بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تفردِ بالعزةِ والكمالِ والكبرياء، وأشهدُ أنَّ لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له، من لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، سيد ولد آدم، وقدوةُ الخلقِ في الشجاعةِ والإباء- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهدية- إلى يوم الجزاءِ وسلم تسليما.
أمَّا بعد:
فيا من رضيَ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، اتق الله:
((وَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَع أَذَاهُم وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)). (الأحزاب: 48)
إيمانٌ وثبات، عزيمةٌ وإصرار، عزةٌ واستعلاء، تضحيةٌ وفداء، صدقٌ في الالتجاء، توكلٌ على ربِّ الأرضِ والسماء، واستعدادٌ دائم للقاء، مع شموخٍ, وإباء.
ثباتٌ على الثوابت، لا تنازلاتٍ, لا مساولات، لا تراجعَ عن المبادئِ ولا ضعفَ ولا خور، لا ذلةَ حتى مع القلة.
كانت هذه سياسةُ الهادي- صلى الله عليه وسلم - وصحبه في مواجهةِ التحديات، وكان هذا موقفهم أما التهديداتِ والضغوطات.
حينما انتهت غزوةُ أحد، مخلفةً نكسةً مؤلمةً في صفوفِ المسلمين، حيثُ قُتل سبعونَ من كبارهم وخيارهم، وفيها جُرح الرسولُ- صلى الله عليه وسلم -، وكُسرت رباعيتهُ، وشُجَّ وجههُ، وأدميَ عقباه، وكانت درساً عظيماً للمسلمين في السمعِ والطاعة، والعبدِ عن المطامعِ الدنيوية، وكان ذلك في الخامسِ عشر من شوال، من السنة الثانية.
وبعد رجوعِ جيش المشركين من أحد، تلاقوا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتهم شوكتهم، ثمَّ تركتموهم وقد بقي فيهم رؤوسٌ يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شوكتهم، فلما بلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمر بالمسير بلقائهم، وفي يومِ الأحد السادس عشر من شهرِ شوال، ناد ى مُنادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في الناس قائلاً: لا يخرجنَّ معنا أحد إلا أحدٌ حضر يومنا بالأمس، وخرجَ المسلمون رغمَ إصابة الكثيرينَ منهم بالجراح، حتى إنَّ رجلاً من بني عبد الأشهل كان شهد أحداً فيقول: شهدتُ أحداً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخٍ, لي فرجعنا جريحين، فلمَّا أذَّن مُؤذنُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بالخروجِ في طلبِ العدو، قُلتُ لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوةٌ مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، واللهِ ما لنا من دآبةٍ, نركبها، وما منَّا إلاَّ جريحٌ ثقيل، فخرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وكنتُ أيسرُ جرحاً، فكان إذا غلبَ حملتهُ عصبةً ومشى عصبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى المسلمون.
وسارَ الجيشُ إلى حمراءِ الأسد، فأقام بها ثلاثةَ أيام، وأوقدوا هُناك نيراناً عظيمة، حتى ترى من المكانِ البعيدِ وتُوهمُ بكثرتهم، فأدخلَ اللهُ بذلك رُعباً عظيماً في قلوبِ المشركين، وهبٌّوا مسرعين عائدين إلى مكة، وانصرف رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - عائداً بجيشهِ إلى المدينة المنورة.
وفي هذه الغزوة نزلَ قولَ الحق: ((الَّذِينَ استَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرحُ لِلَّذِينَ أَحسَنُوا مِنهُم وَاتَّقَوا أَجرٌ عَظِيمٌ)) (آل عمران: 172).
إنَّهم أولئك الذين دعاهم الرسول- صلى الله عليه وسلم - إلى الخروجِ معهُ كرةً أخرى، غداةَ المعركة المريرة، وهم مثخنونَ بالجراح، وهم ناجونَ بشقِّ الأنفس، والموتُ أمسَ في المعركة، وهم لم ينسوا بعد هولَ المعركةِ ومرارةَ الهزيمةِ، وشدةَ الكرب، وقد فقدوا من أعزَّائهم من فقدوا، فقلَّ عددهم فوق ما هُم مثخنون بالجراح، ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - دعاهم ودعاهم وحدهم، فاستجابوا من بعدِ ما أصابهم القرح، ونزل بهم الضرٌّ وأثخنهم الجراح.
إنَّ من أصعبِ الأُمورِ قيادةَ الأممِ عقبَ الهزائم الكبيرة، والأصعبُ من ذلك قيادةُ الدعوات بعد الانكساراتِ الخطيرة، وإن كان الرجالُ يستسهلون الصعب، ويصابرون الأيامَ حتى يجتازوا الأزمات، ولكن هذه الغزوةُ أثبتت قدرةَ المسلمين، بقيادة الرسول- صلى الله عليه وسلم - على تجاوزِ الصعاب، وتحدي المحن، كما أنَّها أثبتت المميزات القياديةِ الفذَّة، التي يتمتعُ بها رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -.
لقد أراد رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - بهذه الخطوةِ ألاَّ يكونَ أخرَ ما تنضمُ إليه جوانحُ المسلمين ومشاعرهم هو شعورُ الهزيمةِ وآلامِ البرح والقرح. فاستنهضهم لمتابعةِ قريشٍ, وتعقبها، كي يقرَّ في أخلادِهم أنَّها تجربة وابتلاء، وليست نهايةُ المطاف، وأنَّهم بعد ذلك أقوياء، وأن خصومهم المنتصرين ضُعفاء، إنَّما هي واحدةٌ وتمضي، ولهمُ الكرة عليهم متى نفضوا عنهم الضعفَ والفشل، واستجابوا لدعوةِ الله والرسول- صلى الله عليه وسلم -.
ومن جانبٍ, آخر أرادَ أن لا تمضي قريشٌ وفي جوانحها ومشاعرها أخيلية النصر ومذاقتهِ، فمضى خلفهم بالبقية الباقيةِ ليُشعر قريشاً أنَّها لم تنل من المسلمين منالاً.
وفي جانبٍ, أكبر أرادَ أن يُشعرَ المسلمين وأن يُشعر الدنيا كلها من ورائهم، بقيامِ حقيقةٍ, جديدة، وُجدت في هذه الأرض، حقيقةَ أنَّ هُناك عقيدة، هي كلٌّ شيءٍ, في نفوسِ أصحابها، ليس لهم إربٌ في الدنيا غيرها، ولا يستبقون لأنفسهم بقيةً في أنفسهم، لا يبذلونها ولا يقدمونها فداها.
ولم يكن أقوى في التعبيرِ عن وجودِ هذه الحقيقةِ من خروجِ هؤلاءِ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ومن خروجهم بهذهِ الصورةِ الناصعةِ الرائعة الهائلة، صورةَ التوكلِ على الله وحده، وعدم المبالاةِ بمقالةِ الناس، وتخويفهم لهم من جمعِ قريش، ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ)) (آل عمران: 173).
وهكذا يقفُ المسلمون الصادقون في وجهِ كل التحديات التهديدات، وهكذا يُقابلون أنواعَ التخويفِ وصنوف الاستفزاز، إنَّهُ بالإيمانِ بالله والتوكل عليه، فبالإيمان والتوكل يحصلُ الإقدامُ والشجاعة، ويتحققُ الثباتُ على الحقِّ والطمأنينة
بالتوكل على الله، واجه نوحٌ قومه ((وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ نُوحٍ, إِذ قَالَ لِقَومِهِ)) (يونس: من الآية71) وبالتوكل تصدَّى هودٌ لقومه وتحدَّاهم قائلاً: ((أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشرِكُونَ)) * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنظِرُونِ)) (هود: 55، 54).
إنَّ الإنسانَ ليدهشُ لرجلٍ, فردٍ, يواجهُ قوماً غلاظاً شداداً حمقى، يدهشُ الرجل يواجهُ هؤلاءِ القوم الواثقين بآلهتهم المفتراةُ هذه الثقة، فيسفِّه عقيدتهم، ويقرعُهم عليها ويُؤنبهم، ثم يهيجُ ضر واتهم بالتحدِّي، لا يطلبُ مهلةً ليستعدَّ استعدادهم، ولا يدعُهم يتريثون فيطفأَ غضبهم.
إنَّ الإنسانَ ليدهشُ لرجلٍ, فردٍ, يقتحمُ هذا الاقتحام على قومه، غلاظاً شداداً، ولكن الدهشةَ تزولُ عند ما يتدبرُ العواملَ والأسباب، إنَّه الإيمانُ بالله والثقةُ بوعدا لله، والاطمئنانُ إلى نصره، الإيمانُ الذي يخالطُ القلبَ، فإذا وعد اللهُ النصرَ حقيقةً ملموسةً في هذا القلبِ لا يشكٌّ فيها لحظة، لأنَّها ملءُ يديه وملءُ القلب الذي بين جنبيه.
واستمع إلى ما قالهُ ابن القيم- رحمه الله -: عن أثر الإيحاءِ والتوكلِ في طردِ الخوفِ والهلع، وجلبِ الشجاعةِ والإقدام، حيثُ يقول: ولا تستصعبُ مخالفةَ الناس والتحيزَ إلى الله ورسوله ولو كنتَ وحدك، فإنَّ اللهَ معك وأنت بعينهِ وملائكتهِ وحفظه لك، وإنَّما امتحن يقينك وصبرك، وأعظمُ الأعوانِ لك على هذهِ بعد عون الله التجردُ من الطمع والفزع، فمتى تجردت منها هانَ عليك التحيزَ إلى الله ورسوله: وكنتَ دائماً في الجانبِ الذي فيه اللهُ ورسوله.
إنَّ تحدياتِ الأعداءِ وتهديداتهم، لا يُوقفها إلاَّ سياسةُ الثبات على الثوابتِ والوقوف بحزم، أمامَ كلَّ المطالب الجائرة، لأنَّ المؤمن يُوقنُ أنَّ مطالبَ الأعداءِ لن تتوقفَ إلاَّ عند الغايةِ التي ذكر الله، ((وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدٌّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا)) (البقرة: من الآية217)، ((وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم)) (البقرة: من الآية120)، ((وَدٌّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)) (النساء: من الآية89).
ولهذه الصلابةِ والشموخ، واجهَ المسلمون بتهديداتِ قريشٍ, وأذنابها في زمن العزِّ والشموخ، وحتى في أحلكِ ا لظروفِ وأمسِّ الأحوال يُمارس المسلمون سياسةَ الحزمِ والقوة، ويقفوا بكلِّ عزاءٍ, وإباء، في مواجهةِ أي دعوةٍ, للتنازلات، واستمع إلى هذا الموقف.
في غزةِ الأحزاب حيثُ زاغت الأبصار، وبلغت القلوبُ الحناجر، وظنَّ المؤمنون بالله الظنون، وابتلوا وزُلزلوا زلزالاً شديداً، في هذهِ الظروفِ القاسيةِ الحرجة، فكرَّ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - في وسيلةٍ, يُخففُ بها عن المسلمين، فأرسل إلي عُيينة بن حصن وهو من ا لأحزاب قائلاً: (أرأيت إن جعلتُ لكم ثلث تمر الأنصار أترجعُ بمن معكَ من غطفان، وتخذلَ بين الأحزاب، فأرسلَ إليه عيينة إن جعلت لي الشطرَ فعلت، فأرسل النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، فأخبرهما بذلك فقالا: أمراً تحبهُ فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به، أم شيئاً تصنعهُ لنا قال: بل شيء أصنع لكم، والله ما أصنعُ ذلك إلا أنَّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ, واحدة، فقالا: يا رسول الله، قد كُنَّا نحنُ وهؤلاءِ القومِ على الشركِ بالله وعبادة الأوثان، لا نعبدُ اللهَ ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرةً إلاَّ قرىً أو بيعاً، أ فحين أكرمنا اللهُ بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزَّنا بك، نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نُعطيهم إلاَّ السيف حتى يحكمَ اللهُ بيننا وبينهم.
فالله أكبر على تلك العزة والإباء.
إنَّ التنازلَ عن المبادئِ والثوابتِ ليُقال إنَّكم معتدلون وشريعتكم سمحة، ذلك هو الفشلُ الذر يع، ورُبما تفعلُ حكمةً حازمةً جازمةً ما لا تفعلهُ السيوف، ورُبما تُرعبُ العدو وتضعُ له حداً، وإنَّ الانحرافَ الطفيفُ في أول الطريق، ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.
أيٌّها المسلمون: ونحنُ اليومَ أمام تحدياتٍ, ونواجهُ تهديداتٍ, وتُشنُ على بلادنا ومبادئنا حملاتٍ, جائرة، والنفاقُ الإعلامي يُرددُ الغربَ قد جمعوا لكم فاخشوهم وقدموا التنازلات، دعوا المرأةَ تقودُ السيارة، واسمحوا بالاختلاط، وغيِّروا في المناهج، وأحدثوا تغييراتٍ, في نظامكم الاجتماعي لأنَّ الغربَ قد جمعوا لكم فاخشوهم.
إنَّ هذا الإرجاف وهذه الحملات النفاقية، هي من شياطينِ الجنِّ والإنس، إنَّما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه إنَّ الشيطانَ هو الذي يُضخمُ من شأنِ أولياءهِ، ويُلبسهم لباسَ القوةِ والقدرة، ويوقعُ في القلوبِ أنَّهم ذوو حولٍ, وطول، وأنَّهم يملكونَ النفعَ والضر، ذلك ليقضي بهم لبناته وأغراضه، وليحققَ بهم الشرَّ في الأرض والفساد، وليخضعَ لهم الرقاب، ويطوعَ لهم القلوب، فلا يرتفعُ في وجوههم صوتٌ بالإنكار، ولا يفكِّرُ أحدٌ في الانقضاض عليهم ودفعهم عن الشرِّ والفساد، والشيطانُ صاحبُ مصلحةٍ, في أن يتفشَّى الباطل، وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً، جباراً لا تقفُ في وجههِ معارضة، ولا يصمدُ له مدافع، ولا يغلبهُ من المعارضين غالب،
ولكنَّ الله يكشفُ لنا الحقيقة، ((فَلا تَخَافُوهُم وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ)) (آل عمران: من الآية175)، فهو وهمٌ أضعفُ من أن يخافهم مؤمنٌ يركنُ إلى ربه، ويستندُ إلى قوته، إنَّ القوةَ الوحيدةَ التي تُخشى وتُخاف، هي القوةُ التي تملكُ النفعُ والضر، هي قوةُ الله، وهي القوةُ التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها فهم أقوى الأقوياء، فلا تقفُ لهم قوةٌ على الأرض.
بالتوكلِ على الله انتصرت القلةُ المؤمنةُ في بدرٍ, وهم أذلة، وأرعبت القلةُ المجروحةُ في حمراءِ الأسد جمع الكافرين، ونصرَ اللهُ مائةً من الصابرين في حُنينٍ, على عشرين ألفاً من ا لمشركين، ومن يتوكل على اللهِ فهو حسبه.
إنَّ القوى الصليبيةَ اليوم تهزٌّ عصاها وتلوِحُ بالعداء، وتوعدُ بالعقابِ إن لم نبدِّل في شريعتنا وأخلاقنا، وإنَّ الجواب على مطالبهم، أن نقولَ بكلِّ عزٍّ, وإباء، لا ألف لا، لأيِّ تنازلٍ, عن قيمنا ومبادئِ ديننا، ولا ألف لا لكلِّ خطوةٍ, في هذا المجال وأيِّ سبيل، فإن قالوا إنَّهم قد جمعوا فالجواب: أمنا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل،
واستغفروا الله
الخطبة الثانية :
أمَّا بعد: فإنَّهُ مع اشتدادِ الأزمات، ومجاهرةِ الأعداءِ بالعداء، ومع شدةِ الضغوطِ والهجماتِ والتلويحِ بالاعتداء، تبقى أسئلةٌ تفرضُ نفسها:
هل نحنُ مستعدون ليومٍ, نجدُ فيه أنفسنا في مواجهةِ البغي الصليبي؟ ليس السؤالُ عن الاستعدادِ بالسلاحِ والعتاد!! فهذا أمرٌ لهُ ظروفه وطبيعته، ولكن السؤالُ عن الاستعدادِ بحيازةِ أسلحةِ النصرِ الربانية، فهل نحنُ على حالٍ, نستحقُ نصر الله؟ هل لنا من أفعالنا وأقوالنا وأحوالنا ما نستنزلُ به رحماتُ الله وتأييده الذي يؤيدُ به أولياءهُ؟ أم أننا ما زلنا نحتفظُ كبقيةِ الأمةِ بحقوقِ الفشل؟ وعلى رأسها التنازعُ والتدابر؟
هل يوالي بعضنا بعضاً، وينصرُ بعضنا بعضاً؟ حتى يوالينا اللهُ وينصرنا على أعدائنا، سؤال يُجيبُ عنهُ واقعنا.
هل نُعادي الأعداء حقاً ونطيعُ أمر اللهِ بالأعداءِ والاستعدادِ لهم؟ سؤالٌ يُجيبُ عنهُ أعداؤنا.
هل نؤدي واجبَ النُصرةِ لإخواننا ضد أعدائهم وأعدائنا بما يرفعُ الكربُ عنهم والإثم عنا؟ سؤالٌ يُجيبُ عنه إخواننا، وقبل ذلك كلهِ، هل نصرنا اللهَ حتى ينصرنا الله؟ سؤالٌ سيُعادُ علينا يومَ بعثنا، إنَّ هذه التساؤلات وغيرها، ستظلُ تتهاوى في فضاءِ واقعنا المُؤلم، حتى نضعُ لها إجاباتٍ, بالعمل قبل القول، وبالحركةِ قبل التنظير، وبالإتقانِ المقترنِ بالنية، فالتحديات التي تواجهنا، تفرضُ علينا اليومَ وقبل اليوم، وفي الغدِ وبعد الغد، أن نكونَ على مستوى المرحلة، وعلى مستوى المسؤولية، وعلى مستوى الأمانة.
لن نناشدَ فيكمُ اليومَ إلاَّ الرجولة، فلنكن رجالاً وإلاَّ فلن نكونَ شيئاً مذكوراً، ولنكن رجالاً كما أرادَ اللهُ، رجالاً في العبودية، ((فِي بُيُوتٍ, أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ)) (النور: 36) ورجالاً في الانتصارِ لدينه، ((مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ)) (الأحزاب: من الآية23).
إنَّ واقعنا اليوم لا يحتاجُ منَّا إلاَّ أن نكونَ رجالاً، بل أن يكونَ نساؤنا وأطفالُنا كالرجالِ في الثباتِ والعطاءِ والفداء.
ومن الرجولةِ أن نكونَ أفراداً وجماعات، كالبنيانِ المرصوص، كما يحبُ الله، فأين بُنياننا؟ أين الذلةُ على المؤمنين مع العزةِ على الكافرين؟ أين فريضةُ التعاون على البر والتقوى؟ أين سجيةَ التراحمِ والتناصحِ والتسامح؟ أين إخباتُنا وخشوعنا وضراعاتنا إلى الله ومجافاة الهجوعِ بالدعاءِ والرجاء؟.
أين دعمُنا للصامدين من الصابرين الذين يُدافعون نيابةً عنَّا، ويُخففون الإثمَ عن كواهلنا؟ ويدفعون الشر عن أبوابنا؟.
أين برامجُنا في أحوالِ السلامةِ لمواجهةِ أيام الخطر؟ أين جُهدنا في بلدانِ الرفاهيةِ والأمن لدفعِ الجوعِ والخوفِ عمن ابتلاهم الله وعافانا، وقدَّرَ عليهم رزقهم وأعطانا؟.
هل حدَّثنا أنفسنا بالغزوِ حتى لا نموتَ على شعبةٍ, من النفاق؟ أم تحدثنا نفُوسنا هي بالشهوات واللذائذِ والغرائزِ والنزوات بدلاً من الغزوات؟ أين جهادُ الروحِ ورحُ الجهاد والاستشهادِ في ذواتنا وذرياتنا؟ أين نماذجُ الفداءِ والعطاءِ في زوجاتنا وإخواننا وبناتنا عند نزولِ الجدِّ ونزول الخطب؟
أعداؤنا استعدوا بالدينِ الباطل لنا، فهل استعددنا بالدينِّ الحقِّ لهم؟ أعداؤنا يطرقون أبوابنا وبأيديهم التوراة وإنجيل محرفتان؟ فهل أوصدنا تلك الأبوابِ وصددنا ذلك الطغيان وبأيدينا السنةُ والقرآن؟ هل استعدت الأمةُ جميعاً لأعدائِها فتركت الترف؟ وجانبت البذخ؟ وشكرت نعم اللهِ؟ أم إنَّها نظرت معيشتها ولا زالت تشدٌّ الرحال إلى مسابقاتِ ملكات جمال الإبل؟.
أسئلةٌ تطرحُ نفسها، والجوابُ نملكهُ لا غيرنا.
وأخيراً إلى الدعاة والمصلحين والواعظين، نداءً بأن يستثمروا حالَ الأمةِ وصراعها مع أعدائها في استنهاض الهممِ والطاقات، وإحياءِ الغيرةِ في النفوسِ، وتشجيعِ جميع المسلمين كبيرهم وصغيرهم ذكرَهم وأنثاهم لبذلِ المعروف، والدعوةِ إلى الله والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى المقصرين بل والعصاة.
ومن استثمارِ الأحداث، إحياءُ وعي الأمةِ بحقيقة المعركة التي تواجَّهُ ضدها، من الصليبية، وأنصارهم، وأنَّها حربٌ عقديةٌ وأخلاقية، مع بيانِ سبيل النهوضِ والعزة، وأنَّهُ بالعودةِ الصادقةِ إلى دين الله.
وإلى الأمةِ جميعاً لا يهولنَّكم هذا الجمعُ الدولي، ولا يهولنَّكم تواطؤ أممُِ الأرض عليكم، ولا تهولنَّكم أممُ الكفر بقواتها العسكرية، وترسانتها الجوية، فإنَّ قوتهم لا تساوي شيئاً أمامَ قوةِ الله - تعالى -، جبَّار السماوات والأرض، وقديماً كان أسلافنا يَرون طائراتُ أعدائهم فلا يفزعون، فإن رأوا مفزوعاً قالوا لهُ: أهي تحت اللهِ أم فوق الله، وبهذا التوكلُ الصادق نصرهم الله.
لا يهولنكم ذلك الإرجافُ الإعلامي، الذي طغى ضجيجهُ في كلِّ مكان، فإنَّما ذلك من تخذ يل الشيطان أولياء، ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ)) (آل عمران: 173)
وإننا على يقينٍ, راسخٍ, بأنَّ النصرَ متحققٌ لهذه الآية، إن عاجلاً أو آجلاً، ((سَيُهزَمُ الجَمعُ وَيُوَلٌّونَ الدٌّبُرَ)) (القمر: 45).
وكيف تُهزمُ أمةٌ يُؤمنُ رجالها بأنَّ ريحَ الجنة يفوحُ عبيرهُ بين الصفوف فيتتبعون الموت مظانه، مُقبلين غيرَ مدبرين، وكيف تُهرمُ أمةٌ يُؤمنُ شبابها بأنَّ الاستشهاد في سبيلِ الله هو طريقُ الحياةِ والعزِّ والتمكين، وكيف يتجرأُ الأعداءُ على أمةٍ, يحبٌّ شبابها الموت كما يحبٌّ الأعداءُ الحياة، لستُ أعني بالشباب الجبناءَ أمثالي، ولا الناعمين المترفين الذين يُنافسون أخواتهم على أدوات التجميل، ولكنهم الشباب المؤمنون بالله، الغيورون على أمتهم ووطنهم.
إنَّ أولَ مراحلِ النصر: الانتصارُ على النفسِ وطردَ الخوفِ من القلب، فحاربَ الخوف، فما دبَّ الخوفُ في قلبٍ, إلاَّ تصدعَ كيانه، ونزلت أركانه، وكلٌّ كريهةٍ, تُرفعُ أو مكرمةٍ, تكتب، لا تتحققُ إلاَّ بالشجاعةِ وبقوةِ القلب، يقتحمُ المرءُ الأمورَ الصعاب، ولن يسلبَ الخوفُ من القلبِ إلاَّ بصدق اليقين والإيمان، ((وَأَنَّا لَمَّا سَمِعنَا الهُدَى آمَنَّا بِهِ)) (الجـن: من الآية13).
وأهلُ التوحيد الخالص هم أعظمُ الناسِ قوةً وثباتاً، وكيف يخافُ وأمَّنهُ اللهُ وهداه، ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ, أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ)) (الأنعام: 82)
فما وجلت قلوبهم، ولم تكن كأخرى*** لها مرهدة، الرعبُ زلزال
رجالٌ سارَ الإيمانُ ملءَ نفوسهم، *** فلا الجبنُ منجاةٌ ولا البأسُ قتَّال،
ولا الموتُ مكروهٌ على الفردِ ورده *** ولا العيشُ موردهُ إذا خيف إذلال
تداعوا فقالوا حسبنا الله إنَّهُ *** لما شاءَ من نصرِ الهُداةِ فعَّال
اللهمَّ أدم لبلادنا أمنها وإيمانها، واحفظ لها علماءَها ودعاتها، ووفق حُكامها ودعاتها،
اللهمَّ صل على سيدنا محمد وعلى آله و- صلى الله عليه وسلم -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد