بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتّقوا الله - تعالى -حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جل جلاله يقول في كتابه العزيز: \"وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِن الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ, مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاً\" [الإسراء: 70].
أيّها المسلم: ممّا كرَّم الله به ابنَ آدمَ نعمةُ العقل، ميَّزه بها من بينِ سائرِ المخلوقاتِ، هذا العقلُ جعلَه الله مناطَ التّكليف، فمَن سُلِب عقله لم يكن من أهلِ التكليف، ((رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظَ، وعن المجنون حتى يفيقَ، وعن الصبيِّ حتى يبلغ))[1]. إذًا فنِعمةُ العقلِ نعمة عظمَى من الله على العبد، يميِّز به النافعَ من الضارّ، ويعرف به مصالحَ دينِه ودنياه، ويميِّز به بين الحسَن والقبيح.
وقد ذمَّ الله أقوامًا عطّلوا عقولهم منَ التفكير بما ينفَعهم فقال في حقِّهم: \"وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِن الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا\" [الأعراف: 179]، وقالَ: \"أَم تَحسَبُ أَنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعُونَ أَو يَعقِلُونَ إِن هُم إِلاَّ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلٌّ سَبِيلاً\" [الفرقان: 44]º ولذا مِن الضّروريّاتِ الخمس التي جاءَت بها الشّريعة حمايةُ العقل وصيانتُهº لأنّ حمايةَ العقل تجعل الشخصَ يعيش سعيدًا حميدًا، وإذا فقَدَ هذه النّعمةَ أصبح عضوًا أشلّ في مجتمعه كلاًّ على أبويه أو على أسرته، ويكون ـ والعياذ بالله ـ في غايةِ من الذلّ والهوان، عافانا الله وإياكم.
ولأجل ذا حرِّمَت المسكرات والمخدرات، فجاءَتِ النّصوص القرآنية والأحاديث النبوية في تحريمِ المسكراتِ وبيان أضرارها ومفاسِدِها وإبعاد المسلم عنها بكلِّ طريقº لأنّ هذه المسكراتِ والمخدرات ما شاعت في مجتمعٍ, إلا حطَّمت كيانه وقضت على أخلاقِهِ وأضعَفَت إدراكَ أهله، فأصبح ذلك المجتمعُ مجتمعًا منحرِفًا سلوكيًّا وأخلاقيًّا.
فالخمرُ أمّ الخبائث، وكلّ الخبائثِ تصدُر منها، فهي تسهِّل الوقوعَ في الجرائم على اختلافِها، وقد أجمع المسلمون إجماعًا قطعيًّا على تحريمِها إذ تحريمُها معلومٌ من دين الإسلام بالضرورة، ولو اعتقد شخصٌ حلَّها لقيل: هذا مرتدّ عن الإسلام والعياذ باللهº لأن المسلمين مجمِعون على أن من أحلَّ حرامًا عُلِم تحريم هذا الحرام من دِينِ الإسلام بالضرورة أن هذا مخالفة لشريعة الإسلام، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
هذا العقلُ إذا سعَى العبد في إضعاف إدراكِه وإضعاف تصوّرِه بأن يتناولَ ما يضعِف إدراكَ هذا العقلِ ويقضي على تصوّرِه فإنه قد جنى على نفسِه جنايةً عظمى، نسأل الله لنا ولكم العافية.
إنَّ الله بعثَ محمّدًا بالهدى ودينِ الحقّ، فجاء بهذه الشريعة الكاملةِ التي فيها إسعادُ البشريّة في الدنيا والآخرة لمن وفَّقه الله لقبولها والعَمَل بها والوقوفِ عند حدودها، وإنَّ المجتمَعَ المسلم إذا شاعَ فيه الأمر بالمعروفِ والنهيّ عن المنكر والأخذ على أيدي السّفهاء وردّهم عن ضلالتهم والحيلولَة بينهم وبين ما يريدون من سفاسِفِ الأخلاق صَلح المجتمع واستقامت حاله. وعندما يتساهَلُ المسلمون بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر وعندما تضعُف الغَيرة في القلوب وعندما تشيع هذه المنكراتُ وتروج بين المجتمع فإنه داءٌ يهدِّد كيانَ الأمة ويؤذِن بخرابها، والعياذ بالله.
أيّها المسلمون: لقد حرَّم الإسلام الخمرَ في القرآنِ في آياتٍ, واضِحات بيِّنات الدّلالة، فأخبر - تعالى -في قولِه - جل وعلا -: \"وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَرًا وَرِزقًا حَسَنًا\" [النحل: 67]، ففرَّق بين السَّكَر والرّزق الحسن، الرزق شيء والسّكَر شيء آخر. ثمّ بيَّن - تعالى -في آيةٍ, أخرى أنَّ في الخمر منافعَ وأضرارا، ولكن ضرره أعظمُ من نفعه فقال: \"قُل فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَفعِهِمَا\" [البقرة: 219]. ثمّ نهى المسلِمِين عن تعاطِي المُسكِرِ عندَ إرادةِ الصلاة حتى يكونَ العقل حاضرًا في التدبٌّر والتعقّلº إذ فاقِدُ العقل لا يدري ما يقول، فقال: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُم سُكَارَى حَتَّى تَعلَمُوا مَا تَقُولُونَ\" [النساء: 43]º إذ السّكرانُ لا يعلم ما يقول، يهذِي بما لا يدري، ولا يتصوَّر ما يقول، ولهذا قال الله: \"حَتَّى تَعلَمُوا مَا تَقُولُونَ\".
فلما روَّضهم لذلك جاءت الآية العامّة لتحرِّمَ الخمرَ في كلّ الأوقات واللحظات: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُم العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَعَن الصَّلاةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهُونَ\" [المائدة: 90، 91].
هذه الآيةُ فيها تحريمُ الخمر، خاطَبَ الله عباده المؤمنين والمصدّقين المطبِّقين للأوامر المجتنِبين للنواهي، يقول لهم - جل وعلا -: \"إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ\"، رجس وهي كَلِمة تطلَق على ما اشتدّ فُحشُه وقبحُه، وعَمَلُ الشيطان الأمر بالفحشاء والمنكر، \"إِنَّمَا يَأمُرُكُم بِالسٌّوءِ وَالفَحشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ\" [البقرة: 169]، \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِع خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ\" [النور: 21]، وأمَر بالاجتنابِ وهو أعظمُ من التحريمِ ليشملَ التحريمَ وكلَّ الأسباب المفضِيَة لذلك: فَاجتَنِبُوهُ، وعلَّق الفلاحَ بالاجتناب بقوله: لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ، فالفلاح إنما يحصل لمن اجتنبها وابتعد عنها. وذكَر أضرارَها ومفاسِدَها فقال: \"إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُم العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ\"، هذه الأضرارُ الاجتماعيّة التي تحدث من تعاطي هذا الداءِ الخبيث \"إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُم العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ\"، فأرباب المسكرات لا يتفرّقون إلا عن عداوة وبغضاء، وعن لغطٍ, وكلامٍ, وفُحش، وعن أقوالٍ, قبيحة، فإنهم فقَدوا عقولهم، يتصرَّفون كما يتصرّف المجنون فاقدُ العقل والإدراك. وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَعَن الصَّلاةِ، وهي أيضا تحول بين القلب وبين ذكر الله وبين أداءِ فرائض الإسلامº إذ فاقد العقلِ لا يدري ماذا هو فيه من حال.
أيها المسلمون: لقد حرَّم الشرع هذا الداءَ الخبيث، حرَّم هذه الخَمرةَ الخبيثة على المسلِم، محافظةً على كيانه، حمايةً لعقله، حمايةً لصحّته، حماية لماله، حماية لكيانهº ليعيش سعيدًا يعمُر الأرضَ بطاعة الله، ويؤدِّي الواجبَ عليه من حيث أداء ما افترَضَ الله عليه، ومن حيث القيامُ بمن أوجَبَ الله عليه القيامَ بشأنه.
أيها المسلم، هي أمُ الخبائث، هي مصدَر كلِّ خبيث، يتصرَّف شارِبها تصرّفَ المجنون، وربما قتَل، وربما سبَّ، وربما أفشَى سِرًّا، وربما تصرّف تصرّفاتٍ, إذا ردَّ عليه عقلُه تصوّر حقًّا الأخطاءَ والمصائب التي وقعَ فيها.
الخمرُ حقيقتها كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (الخمرُ ما خامَرَ العقلَ)[2]، أي: ما غطّى العقلَ وسلبَه إدراكَه وفوائده، ما خامَرَ العقلَ من أيّ نوع كان، ((كلٌّ مسكِرٍ, خمر، وكلّ خمر حرام))[3]، من أيّ مادّة نشأ هذا السكر. والإسلام لم يفرِّق بين القليلِ والكثير منه، فقال: ((ما أسكر كثيره فقليلُه حرام))[4]، وقال: ((ما أسكر الفرَق منه فمِلءُ الكفِّ منه حرام))[5].
والإسلام أغلَقَ الأسبابَ الموصِلة إلى الخمر، وحال بين المسلِمِ وبين هذه الخبائِثِ بكلِّ الطّرقِ، فلم يرضَ للمسلم أن يكونَ بائعًا لها، ولا مشتريًا لها، ولا حاملاً لها، ولا عاصِرًا أو ساقيًا لها، ولا آكلَ ثمنِها، ولا سمسارًا في ذلك، فهو إذًا لا يصنَع الخمرَ، ولا يعمَل في متجَرِ الخمر، ولا يروِّجها، ولا يصدِّرها، بل هو بعيدٌ كلَّ البعد عنها مع المسلم أو غيرِ المسلم، ولذا لعَن رسول الله في الخمرِ عشرةً، لعن الخمرةَ، ولعن عاصرها ومعتصِرها، ولعن حاملَها، ولعنَ شاربها، لعن المحمولةَ له، لعن بائعَها، لعَن مشتريَها، لعن من اشتُرِيَت له، لعن آكلَ ثمنها[6]. كلّ أولئك أعوانٌ على الإثم والعدوان، وكلٌّهم مستحقّ للعنة الله، سواء شرِب أو لم يشرب، فالذي يبيعها ملعون، والذي يحمِلها ملعون، والذي يشتريها لنفسه ملعون، والذي يشتريها لغيره مَلعون، والذي يأكُل ثمنَها معلون بنصِّ رسول اللهº ليكون المسلم بعيدًا عن الإعانةِ على الإثم والعدوان بأيّ سبيلٍ, وبأيّ طريق، يحمِي أموالَه من المكاسِبِ الخبيثة والمصادِرِ الإجرامية ليعيشَ بمالٍ, طيِّب يُعينه على الخير والهدى.
أيّها المسلم، إنّ رسولَ الله مَنَع المسلمينَ أيضًا بعدَ تحريمها مِن أن يهدُوها لغير المسلمين، فرَجل أرادَ أن يهدي خمرًا فمنَعَه النبي، فقال: إذًا أكارِم بها اليهود، قال: ((الذي حرّمَها حرّم أن يكارَمَ بها))، قال: أبيعها، قال: ((الذي حرَّمَها حرّم بيعَها))، قال: ما أفعل؟ قال: ((أرِقها في البطحاء))[7]. وحذَّر المسلمَ من مجالسة أصحاب المسكراتِ فقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخرِ فلا يقعد على مائدةٍ, يُدار عليها الخَمر))[8]. وهي داءٌ وليست بدواءٍ,، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (لم يجعَلِ الله شفاءَكم فيما حرّم عليكم)[9].
إنَّ الواجبَ على المسلم البعدُ عنها، وأن يأخذَ على يدِ ولده ومن حولَه، ويحذرَّهم من شرورها، وإنَّ المجتمعَ واجبٌ عليه التعاونُ على البرّ والتقوى، وإنَّ وسائلَ الإعلام يجب أن تتحدَّث دائمًا عن أضرارِها ومفاسِدها ومساوئِها والنتائجِ الخطيرة المترتِّبة على متعاطيهاº إذ حمايةُ المجتمَع من المسكرات والمخدّرات أمرٌ ضروريّº لأنَّ المسلم إذا تصوَّر ضررَها وأخبِرَ عن مساوِئها فعسى الله أن يفتَحَ على قلبه فيجتَنِبَها.
إنّ مجالسةَ أصحاب السوء ومصاحبةَ أولئك المجرمين وسيلةٌ لأن يوقِعوا المسلمَ في هذا البلاء العظيم، فليتّقِ المسلم ربَّه، ليعلم حالَ من يجالسه وخُلُقَ من يجالسه، أهو مستقيم على خير أم هو منحرِف وبعيدٌ عن الهوى؟ فيترفَّع عن مجالسِ السوء. رُفِع لعمرَ بن عبد العزيز - رحمه الله - قومٌ شرِبوا الخمرَ وبينهم من هو صائم، قال: (به فابدؤوا، ألم تسمعوا الله يقول: \"وَقَد نَزَّلَ عَلَيكُم فِي الكِتَابِ أَن إِذَا سَمِعتُم آيَاتِ اللَّهِ يُكفَرُ بِهَا وَيُستَهزَأُ بِهَا فَلا تَقعُدُوا مَعَهُم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ, غَيرِهِ\" [النساء: 140])[10].
أيّها المسلم، إنَّ نبيَّنا يقول: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرَ حين يشرَبها وهو مؤمن))[11]، ويقول: ((مَن شرِب الخمرَ فسكِر لم تقبَل له صلاةٌ أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن لم يتب أدخَلَه الله النار))[12].
فيا أيّها المسلم، احفَظ عقلك، صن عقلك من الانهيار والضّعف، فاعتمِد على الله، واعلَم أنَّ هذا الداءَ الخبيثَ لا يزيل عنك همًّا، ولا يفرِّج عنك كربًا، كم من أناسٍ, جعلوا هذا الداءَ تسليةً لهمومهم كما يزعمون ووَقَعوا في أعظمَ بلاءً مما فرّوا منه.
فلنتَّقِ الله في أنفسنا، ولنتعاوَن على البرّ والتقوى، والمجتمَع المسلم مسؤول عن التّعاون على الخير، وإنّ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر من ضروريّةِ حماية المجتمَع ووقايتِه من الكوارِثِ.
حفِظ الله مجتمعنا والمجتمعات الإسلامية من كل سوء، وأعاننا وإيّاكم على الخير، وجنَّبنا وإيّاكم طرقَ الغيّ والضلال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجلِيلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ,، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبٌّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله - تعالى -حقَّ التقوى.
عِبادَ الله، عَلِمنا حكمَ الله في الخمورِ والمسكِرات، وهنا ـ والعياذ بالله ـ بلاءٌ أشدٌّ منها، هناك داء المخدِّرات، هذا الدّاء العظيم الفتّاك الذي يفتك في المجتمعات ويقضِي على كيان الإنسان ويحوِّله من شخصٍ, يؤمَّل فيه الخير إلى أن يكونَ ـ والعياذ بالله ـ شخصًا فاقدَ المعنويّة والكرامة.
هذا داءُ المخدِّرات وجِدَ في العالم الإسلامي في القرنِ الثامن، أتى به التّتَر المغول لما غَزَوا ديارَ الإسلام، فلما رأى علماءُ المسلمين تلك الحشيشةَ المخدِّرة ورأوا آثارها على متعاطِيها حكَموا عليها بالحرمة، وأنَّ حرمتَها أشدّ من حرمةِ الخمرº لأنها أعظمُ من الخمر، رغمَ ما في الخمر من أضرارٍ, ومفاسد، إلا أنَّ ضرر هذا المخدِّر فاق المسكرَ، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقد سبر حالَ هذه المخدِّرات ورأى ما تصنَع بمتعاطيها قال: \"إنَّ من تدبَّرها وجدَ فيها من المفاسِدِ ما يزيد على الخمرِ بمئاتٍ, المرات\".
ذلك أنَّ هذا المخدِّرَ بلاءٌ عظيم وفساد ذريع، سلاحٌ بأيدي أعداء الإسلام لتدمير كيان الأمة وإضعاف أخلاقها والقضاءِ على معنويّاتها وإذلالِها وإخضاعِها لكلِّ ما يريدون بها من بلاءٍ,، هكذا المخدِّر سلاحٌ بأيدِي أعداء الإسلام، يهدِّدون به الأمّةَ، ويضعفون كيانَ العالم الإسلامي، ويذلّلونه ويسلِّطون عليه هذا الداءَ حتى ينسَى واقعه ومجتمَعَه، ويصبِح دائمًا متخلِّفًا عن الركب، لا يستطيع أن يسايرَ أولئك في تقدّمِهم ورقيِّهم المادّي، مع ما يفرِزُه من فسادِ الأخلاق وانحرافٍ, في السلوك.
إنّ هذا المخدِّر بلاء عظيم، فهو سبب لخدورِ الجسم وسبب فتور الأعصابِ وهبوطِ الصحّة، مع ما يحدثه من خَوَر في الإنسان ومُيوعة وعدَم شعورٍ, بالواجب، حتى يكون متعاطي هذا المخدِّر لا يدرِك ولا يتصوَّر واقعه، تقتَلِع الغَيرةَ من قلبه، وتفتح له بابَ الشّهواتِ، وتجعَله ديّوثًا والعياذ بالله، يقِرّ الفاحشةَ في أهله ونفسه، لا يدري ولا يتصوَّر عن واقعه. إنها قتلٌ للمعنويات وإذلالٌ للإنسان، نسأل الله لنا ولكم السلامةَ والعافية.
ولهذا ليعلَم من يروِّجُها ومن يسعى في بيعِها ومن يعين أنّه قد عصَى الله ورسولَه وارتكب إثمًا عظيمًا ووزرًا كبيرًا، ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب، ارتكب إثمًا عظيمًا، فالمكاسب كلّها خبيثة، مكاسب خبيثة ومكاسب سيّئة جلبت عليه لعنةَ الله عليه، نسأل الله السلامة والعافية.
إنَّ هذه المخدراتِ هي والله داء عُضال، بلاءٌ على الأمّة، مصيبة في العالم الإسلامي، فالدّوَل الإسلامية التي فشا فيها هذا البلاءُ وأعداءُ الإسلام وراءَ ذلك البلاء، حملاتٌ شرِسَة ضدَّ العالم الإسلاميّ، ليسلِّطوا عليه هذا السلاحَ الفتّاك الذي ينسيه دينَه ودنياه، ويسلب عقلَه، ويحوِّل فكرَه، ويجعله يعيش لا يتصوَّر واقعَه ولا ما حوله، فهذا بلاءٌ عظيم، نسأل الله أن يعافيَ الجميعَ من كلّ بلاءٍ,، وأن يحفظَ بلادَ المسلمين من هذا البلاء، ويرزقَ من ابتُلي به التوبةَ إلى الله والرجوعَ إليه والاستقامةَ على الهدَى، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّدٍ,، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ, ضلالة، وعليكم بجمَاعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله عَلى الجماعةِ، ومن شذّ شذَّ في النارِ.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال - تعالى -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيمًا\" [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِه الراشِدين...
_________________
[1] رواه أحمد (6/100، 101، 144)، وأبو داود في الحدود (4398)، والنسائي في الطلاق (3432)، وابن ماجه في الطلاق (2041)، والدارمي في الحدود (2296)، وأبو يعلى (4400)، والبيهقي في الكبرى (6/84) عن عائشة - رضي الله عنها - بنحوه، وصححه ابن الجارود (148، 808)، وابن حبان (142)، والحاكم (2350)، وصححه الألباني في الإرواء (297). وفي الباب عن علي شداد بن أوس وثوبان وأبي قتادة وابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم -.
[2] أخرجه البخاري في الأشربة (5581، 5588)، ومسلم في التفسير (3032).
[3] رواه مسلم في الأشربة (2003) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.
[4] أخرجه أحمد (3/343)، وأبو داود في الأشربة (3681)، والترمذي في الأشربة (1865)، وابن ماجه في الأشربة (3393) عن جابر - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن غريب من حديث جابر\"، وصححه ابن الجارود (860)، وله شواهد كثيرة عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو وسعد بن أبي وقاص وعائشة وخوات بن جبير وعلي وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، انظر: تلخيص الحبير (4/73)، والإرواء (2375).
[5] رواه أحمد (6/71، 72، 131)، وأبو داود في الأشربة (3687)، والترمذي في الأشربة (1866)، وأبو يعلى (4360) عن عائشة - رضي الله عنها -، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن\"، وأقره المنذري، وصححه ابن الجارود (861)، وابن حبان (5383)، وأعله الدارقطني بالوقف، وصححه الألباني في الإرواء (2376).
[6] أخرجه الترمذي في البيوع (1295)، وابن ماجه في الأشربة (3381) من حديث أنس - رضي الله عنه - بنحوه، وقال الترمذي: \"هذا حديث غريب من حديث أنس، وقد روي نحو هذا عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر عن النبي \"، وقال الحافظ في التلخيص (4/73): \"رواته ثقات\"، وصححه الألباني في غاية المرام (60).
[7] رواه الحميدي (1034) عن رجل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه، وهذا إسناد ضعيف لجهالة الراوي عن أبي هريرة، وقد ضعفه الألباني في غاية المرام (63).
[8] أخرجه أحمد (1/20)، وأبو يعلى (251)، والبيهقي (7/266) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال الهيثمي في المجمع (1/277): \"فيه رجل لم يسم\"، وله شواهد من حديث جابر وابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -، ولذا صححه الألباني في الإرواء (1949).
[9] علقه البخاري مجزوما به في كتاب الأشربة، باب: شراب الحلواء والعسل، ووصله ابن أبي شيبة (5/38، 75)، والطحاوي في شرح المعاني (1/109)، والطبراني في الكبير (9/345)، والحاكم (7509)، قال الهيثمي في المجمع (5/86): \"رجاله رجال الصحيح\"، وصححه ابن حجر في الفتح (10/79)، ووافقه الألباني في غاية المرام (30).
[10] رواه الطبري في تفسيره (5/330) بنحوه.
[11] أخرجه البخاري في الأشربة (5578)، ومسلم في الإيمان (57) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[12] أخرجه أحمد (2/176)، وابن ماجه في الأشربة (3377)، والدارمي في الأشربة (2091)، والبزار (2469، 2493) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - بنحوه، وصححه ابن حبان (5357)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2722). وفي الباب عن ابن عمر وأبي ذر وابن عباس - رضي الله عنهم -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد