ضوء من الحجرات ( 6 )


 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 

 

ويستمر الحديث والإبحار مع آيات هذه السورة المباركة الجامعة. الحديث والسياق القرآني ينتقل نقلة نوعية في الهدف المطلوب، بعدما أرسى دعائم الإيمان والإجلال لشخص رسول الله -صلى اله عليه وسلم- في نفوس أتباعه الذين عاصروه، والذين جاؤوا من بعده ليعظموا بذلك ما جاء عن الله - سبحانه وتعالى -. بداء بدأ يسلط الضوء على مفردات أخرى ذات طابع، فأعاد لفت الانتباه للمؤمنين لتبقى الخصوصية بأن هذا البناء خاص بهم ــ ولا مانع أن يستفيد منه غيرهم إن هم أخذوا به ــ وهذا من أسرار وعظمة القرآن والإسلام. فأحكامه تنفع لكل من طبّقها، فمن صفات هذا الدين الشمولية. لكن أين المطبّقون؟

 

مع ملاحظة أن بعض الأمم الكافرة قد استفادت من تعاليم الإسلام، بينما بعض أبناء أمتنا أعرضوا عنه، فأصابنا ما أصابنا من الذل والمهانة، خذ مثالاً: أمرنا الله - سبحانه - باتخاذ القوة وعدم الركون أو الثقة في عدونا فما الذي حصل؟ عدونا أخذ بمبدأ الإعداد للقوة مع نظرته الدونية لنا، بينما أمتنا تركت الإعداد مع الركون والثقة بالعدو. فما هي النتيجة.. ؟ النتيجة واضحة كالشمس في رابعة النهار.. قال الله - تعالى -: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم... ) [الأنفال: 60] فلا يرهب العدو إلا القوةº فلو أن الأمة تستيقظ من رقدتها وتنفض غبار الانهزامية، وتثق بربها - سبحانه وتعالى-، وبوعده، وتتوكل عليه، فأول شيء ستحس به هو الانتصار على النفس المنهزمة من الداخل، ومن المهم جداً أن ننتصر على الهوان الذي يضرب أطنابه في دواخلنا، وقد شربنا الهزيمة قبل أن نواجه عدونا، ولم نفطن إلى أن العدو لا يزال في حالة ترقّب وتوجّس لهذا المارد أن يستيقظ، هو يعمل جاهداً بأن يجعل هذا المارد نائماً ومخدراً أطول وقت ممكن، مع إيهامنا بأنه سيحمينا عند الحاجة إذا داهم الخطبº فلا حاجة إذاً لإشغال أنفسنا بجمع السلاح وأخذ القوة.. فهل نفطن لذلك؟ ولكن مع الأسف الشديد صدقنا وانطلت الحيلة علينا، وانظر يميناً وشمالاً ترى ما يحزن فؤادك... ؟ ثم تأمل قول ربنا - سبحانه وتعالى - في هذه الآية العظيمة والتي هي قاعدة مهمة في التعامل مع العدو، قال - سبحانه -: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عندتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) [آل عمران، 118]، وتأمل هذه الآية وهي أشد تأثيراً (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين، بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) [آل عمران 150] نعم.. نعم..

عندما كان الإسلام قليل المنعة، وكان أتباعه قليلين في مكة، أول أيام العهد المكي، كان الكفار لهم صولة وضجيج، وكانوا يؤثّرون في سير الأحداث حتى إنهم حالوا بين الضعفاء وإعلان إسلامهم، ولكن عندما قويت شوكة الإسلام والمسلمين في العهد المدني، خاصة بعد معركة بدر، وعرف المشركون مدى التأثير والتغير الذي طرأ على هؤلاء مع نبيهم، محمد - صلى الله عليه وسلم - أرجفوا وزُلزلوا زلزالاً شديداً، لذلك اندس أناس يسكنون المدينة ويتعايشون مع المسلمين جنباً إلى جنب، وبما أن الشوكة للمسلمين ظهر ما يُسمّى بمفردة النفاق، والمنافقين، وهو إخفاء وإظهار - ولا يتصف بها إلا الحاقد اللئيم الجبان الغدّار- فأظهروا الإسلام، و أخفوا في جوانح أنفسهم الكفر المبطن بالحقد، وهو أخطر من الكفر، والعجب أن النفاق لم يظهر في مكة؟ لأن أهل مكة في ذلك الوقت لا يخجلون من إظهار كفرهم، ويرون أن المسألة تحدٍ, لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأنهم كفرسي رهان، ولكن تاهوا في غيهم وتكبّروا وظنوا أنهم على هدى مبين، وسرعان ما ذهبت أحلامهم أدراج الرياح يوم عاينوا الحقيقة، وعرفوا من هو الذي على حق، وذلك بعد معركة بدر الفاصلة التي قلبت موازين القوى لصالح المسلمينº فالذين قُتلوا من المشركين جاءتهم الطامة والصاعقة عندما أحاطت بهم الملائكة تقطف رؤوسهم وأرواحهم، وعندما أُلقيت أجسادهم في ذلك القليب، ولكن لم ينفعهم هذا عندما عاينوا الحقيقةº لأن المهلة المتاحة لهم قد انتهت، أما الذين لم تنته مهلتهم ولم يُقتلوا فمنهم من أسلم ونجا ومنهم من أذعن واستسلم لقوة الإسلام.

 

أما تلك الشرذمة في المدينة، فإنهم أجبن و أحقر من إظهار ما يعتقدون، لذلك شربت نفوسهم الخبيثة التكتّم والتلوّن، ولكن سيماهم في وجوههم من أثر النفاق، وبدؤوا يحيكون الدسائس والخداع، للنيل من المسلمين وعلى رأسهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لهذا كان المسلمون بحاجة إلى التذكير عن هؤلاء من أجل أخذ الحيطة والحذر، وعدم الانسياق وراء الأخبار الوافدة، فجاء الخطاب موجّهاً للمؤمنين فقط - وهذا خاص لهم - قال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا... ) ما أجمل هذه الآية! إنها بحق تعتبر إستراتيجية في التعامل مع الأحداث، خاصة وقت الأزمات، التي يكثر فيها الهرج والمرج والإرجاف، فقد يأتيك شخص بخبر ويوهمك أنه يريد الإصلاح، بينما هو غير ذلك، فإذا عرفت حال الناقل فتعامل مع خبره على أساس معرفة حاله، فإذا جاءك الفاسق بخبر فلا تهمله مطلقاً ولا تقبله مطلقاً... لذلك إذا نُقل إليك خبر، استقبله وتأمّله بما آتاك الله من بصيرة وعقل مستقل في التفكير، وهو التثبّت والتحري من هذا الخبر المنقول إليك، من أجل ألاّ تنزلق في مصيدة هذا الخبر، فتكون أسيراً لهذا الخبر الذي حمله إليك هذا الفاسق المغرض، وتتجنب مذلة الاعتذار نتيجة اتخاذك لقرار بُني على ضغط تداعيات ذلك الخبر ـ فما أصعب المهانة! ـ ولعلك تذكر ذلك الأفّاك الأثيم زعيم تلك الطائفة، التي تُلقّب هذا العصر بالطابور الخامس، وهو ابن سلول، عندما رمى (أم عبد الله رضي الله عنها) الطاهرة المطهرة العفيفة، حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، رماها بالزنا، مع الصحابي الجليل، صفوان بن المعطل، -رضي الله عنه- مستغلاً بذلك ذلك الحدث، عندما تأخّرا في اللحاق بركب الجيش، ولحكمة يريدها الله، سرى هذا الخبر في طرقات المدينة، فأُشرب به المنافقون كعادتهم، عند كل حادثة تمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، ومع الأسف تلوّث به بعض الصحابة. وكم هي البشائر التي أثمرها هذا الخبر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائشة - رضي الله عنها - والمسلمون من بعد ذلك، ومن الدروس التي برزت في هذا الخبر هو العتاب الرباني للصحابة الذين تلوّثوا بهذا الخبر، يقرر هذه المسألة وهو التثبّت التام إذا جاء الخبر من فاسق معلوم فسقه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا... ). إذاً هذا ينطبق على كل خبر ينقله فاسق.

وهناك مسألة أخرى تبرز هنا، إذا كان الخبر المنقول يتحدث عن مؤمن أو مسلم مشهود بعدالته وورعه وحبه للخير، فيجب ألاّ ننساق وراء الخبر، ونلغي بذلك عقولنا، ونصدق ما يقوله الناقل بناء على مكانته، أو منصبه، أو ما يحوزه من حطام الدنيا، بل نتحرّى ونسأل صاحب الشأن، و نظن بالمنقول عنه الخبر كل خير، تأمّل هذا النص القرآني (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين) (النور: 12).

ومن لطف الله - سبحانه - بعباده الصادقين، الذين انساقوا وراء الخبر، وليس لهم هدف الإساءة لرسول -الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته، أو أن يبطنوا النفاق- أن الله - سبحانه وتعالى - عفا عنهم، مع ما تسبب هذا الخبر من الألم والوجع للبيت الطاهر الشريف، ولكن هي رحمة الله بعباده الذين يتوبون، إذا أذنبوا، مع تذكيرهم بعدم العودة لمثل هذا، وهو الانسياق وراء الأخبار الملفقة، التي تسيء للمؤمنين، تأمّل روعة العبارة في هذا السياق القرآني (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين) [النور: 17]. هل لاحظت الشرط في الآية؟ (... إن كنتم مؤمنين) فإذا تحقق الإيمان صدق العبد في توبته مهما كان الذنب...

إلى اللقاء في الحلقة القادمة...إن شاء الله...

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply