اختراق الظاهر في مشهد الحجيج


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 مئات الألوف من الرجال والنساء وحتى الأطفال يفترشون الساحة الواسعة الشاسعة حول الجمرات في منى حتى لم يبق ممر إلى الجمرات يزيد على المتر الواحد وفي بعض الأحيان، وفي أحسن الأحوال، قد يصل إلى مترين أو ثلاثة أمتار.

 انه مشهد ليس له مثيل من حيث اقتراب الأجساد من بعضها أو من جهة ما يبدو للمار إلى الجمرات من الخيام المحيطة، أو العائد إليها، من حالة بؤس وشقاء وفوضى وازدحام. فالصعوبات التي يعانيها أولئك القوم خلال يومين بليلتين وربما ثلاث ليال في منى اشد مما يبدو للرائي خصوصاً عند قضاء الحاجات، أو الوصول إلى الماء والطعام.

على أن مئات الألوف، وربما تعدوا المليون، جاءوا بملء إرادتهم ولم يجمعهم هروب من حرب كما يحدث في حالات التطهير العرقي، ولا فرار من جفاف وقحط وجوع وعطش كما يحدث في بعض بلدان أفريقيا. نعم جاءوا بخيارهم، وافترش الواحد منهم الأرض. وقد سعد بحصوله على مساحة يستطيع فيها أن ينام بطوله. وهنا يجب على المرء أن يخترق ظاهر المشهد ليجد في الوجوه طمأنينة بل سعادة واستبشاراً، لا يجدها عند الذين يتجولون في الحدائق العامة، أو يجلسون في المقاهي في الغرب أو في بلادنا.

وإذا تمعن المرء في ما هو ابعد من ظاهر المنظر الفريد الاستثنائي في «بؤسه» وقساوته وفوضاه فسيجد نفسه إزاء حقيقة مذهلة: الإسلام وما يمكن أن يفعله في الذات البشرية، وما يبثه فيها من إيمان ورجاء وقوة وأمل حتى لو كان صاحبها فقيراً وصل الادقاع أو كان مقهوراً بلغ الانسحاق. أنها حقيقة تتجلى في أروع حالاتها في الحج كما لا تتجلى في أي مكان آخر لا سيما على مستوى الملايين من الناس في آن واحد. وإلا فمن جاء بكل هذه الجموع إلى هذا المكان؟ وما الذي اجبرهم على تحمل كل هذه الشدة، غير المفروضة بالقوة عليهم، حتى لا تملك إلا أن تحقر إيمانك إلى إيمانهم أن كنت من سكنة «المخيمات» المكيفة المرفهة من حولهم جئت مثلهم لتشاركهم مناسك الحج.

طبعاً يجب أن يبحث باستمرار عن حلول تخفف أعباء مئات الألوف وربما أكثر، ممن يؤمون مكة ومنى وعرفات والمزدلفة لأداء مناسك الحج. وحقاً لا يستطيع المرء إلا أن يشعر بالبؤس المادي «مسكناً» ومشرباً ومأكلاً، أو بشدة الاكتظاظ برغم اتساع الساحات ورحبها. وقطعاً لا يُلام من يتذمر من هذا الوضع، وهو ليس منه، لمجرد اضطراره المرور به، ولكن كل ذلك ما ينبغي له أن يغشى الأعين فلا ترى عظمة الإسلام عند أولئك القوم، وما يحمله افتراشهم للأرض أو بالاحرى كسوتها تماماً بأجسادهم، من معنى ومغزى يذهبان بما يمكن أن يقال عن «البؤس» والازدحام والفوضى. لان عدم رؤية المعنى والمغزى يودي بروعة المشهد وعظمته.

والطريق إلى ذلك بسيط، هو أن نسأل ما الذي جاء بهؤلاء وما يجبرهم على ما هم عليه؟ وماذا في قلوبهم وعيونهم؟ وأية آمال وأشواق وأمان يحملون؟ بل أية سعادة بها يشعرون حين ينامون على ثرى مشى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه صحابته رضي الله عنهم؟

احسب أن الذي لا يطرح هذه الأسئلة على نفسه ويأخذه ما يرى من سلبيات الفقر والازدحام والتدافع قد يحدث ثلما في حجه إذا ما استبد به التذمر والتأفف والتعالي.ولم ير في القوم ما هم عليه من خير في طوافهم وسعيهم وأداء مناسكهم كما في مبيتهم وترحالهم وما يكابدون من عناء.وبعدئذ فليتنافس المتنافسون في تسهيل الحج وتخفيف الأعباء، وردم الهوّة بين الحجيج قدر الإمكان. وليرخص أكثر في رمي الجمار وفي تحسين الوصول إلى الجمرات والخروج منها.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply