نداء إلى حجاج بيت الله الحرام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

فإن الله - سبحانه و تعالى - أوجب على عباده المؤمنين التعاون على البر والتقوى، وحرم عليهم التعاون على الإثم والعدوان، فقال - عز وجل - في كتابه الكريم: \"وَتَعَاوَنُوا عَلَى البرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ\" [المائدة:2]. ومن التعاون على البر والتقوى: التناصح والتواصي بالحق والصبر عليه، كما قال - عز وجل -: \"وَالعَصرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ, (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ\" [العصر]. أوضح - سبحانه - في هذه السورة العظيمة أن جنس الإنسان في خسران، وأقسم على ذلك وهو الحق - سبحانه - وإن لم يقسم تأكيداً للمقام وتحريضاً على التخلق بهذه الصفات الأربعة التي هي أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: {الدين النصيحة، الدين النصيحة} قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: {لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم}. وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.

وفي الصحيحين أيضاً عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، ففي هذه الآيات الكريمات والأحاديث الشريفة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الدلالة على أن الواجب على جميع المسلمين من الحجاج وغيرهم أن يتقوا الله وأن يتناصحوا بينهم، وأن يتعاونوا على البر والتقوى أينما كانوا، وأن يحب كل واحد لأخيه الخير، ويكره له الشر، وأن يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنه، والجدال بالتي هي أحسن عند الحاجة إليه، ولاشك أن هذا من أعظم مقاصد الحج ومنافعه التي أشار إليها المولي - سبحانه - بقوله:  \"لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم \" [الحج:28] وقال – سبحانه -: \"ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ\" [النحل:125].

وأنتم معاشر حجاج بيت الله الحرام قدمتم إلى هذا البلد الأمين لغرض نبيل، وعمل صالح، وهو أداء مناسك الحج والعمرة، فالواجب عليكم أن تتأدبوا بالآداب الشرعية، وأن تتخلقوا بالأخلاق التي يرتضيها الله لكم، وأوصاكم بها في الآيات السابقات وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - في الأحاديث المذكورة وفي قوله - عز وجل -: \"الحَجٌّ أَشهُرٌ مَّعلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ, يَعلَمهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلبَابِ\" [البقرة:197]. وقال النبي: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} [متفق على صحته].

والحج المبرور هو الذي لا رفث فيه ولا فسوق كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: {من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه}. والرفث هو الجماع قبل التحلل من الإحرام، ويلحق بذلك كل كلام مستفحش مما يتعلق بالنساء، أما الفسوق فهو العصيان، ويدخل في ذلك جميع المعاصي من الظلم، والسب، وإيذاء المسلمين بغير حق، والسخريه، والكذب، والغيبة، والنميمة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وأكل الربا، والظلم للناس في دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وسائر ما نهى الله عنه ورسوله، ويدخل في الفسوق أيضاً: إيذاء المسلمين بالقول أو بالعمل في المشاعر والطرقات، وفي الطواف والسعي وحين رمي الجمار، وفي غير ذلك من الأماكن. كما يدخل في ذلك أيضاً التظاهرات، والهتافات بالدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، فيصبح موسم الحج موضع فوضى واختلافات وتظاهرات، ويخرج بذلك عما شرع الله فيه من إقامة ذكره والدعوة إلى سبيله والتناصح بين المسلمين وتعاونهم على البر والتقوى، وأداء المناسك في غاية الإخلاص والهدوء والطمأنينة، والرغبة فيما عند الله، والحذر من عقابه، وقد قال الله سبحانه في كتابه العظيم: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسخَر قَومٌ مِّن قَومٍ, عَسَى أَن يَكُونُوا خَيراً مِّنهُم وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيراً مِّنهُنَّ وَلَا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ بِئسَ الاِسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّم يَتُب فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ \"[الحجرات:11].

نهى - سبحانه و تعالى - المؤمنين والمؤمنات في هذه الآية الكريمة عن أمور ثلاثة، السخرية: وهي الاستهزاء، واللمز: وهو عيب بعضهم بعض، والتنابز بالألقاب: يعني الألقاب التي يكرهونها ولا يرضون أن يدعوا بها، مثل: يا فاجر، يا خبيث، يا عدو الله، وما ذاك إلا لأن استعمال هذه الأمور فيما بين المسلمين مما يسبب الشحناء والعداوة وإثارة الفتن بينهم، وذلك ما لا تحمد عقباه.

ثم ختم الآية سبحانه بالحكم على وجوب التوبة من سائر المعاصي، وأن الإصرار عليها ظلم لا تحمد عاقبته وقال - عز وجل -: وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَاناً وَإِثماً مٌّبِيناً [الأحزاب:58]. وقال النبي: {المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يكذبه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}، وثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -، أنه خطب الناس يوم عرفة فقال في خطبته يوم النحر في حجة الوداع: {إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت}، وروي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: {من ضار مسلماً ضاره الله، ومن شقَّ على مسلم شقَّ الله عليه}.

والآيات والأحاديث في حث الحجاج وغيرهم على التمسك بدينهم والاستقامة عليه والاعتصام بالقرآن الكريم وتحكيمه والتحاكم إليه مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والتراحم والتعاطف بينهم، والإحسان من بعضهم إلى بعض كثيرة جداً.

فيا معشر حجاج بيت الله الحرام اتقوا الله وأطيعوه، وعظموا أمره ولا تعصوه، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واجتهدوا في أداء المناسك كما شرعها الله، وسابقوا إلى الطاعات والأعمال الصالحات، وأكثروا من الصلوات في المسجد الحرام، ومن الطواف حيث تيسر ذلك، ومن قراءة القرآن، ومن التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، ومن الدعاء والاستغفار، ومن الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتفقهوا في دينكم، واستفيدوا من الحلقات العلمية في المسجد الحرام والمسجد النبوي، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: {من سلك طريقاُ يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده}. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: {إقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة}. يعني بذلك الذين عملوا به واستقاموا على تعاليمه.

وعلى كل واحد منكم أن يُرشد أخاه بما لديه من العلم، ويوجهه إلى الخير، ويعينه عليه عملاً بالآيات والأحاديث السابقات، وابشروا بالأجر الجزيل، والثواب العظيم، كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: {من دل على خير فله مثل أجر فاعـله}. وثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال لأمير المؤمنين علي لما بعثه إلى اليهود في خيبر: {ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من الحق فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النَّعَم}. وقال - عليه الصلاة والسلام -: {والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه}.  

والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يسلك بنا وبكم صراطه المستقيم، وأن يعينكم على أداء المناسك على الوجه الذي يرضيه، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً، وأن يردّكم إلى بلادكم سالمين غانمين إنه سبحانه جواد كريم.

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply