لو تكلمت المشاعر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

* لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟

أريد ليسمع المسلم منها ما ينبغي أن يقرأه بين أكنافها، وما يستشعره في أجوائها، وما يحسه من موجات مترددة مبثوثة بينه وبينها.. بل أريد ليدرك المسلم ما أودعه الله في المشاعر من معان وأسرار، وما أفاضه عليها من مؤثرات تجلو النفس كما يجلو الليلَ النهارُ.

 

 أريد لتقف على ما لو أُذن لها أن تتكلم لتكلمت به، بل أريد لأشنِّف آذانك بمقالاتها فيَّ وفيك، وفي الأمة، وفيما يلفنا من نوازل الحال..

 

أريد ـ بل أرجو ـ أن أبلغك ذلك ـ أيها القـارئ الكريم ـ ولو لم تتكلم المشاعر بكلمة واحدةº فكيف إذا استنطقتها لك، وأسمعتك ما عساها قائلته؟!

 

ولعلك تعجب وتتساءل: ولكن هل تتكلم الجمادات؟ ألها منطق وبيان؟ أتفصح عن معان قائمة بها ـ أو في غيرها ـ؟ وهل يكون لإفصاحها دلالات مفهومة معقولة؟ ثم هل يمكن أن يدرك بنو آدم هذه الدلالات، ويستفيدوا من تلكم المعاني؟

 

أمَّا كونها تتكلم أو لا.. فذلك في علم الله - جل وعلا -، وإن كان أصل تكلمها غيرَ ممتنع عليه، لقوله - عز وجل - فيما حكاه عن أشباه الجمادات: {وَقَالُوا لِـجُلُودِهِم لِمَ شَهِدتٌّم عَلَينَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيءٍ, وَهُوَ خَلَقَكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ, وَإلَيهِ تُرجَعُونَ} [فصلت: 21].

 

قال الحافظ ابن كثير: «أي فهو لا يُخالف ولا يُمانع وإليه ترجعون»(1).

 

وقال الطاهر بن عاشور: «وقولهم (الذي أنطق كل شيء) تمجيد لله - تعالى -، ولا علاقة له بالاعتذار، والمعنى: الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان، واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها، فعموم آية {كُلَّ شَيءٍ,} مخصوص بالعرف»(2).

 

وقال فخر الدين الرازي: «ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا، ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية، وهي حال القيامة والبعثº كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟ »(1).

 

فالله - تعالى - قادر على أن يُنطِق كلَّ شيءٍ, (من الجماد وغيره)، ولا وجه لاستحالة ذلك وامتناعه، ولا سيما مع ثبوت وقوعه من بعضها.

 

وليس إمكان تكلم المشاعر من عدمه يهمنا هنا في شيء، وإنما المقصود إثبات أن لها منطقاً وبياناً يتمثل في المعاني القائمة بها، وهي إشارات وأمارات تَقُومُ بكل شيء، «وتلك الأمارات تسمى شهادات، كما يقال: يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه»(2).

 

وقد ثبت تكلم بعض الجمادات، بل وصدور أفعال عنها تدل على عقلانيتها، وأنها ذات مشاعر وأحاسيس، كتسليم الحجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسعي الشجرة إليه ومثولها بين يديه، وحنين الجذع إليه، وقد خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - جبل أحد فقال: «اثبت أحدº فإنما عليك نبي، وصدّيق، وشهيدان»(3).

 

فلو أُذن للمشاعر المقدسة أن تتكلمº لوافتنا بكثير من تلكم المعاني القائمة بها، بل والقائمة بغيرها، وهي معان تتضمن كثيراً من حِكم الشعائر المرتبطة بتلك المشاعر.

 

وإن الوقوف على تلكم الحِكَم ـ وهن غايات نافعات غاليات ـ لهو مقصود رئيس لما أُمرنا به من تعبد ونسك، وما نُدبنا إليه من خشوع وتفكر، وخاصة عند المشاعر المحرمات، وحول المقدسات المباركات.

 

فلولا تدبرنا هذه الإشارات النافعات، وهاتيك اللطائف المرققات.. {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ} [الحج: 32].

 

فيا أمة الإسلام..!

 

لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟

 

إخال الكعبة (بيت الله الحرام) تهتف بجموع الطائفين والقائمين حولها، الراكعين الساجدين في حرمها.. تقول:

 

أيها المسلمون الآتون من كل فج عميق!.. هذه قبلتكم قبلة واحدة، وإن هذه أمتكم أمة واحدةº فبأي مقتضى شرعي تنازعتم؟ وبأي موجب علمي تخالفتم؟ وبأي منطق عقلي تفرقتم، وأنتم هنا حولي تجتمعون، بل وحيثما كنتم فإليَّ تتوجهون، وشطري تيمِّمون؟!

 

أما علمتم أن في مخالفتكم ما أمرتم به من الاعتصام بحبل الله جميعاً ذهابَ ريحكم؟ وقد قال - تعالى - : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

 

وأن فيها ضياع هيبتكم، وتسلط عدوكم عليكم، ولا يسلط الله عليكم عدواً حتى تكونوا أنتم المتسلطين على أنفسكم.. فإن هذه الأمة المرحومة قد خصها الله أن لا ينتصر عليها عدوٌ من غيرها، ولكن يهلك بعضهم بعضاً ويظلم بعضهم بعضاً، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه ثوبان ـ - رضي الله عنه - ـ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «وإني سألتُ ربي لأمتي أن لا يهلكَها بسَنَةٍ, عامة، وأن لا يُسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيحَ بيضتهم، وإنَّ ربي قال: يا محمدُ، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرد، وإنِّي أعطيتك لأمتك أن لا أهلكَهم بسَنة عامة، وأن لا أسلِّطَ عليهم عدواً من سوى أنفسِهِم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمعَ عليهم مَن بأقطارها ـ أو قال: مَن بين أقطارها ـ، حتى يكون بعضُهم يُهلك بعضاً، ويسبي بعضُهم بعضاً»(4).

 

وواضح من الحديث: أن هذه الأمة المختارة لا تزال في عصمة من غلبة عدوها عليها ما بقيت متحدة مجتمعة، حتى إذا صار بأسها بينها، يقتل بعضها بعضاًº سُلط عليها عدوٌ من غيرها فاستباح حرماتِها!!

 <

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply