بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً.
((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ)) (102 سورة آل عمران).
((يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ, وَاحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيبًا)) (سورة النساء: 1).
(({يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولًا سَدِيدًا)) (سورة الأحزاب: 70).
خلقٌ من أخلاقِ الإسلام، هو قرينُ الإيمان، وأمارةٌ صادقة على طبيعة الإنسان، يكشفُ عن قيمةِ إيمانهِ ومقدار أدبهِ هو خيرٌ كله، وكلهُ خير، ولا يأتي إلا بخير.
خلقٌ من أخلاق الملائكة، وسمةٌ من سمات الأنبياءِ وأتباع الأنبياء.
خلق من أسمى الصفات الإنسانية، وأنبل الأخلاق الفاضلة، خلقٌ أصبح اليوم ختمه وسائل الإعلام، والخلقَ المسنودِ في المسلسلاتِ والأفلامِ والبرامجِ الحوارية المفتوحة، وحين تختلطُ المذيعةُ بالمذيع، ويتكلمون المكالماتِ السامجة، خلقٌ داستهُ بعض نسائنا في الأسواقِ والأفراحِ والمنتزهات، ووطئتهُ ثلةٌ من شبابنا في الحدائقِ والطرقات، إنَّهُ خلقُ الحياء، الحياءُ من اللهِ ومن النفسِ ومن الناس، إنَّه الخُلق الذي اتصفَ به الأنبياء، فإنَّ مما أدركَ أناسٌ من كلامِ النبوةِ الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت، إنه خلق قدوتنا محمد r والذي كان أشدُ حياءً من العذراءِ في خدرها، وإذا كره شيئاً عُرف في وجهه، إنَّهُ الحياءُ والخلقُ الذي يبعثُ على فعلِ الحسن وترك القبيح، ويمنعُ من التقصيرِ في حقِ ذي الحق.
إنَّهُ الحياءُ ما كان في شيءٍ, إلا زانه، وما نُزع من شيءٍ, إلا شانه، ولو تجسم الحياءُ لكان رمز الصلاح والإصلاح عندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي أو ترى حُمرةَ الخجل تصبغُ وجههُ إذا بدرَ منه مالا يليق، فاعلم أنَّهُ حيٌّ الضمير، نقيَّ المعدن، زكي العنصر.
وإذا رأيتَ الشخص ضعيفاً بليدَ الشعور، لا يُبالي بما يأخذُ أو يترك فهو امرؤٌ لا خيرَ فيه، وليس لهُ من الحياءِ وازعٌ يعصمهُ عن اقترافِ الأثام، وارتكابِ الدنيا، وإذا لم تستحِ فاصنع ما شئت.
الحياءُ والإيمانُ قرناء جميعاً، فإذا رُفع أحدهُ رفع الآخر، وحينما يفقدُ المرءُ حياته يتدرج من شيءٍ, إلى أسوء، ويهبطُ من رذيلةٍ, إلى أرذل، ولا يزالُ يهوي حتى ينحدرَ إلى الدرك الأسفل، وفي حديثٍ, يكشفُ مراحلَ السُقوط الذي يبتدئُ بضياعِ الحياء، وينهى بشرِ العواقبِ يقول r: ((إن الله - عز وجل - إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً، فإذا لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائناً مخوناً فإذا لم تلقه إلا خائناً مخوناً نزعت منه الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيماً معلناً فإذا لمت لقه إلا رجيماً ملعوناً نزعت منه ربقة الإسلام)) ابن ماجه.
إنه وصفٌ دقيقٌ في وصفِ أمراضِ النفوس، وتتبعِ أطوارِها، إنَّ الرجلَ إذا مزقَ الحجابُ عن وجههُ ولم يتهيب على عملهِ حساباً، ولم يخشى في سلوكهِ لومةَ لائم، مدّ يد الأذى للناس، وطغى على كلِّ من يقعُ في سلطانه، وإذا لم تستح فاصنع ما تشاء.
أيها المسلمون:
إنَّ الحياءَ ما كانَ في الكلامِ، وهو يتطلبُ من المسلم أن يُطهرَ لسانه من الفحش، وينزههُ عن العيب، وأن يخجلَ من ذكرِ العورات، وإنَّ من سُوء الأدبِ أن تفلت الألفاظ البذيئةِ من المرءِ غير عاني بمواقعها وآثارها، وفي الحديث: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء، والجفاء في النار)).
وإن من الحياءِ أن يخجلَ الإنسانُ من أن يؤثرَ عنهُ سوءً، وأن يحرصَ على بقاءِ سمعتهِ نقيةً من الشوائب، بعيدةً عن الإشاعات السيئة.
ومن حياءِ الإنسانِ من الناس أن يعرفَ لأصحاب الحقوقِ منازلهم، وأن يؤتي كل ذي فضلٍ, فضله، فلغلام مع من يكبرونه، وللتلميذِ مع من يُعلمونهُ، مسلكٌ يقومُ على التأدبِ والتقدير، فلا يسوغُ أن يرفعَ فوقهم صوته، ولا أن يجعل أمامهنَّ خطوة.
وعن عبد الله بن بسر قال: لقد سمعتُ حديثاً منذُ زمان: ((إذا كنت في قومٍ, فتصفحت وجوههم، فلم ترى فيهم رجلاً يُهابُ في الله - عز وجل -، فاعلم أنَّ الأمر قد رق)).
الرجلُ الحيي يحتقنُ وجههُ، وتحمرُ وجنتاهُ إذا صدرَ منهُ أو من غيرهِ ما يُنافي الحياء، ومن سِمتِ الحياءِ ما يتميزُ به الحيي من مظاهرَ الوقارِ والسكينة، ومكتوبٌ في الحكمة: إن من الحياء وقاراً وإن من الحياء سكينة.
والحياء المحمود يحجز النفس عن كثير من خوارم المروءة وقوادح الدين، وينأى بالمرءِ عن الرذائلِ، ويحجزُ عن السُقوطِ في سفاسفِ الأخلاقِ وحماةِ الذُنُوب، إنَّ من لا حياءَ لهُ فهو ميتٌ في الدنيا شقيُّ في الآخرة، وبين الذنوب وبين قلة الحياءِ وعدم الغيرةِ تلازمٌ من الطرفين، إنَّ هناك تلازماً بين ستر ما أوجبَ اللهُ ستره وبين التقوى، فكلاهما لباسٌ هذا يستر عوراتُ القلب ويزينه، وذاك يسرُ عوراتُ الجسمِ ويزينه.
إنَّ مسارعةُ أدم وحواءَ إلى سترِ عوراتهما بأوراقِ الشجرِ، دليلٌ على أنَّ الحياءَ عنصرٌ أصيل، مر كوزٌ في فطرةِ الإنسان، فعليه أن يهتمَّ به ويحافظُ عليه، ويصونه من أن يثلم، وإذا لم يستح المرءُ فليصنع ما يشاء.
إذا لم تخشى عاقبةُ الليالي *** ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيشِ خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
فيبقى المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العودُ ما بقى اللحاءُ
ليس عجيباً ما نراهُ من منكراتِ الأخلاق إذا علمنا أنَّ وازعُ الحياء قد مات، حينما قلَّ الحياءُ عند بعضِ نسائِنا حادثت المرأة الرجل، ومازحت البائع، وركبت وحدها مع السائق، وضاحكت الأجانب، وتساهلت في الهاتف، حينما قل الحياء عند بعض شبابنا، رفعوا صوت الغناء، وعاكسُوا النساء، وتشبهوا بالأعداء في وسَطِ الطريقِ يرقصون، وبقصاتٍ, مُضحكةٍ, يظهرون، وبالحركاتِ السافلةِ يُجاهِرون، حينما قل الحياءُ فتجمعنا واستعلن البعضُ بالمنكر، فنُصبت الأطباقُ الهابطة، وجاهرَ البعضُ بأخطائهِ، فإذا يصيفُ رحلة مع عائلته إلى خارج البلاد، وذاك يحدث بكل جرأةٍ, وثقةٍ, عما شاهده في القنوات، وإذا لم تستح فاصنع ما تشاء.
وحينما قل الحياء قُلبت الحقائق، واستغفل الناسُ، ولبس الحق بالباطل، فأصبحَ التدين تطرفاً، والجهادُ إرهاباً، والإرهابُ دفاعاً عن النفس، وأضحي الذل سلاماً.
أيٌّها المسلمون:
إن أسمى صورِ الحياءِ ومنازله هو ما كانَ مع الخالقِ جل جلاله، فنحن نطعمُ من خيرهِ، ونتنفسُ في جودهِ وندرج على أرضه، ونستظل بسمائه، والإنسانُ بازاء النعمة الصغيرةِ من مثله يخزى أن يقدم إلى صاحبها إساءة، فكيف لا يوجلُ الناس من الإساءة إلى ربهم الذي تغمرهم آلاؤه في كل حين وأن.
هب البعث لم تأتنا رسله *** وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق *** حياء العباد من المنعم
قال بعض السلف: خلف الدعم قدر قدرتهُ عليك، واستح على قدرِ قربه منك، قال : ((استحيوا من الله حق الحياء، قلنا: إن نستحي والله يا رسول الله، الحمد لله، قال: ليس ذلك الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)).
إنَّ على المستحي من الله تنزيه لسانهِ أن يخوض في باطل، وبصر أن يرمقَ عورة وينظر شهوة، وأن يحفظ أذنهُ أن تستر من سراً أو تسمع زوراً، وعليه أن يفطمَ بطنه عن الحرام، ويقنعَ بالحلالِ الميسور، ثم عليهِ أن يصرف أوقاته في مرضاةِ الله وإيثارِ ما لديه من ثواب، فلا تستخفُ به نزواتُ العيشِ ومتعهِ الخادعة، فإن فعل ذلك عن شعورٍ, بأن الله يرقبهُ، ونفور من اقترافِ تفريطٍ, في جنب الله، فقد استحيا من الله حق الحياء.
وإذا خلوةَ بريبةٍ, في ظلمةٍ, *** والنفسُ داعيةً إلى العصيان
فاستحي من نظرِ الإله وقل *** لها إنَّ الذي خلق الظلام يرانِ
والحياءُ من الناس خلقٌ حسنٌ جميل، يمنعُ المعايب، ويشيعُ الخيرَ والعفاف، قال حذيفة: لا خيرَ فيمن لا يستحي من الناس، وقال بعضُهم أحيـي حياؤُك بمجالسةِ من يُستحيى منه.
ومن استحيى من الناسِ ولم يستحيي من نفسهِ فنفسهُ أحسنُ عندهُ من غيره، لأنَّهُ يراها أحقرُ من أن يُستحي منها، ومن كبرت عليه نفسهُ، كان استحياؤه منها أكثر واستحيائه من غيره، ومن ثّمَّ قال بعضُ السلف: من عملَ في السرِّ عملاً يُستحي منه في العلانيةِ فليسَ لنفسهِ عندهُ قدر، وما كرهتَ أن يطلعَ عليه الناسُ فلا تفعلهُ إذا خلوة، وفي الأثرِ: استحيي من اللهِ كما تستحي من أولي الهيبةِ من قومك.
أيها المسلمون:
قد كانَ المصطفى يأخذ نفسهُ بالحياءِ، ويأمرُ به ويحثُ عليه، ومع ذلك فلا يمنعهُ الحياءُ من حقٍّ, يقوله، أو أمرٍ, ديني يفعله، تمسكاً بقوله - تعالى -: ((وَاللَّهُ لَا يَستَحيِي مِنَ الحَقِّ)).
وهذا هو نهاية الحياءِ وكماله وحسنه واعتداله، فإنَّ من فرط عليه الحياء حتى منعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرمَ منافع الحياء، واتصف بالنفاقِ والرياء ((يَستَخفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَستَخفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرضَى مِنَ القَولِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطًا)) (سورة النساء: 108).
إن تركَ الحياءِ في النصح، والأمر والنهي الشرعيين من النعوتِ الإلهية، والله لا يستحيي من الحق، والذي يتهيبُ تقريعَ المُبطلين لا يعتبر حيياً في موقفِ الانتصار للحق، وفضحِ العقائد الفاسدة، والتهوين من شأنِ الباطل، يعتبرُ الحياء فيها ضعفاً وخوراً ومهانة.
لا ينبغي الحياءُ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا في المطالبةِ بالحقوقِ، ولا في تعليم الجاهلِ ولا في السؤالِ عمَّا لا نعلم، ولا يتعلمُ العلم مستحيي ولا مستكبر،
وقد قالت عائشة - رضي الله عنها -: (نعم النساء نساءُ الأنصار لم يمنعهنَّ الحياء أن يتفقهن في الدين) قال r: ((لا يمنعنَّ رجلاً هيبةَ الناسِ أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه)).
إخوة الإسلام:
إنَّ اهتزازَ الإنسان، وتمعرَ وجهه في بعض المواقفِ دليلُ سمحاً من طبعِ قربه، والحياءُ خير كله.
أما إذا سقطت صبغةُ الحياءِ عن الوجه كما تسقط القشرة الخضراءِ عن العود الغصن، فقد أذنت الحياةُ الفاضلة بالضمور، وتهيأ الحطام الباقي أن يكون حطباً للنارِ، وذلك الذي يقال له: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه *** فلا خير في وجه إذا كل ماؤه
حياؤه من حفظه عليك فإنما *** يدل على وجه الكريم حياؤه
أقول هذا القول.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فقفوا قليلاً: أيها المسلمون أرعوا سمعكم وعيشوا مع النموذجية والمثالية، وتقيؤا ظلالَ شجرةِ الحياء الحق، وارتشفوا من رحيقِ سلفكم ماءً زلالاً، وعسلاً مصفى.
قال أبو عبد الله محمد بن سيرين، ما غشيت امرأة قط، ولا في يقظةٍ, ولا في نومٍ, غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأةَ في المنامِ فاعلم أنَّها لا تحلُ لي فأصرفُ بصري.
مرَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلاً فسمعَ امرأةً تقول:
تطاولَ هذا الليلُ واخضل جانبه *** وأرقني أن لا خليلَ ألاعبه
فو الله لولا اللهِ لا ربَّ غيره *** لحركتُ من هذا السريرِ جوانبه
مخافة ربي والحياءُ يصونني *** وأكرمُ بعلي أن تنالَ مراكبه
وهُاك مثالاً في الحياء والطُهر للمرأةِ المسلمة، إنَّها ابنة الرجلِ الصالح، تنحدرُ من بيتٍ, قريبٍ, ينضحُ بالعفافِ والطهرِ والصيانة وحسب التربة، ((فَجَاءتهُ إِحدَاهُمَا تَمشِي عَلَى استِحيَاء)) (سورة القصص: 25).
قال عمر - رضي الله عنه -: ((ليست السلفع من النساء)) أخرجه ابن ماجه.
ولكن جاءت مُستترةً قد وضعت كُم درعها على وجهها استحياء، تمشي على استحياءٍ, مشية الفتاةِ الطاهرة، الفاضلة العفيفة، حين تلقي الرجال، على استحياء في غير ما تبذلٍ, ولا تبرج، ولا تبجج ولا إغوار، جاءته لتنهي إليه دعوةً في أقصر لفظٍ, وأخصرهِ وأدله ((إِنَّ أَبِي يَدعُوكَ)).
وهذا مثالٌ من بيتِ النبوة، فعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: كنتُ أدخل البيتَ الذي دُفنَ فيه رسول الله وأبي- رضي الله عنه- واضعةً ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلمَّا دُفنَ عمر -رضي الله عنه- ما دخلته إلا مشدود ت علي ثيابي، حياءً من عمر- رضي الله عنه -.
والحادثةُ التالية: إن صحتَ تجسدِ قيمة الحياء.
جاءت امرأةٌ إلى النبي يقال لها: أم خلاد، وهي متنقبة تسألُ عن ابنها، وهو مقتول، فقيل لها: جئت تسألينَ عن ابنك وأنت منتقبة، فقالت: إن أرزأ ابني فلن أرزأ حياتي.
وفي زمننا هذا، هاكم هذا الموقف العجيب.
قال أحدُ الدعاة: كنتُ في رحلةٍ, دعويةٍ, إلى بنجلاديش مع فريقٍ, طبي، أقام مخيماً لعلاجِ أمراضِ العيون، فتقدمَ إلى الطبيبِ شيخٌ وقورٌ ومعه زوجته، بترددٍ, وارتباك، ولما أرادَ الطبيبُ المعالج أن يقتربَ منها، فإذا بها تبكي وترتجفُ من الخوف، فظن الطبيبُ أنَّها تتألم من المرض، فسأل زوجها عن ذلك فقال: وهو يغالبُ دموعه: إنَّها لا تبكي من الألم، بل تبكي لأنَّها ستضطر أن تكشفَ وجهها لرجلٍ, أجنبي، لم تنم ليلةَ البارحةِ من القلقِ والارتباك، وكانت تُعاتبُني كثيراً أو ترضى لي أن أكشف وجهي، وما قبلت أن تأتي للعلاجِ إلاَّ بعد أن أقسمتُ لها أيماناً مغلظةً بأن الله - تعالى -أباحَ لها ذلك عند الاضطرار، ((فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ,)).
فلما اقتربَ منها الطبيبُ نفرت منهُ، ثم قالت: هل أنتَ مسلم، قال نعم والحمد لله، قالت: إن كنت مسلماً فأسألُكَ بالله ألا تهتك ستري إلا إذا كُنتَ تعلمُ يقيناً أن الله أباحَ لك ذلك.
أجريت لها العملية بنجاح، وعادَ إليها بصرها بفضلِ الله - تعالى -، حدثَ عنها زوجها أنَّها قالت، لولا اثنتانِ لأحببتُ أن أصبرَ على حالي ولا يمسني رجلٌ أجنبي، قراءة القرآن وخدمتي لك ولأولادك.
ما أعظمَ شموع المرأةِ المسلمةِ بعزتها وعفافها، وما أجملَ أن ترى المرأة مصونةً فخورةً بحشمتها.
أكرم به من إيمانٍ, يتجلى في صورةٍ, عمليةٍ, صادقة، بعيدةٍ, عن التكلفِ أو التنطع، سالمةً من الرياءِ وشوائبِ الهوى، كانت أريد أن أنهي حديثي عن هذهِ الصورِ الورديةِ، والمواقفَ الإيجابية، لكنني وجدتُ نفسي تنسلُ من جنةِ الصورِ الرائعة، لتعيشَ في واقعِ المواقفِ الماتعة، وبتٌّ أتساءلُ في قرارة نفسي، يا ترى أينَ هذه المواقفُ من حالِ بعضِ نسائنا اليوم، وما يحدثُ في الأسواقِ والحدائقِ والمدنِ الترفيهية، تبرجٌ وسفور، تكسرٌ في الكلام، خضوعٌ في القول، ممازحةً ومضاحكةً للرجال.
أنها فعلت نساؤنا في افتتاح أسواقٍ, لا ناقة لهنَّ فيها ولا جمل، هناك تجمعن لا لشيءٍ, إلا فضولاً وعبثاً، هناك زاحمن الرجال، وتعرضنَ لكلِّ لامس، وصافحنَ آخرين، وكشفن عن الوجوه، وانطلقت حناجرُهنَّ بالصخبِ والضجيج، هُناك تَزلزلَ جبلُ الحياءِ، وانفرطَ حبلُ الفضيلة، لأنَّ من أتى بهنّ أشباهَ رجالٍ, ولا رجال.
فيا ليتهم إذ لا غيرةَ إسلامية أن يكونَ عندهم حميةً عربيةً جاهلية.
إنَّ هذه الصورُ الرائعةِ لنساءِ سلفنا وخلفنا، من أولئك النساءِ اللواتي كسرنَ طوقَ الحياء، وأسلمنَ أنفسَهُنَ لدعاةِ الرذيلةِ وأدعياءِ المدنية، وأصبحنَ يلهثنَ وراءَ شهوتهنَّ، ويتبارينَ في التفسخ والانحلالِ، من خلالِ أزياءٍ, تسلبُ كلَّ معالمَ الحياء.
ولكن يتفطرُ القلبُ أسى وحزناً على أولئكَ الفتيات الظاهرات، اللاتي طاشت بهنّ الأهواء، وأسلمنَ أنفسهنّ بكلِّ غفلةٍ, وبلاهة لكل ناعق.
أسئلةٌ أطرحها لكم يا معشر الأولياء، يا أهلَ القوامةِ، وعليكم أن تتحملوا مسؤوليةَ الجوابِ عنها عملاً ولا قولاً.
إنَّ المرأةَ سترها رمزُ حيائها وحجابها، دليلُ كرامتها، وإذا اختلَّ حياءُ المرأةِ تزلزلت قدماها، وعصفت بها الفتن، وليس عن سلبِ الحياءِ حياءٌ عن قبيح، ولا زاجرٌ عن محظور، فهو يقومُ على ما يشاء، ويأتي ما يهوي، إن من الواجبِ علينا أيٌّها المسلمون أن نُربي أبنائنا وبناتنا منذُ الصغر على هذا الخُلق الأصيل، فإنَّ القصورَ إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشب.
في مستهلِ حياة الطفل الصغير، يبرزُ خلقُ الحياءِ، ويأخذُ طريقهُ إلى النمو، وهنا تظهرُ أهميةَ المُربي في تنميةِ واستثمار الحياء.
قال الإمام الغزالي: ومهما رأى المربي في الصغر مخايل التمييز، فينبغي أن يحسنَ مراقبتهِ، وأول ذلك ظهورُ وائل الحياء، فإنَّهُ إذا كان يحتشم ويستحي، ويترك بعض الأفعالِ فليسَ ذلك إلاَّ لإشراقِ نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحاً ومخالفاً للبعض، فصار يستحي من شيءٍ, دون شيء، وهذه هدايةً من اللهِ - تعالى -إليه، وإشارةٌ تدل على اعتدالِ الأخلاقِ وصغار القلب، وهو مبشرٌ بكمال العقلِ عند البلوغ، فالصبيٌّ المستحي لا ينبغي أن يهملَ بل يستعانُ على تأديبهِ بحيائهِ وتمييزه.
إنَّه لا يمكن للحياءِ أن يتأصلَ في نفس الصغير إلا بمراقبتهِ عن مخالطة السفهاء، أو سماع لغو الكلام، ثُمَّ أخذه بسير الصالحين ومجالستهم، تثبيتاً لدعائمِ هذه الفضيلةِ بحلولِ الصحبةِ المباركة، قال الغزالي: ويحفظ الصبي الأشعارَ التي فيها ذكرُ العشقِ وأهله، ويحفظُ من مخالفةِ الأدباءِ الذين يزعمون أنَّ ذلك من الظرفِ ورقةِ الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد.
كم يخطئ الأب حين يدفع بولده باسم الحرية ليجالس من شاء، ويترك البنت تلبس ما تشاء، ويسمع من الأغاني الهابطة ما شاء، اعتماداً على قوة خُلقهم وثقتهم بأنفسهم، وتمر الأيام، وإذا بصورِ الخلاعةِ والمُجون والتفسخ، تتركُ آثارها في نفوسهم ليواجهوا الحياة بعد ذلك بإرادة خدمتها تلك الصور، وهذه الأغاني، وذاك اللباس.
ورب قبيحة ما حل بيني *** وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن *** إذا ذهبا لحياء فلا دواء
إن أخذ الناشئة من بنين وبنات بالفضيلةِ في مستهل حياتهم، تقوية مهم عليها، بحيث تصدرُ عنهم بلا تكلف، ومتى صارت الفضيلةُ أعادت لهم أزواء خُلقِ الحياء قوةً مع الأيام، وبقدر ما يكونُ التهاونُ، وإرخاءُ حبلِ الهزلِ تضعف هذه القوة، فيسير الناشئ من ضعفٍ, إلى ضعف، تنحلُ به شخصيتهُ.
وإنَّما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى، فإذا حققت الأسرةُ في هذا المضمار نجاحاً خفَّ حملها في المستقبل، لأنَّها قدمت من أمسها لغدها ومن حاضرها لمستقبلها.
وإنما الحياةُ بالحياءِ، والتوفيقُ من ربِّ الأرض والسماء.
اللهم صل على من بلغ الرسالة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد