجهل أفضل من علم يدنســـــه *** نضح الرذيــــلة من أخـــلاق مقتدر

 

لصوص الاستحلال:

الحمد لله الذي أنار قلوب أهل الحق والعدل، وطمس على بصائر أهل الزيغ والباطل، والصلاة والسلام على القائل: \"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد\"، وبعد:

 

لقد أوضحت وبينت فيما سبق أن أموال الكفار والمشركين لا يجوز أخذها بالسرقة أو الخلسة، لأن كل أمر أو عمل لم يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو رد، كما في الصحيحين: \"من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد\"، أي مردود عليه غير مقبول عند الله وعند رسوله فإذا تبين ذلك فلا ينبغي للمسلم أن يكون إمعة يتبع كل ناعق أو جاهل بل ينبغي عليه أن يكون متأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

ولكن مع الأسف الشديد نجد أن من المسلمين من يحب أن يكون تابعاً لزيد أو عمرو، ولا يحب أن يكون تابعاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالذي اعترض علي بقوله: كيف تقول إن أموال الكفار والمشركين لا يجوز أخذها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث المتفق عليه: \"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إله الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله - تعالى -\".

 

فإن هؤلاء الكفار والمشركين غير معصومي الدم والمال بنص الحديث الشريف وجميع المحلات التجارية تساعد الدول الكافرة بأموالها لكي تحارب الإسلام والمسلمين. وهذا مما دفعنا على أن نغنم أموالهم. انتهى قوله.

 

بعد هذا الحوار عرفت وتيقنت بالدليل القاطع والحجة البينة أن جميع الفرق الإسلامية القديمة والمعاصرة التي انحرفت بفكرها ومعتقدها إلى هوة سحيقة وشذت عن أهل السنة والجماعة كان سببها التأويل الفاسد. وما حدث الخلاف والنزاع والتكفير والتفسيق بين المسلمين إلا بتلك التأويلات الفاسدة.

 

لذا استعنت بالله تبارك و- تعالى - لجمع تأويلات الفرق التي انحرفت عن منهج الحق، في بحث سميته \"التأويلات الفاسدة القديمة والمعاصرة\" وإن شاء الله يكون بين يدي القارئ قريباً.

 

وأخرجت هذه الرسالة رداً على المتأول وقطعاً لدابر هذه الجماعة خشية من أن يتطاير شرارها أو تتسع دائرتها فتضر المسلمين وتشوه صورة الدين.

 

إن الذين يتأولون النصوص الشرعية على غير تأويلها لهم ثلاثة مراتب:

 

المرتبة الأولى: أن يكون صادراً عن مجتهد، بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله، فهو معفو عنه، لأن هذا منتهى اجتهاده.

 

المرتبة الثانية: أن يكون صادراً عن هوى وتعصب، وله وجه في اللغة العربية، فهو فسق، إلا أن يتضمن نقصاً أو عيباً في حق الله ورسوله فيكون كفراً.

 

المرتبة الثالثة: أن يكون صادراً عن هوى وتعصب وليس له وجه في اللغة فهو كفر لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له، لذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية لفظ التحريف بدل التأويل.

 

فالحديث الذي استدل به جماعة استحلال سرقة أموال الكفار قد سمعه الصحابة - رضي الله عنهم - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقله الحفاظ وكتبه الأئمة الأعلام في كتبهم وله شروحات كثيرة جداً، ولكن لم يقل واحد منهم إن أموال الكفار والمشركين تستحل بالسرقة، بل قالوا: هي مستباحة بالقتال كما أشار الحديث الشريف: \"أمرت أن أقاتل\" ولم يقل أمرت أن أسرق.

 

ولو فهم الصحابة والسلف الصالح الحديث كما فهمه جماعة الاستحلال لكان انتقاصاً في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أنه لم يأخذ أموال الكفار التي كانت عنده قبل الهجرة، وقد فعل كفار قريش ما فعلوا بالمسلمين من اغتصاب أموالهم وتعذيبهم وإخراجهم من مكة.

 

وكذلك هو قدح في عدالة الصحابة لأنهم سمعوا هذا الحديث ولم يعملوا به، حيث لم ينقل عن واحد منهم أنه سرق من أموال الكفار، وكذلك هو اتهام ورمي السلف الصالح بالجهالة والتقصير: لأنهم لم يبينوا أن أموال الكفار والمشركين تستحل بالسرقة.

 

وياليتهم قالوا أنها سرقة بل زعموا أنها من الغنائم ومن الدين... إن هذا الغلط في اللغة والتضارب في المفاهيم والعبث في التأويل جعلهم يتخبطون في دينهم خبط عشواء فلا هم يقفون على اجتهاد صحيح، ولا يستدلون بنص صريح، ولو قرأ أحدهم عن مصطلح الغنائم لعلموا أن شريعة الله في واد وهم في واد آخر.

 

يقول الحق - سبحانه -: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير} [الأنفال: 41].

 

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية 2/310: \"يبين - تعالى - تفصيل ما شرعه مخصصاً لهذه الأمة الشريفة من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم، والغنيمة: هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب، والفيء: ما أخذ منهم بغير ذلك كالأموال التي يصالحون عليها، أو يتوفون عنها ولا وارث لهم، والجزية والخراج: ونحو ذلك، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من علماء السلف والخلف\". اهـ.

 

نقول للذين يسمون الأسماء بغير مسمياتها، ويأكلون الحرام باسم الدين: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل تقسيمها، فأين أميركم الذي يقسم الخمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل... وكيف توزعون أسهم الغنيمة... وكيف ترضخون لمن حضر الغنيمة... وأين الصفي من الغنيمة.. وهل تقسمون النفل من أصل الغنيمة أم من الخمس؟! هذه الأسئلة وغيرها من المسائل وردت في باب الغنائم، وفيها أحاديث صحيحة.

 

إن الذين يعارضون الكتاب والسنة ويخالفون إجماع الصحابة بالعقل أو القياس أو الذوق أو الهوى سيصيبهم الوعيد الذي ذكر في نهاية سورة النور: {فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.

 

وروى الإمام مسلم أن امرأة سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟! - أي من الخوارج - فقالت المرأة: لست حرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك. فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة).

 

ويقول الإمام الأوزاعي - رحمه الله -: \"عليك بآثار من السلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها\".

 

كلمة أخيرة أقولها للذين يؤولون النصوص والأدلة: اتقوا الله وقفوا حيث وقف الصحابة والسلف الصالح، وإلا سوف تتقاذفكم الأمواج وتتلاعب بكم الأهواء... {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 153]...

 

----------------------------------------

(1) - الاختيارات الفقهية، ص: 332.

(2) - أعلام الموقعين، 2/205.

(3) - راجع كتب السير لحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحياة الصحابة والتابعين.

(4) - الجامع في طلب العلم الشريف 2/579.

(5) - المغني مع الشرح الكبير 10/515.

(6) - السير الكبير 2/507 - 508.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply