الكذب آفة كل عصر ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فقد تكلمنا في العدد الماضي عن آفة الكذب وأوردنا عقوبات الكذاب في الدنيا، وفي هذا العدد نبين عقوبات الكذاب في القبر.

عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رؤيا فيقص عليه من شاء الله أن يقص وإنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه. وفي رواية: فيدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى: قال قُلت: سبحان الله، من هذا؟

فقالا:...والذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيُصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة. [أخرجه البخاري]

معنى الحديث

يشرشر: يقطع. كلوب: حديدة عقفاء تكون في طرف رحل الرجل يعلق فيها الزاد. [المعجم الوسيط ص826]

قال ابن حجر: استحق الكذاب هذا التعذيب لما ينشأ عن تلك الكذبة من المفاسد وهو فيها مختار غير مكره ولا ملجأ، قال ابن هبيرة: لما كان الكاذب يساعده أنفه وعينه ولسانه على الكذب بترويج باطله وقعت المشاركة بينهم في العقوبة. [فتح الباري 12/1465]

من فوائد هذا الحديث: أن بعض العصاة يعذبون في البرزخ من تعمد الكذب.

تحذير: تحذير إلى مروجي الإشاعات الذين ينقلون الأخبار الكاذبة فإنهم سيعذبون في قبورهم إلى يوم القيامة كل بحسب مفاسد الكذب الذي نشره.

من عقوبات الكذاب في الآخرة

1- يعقد بين شعرتين:

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تحلم بحلم لم يره، كلف أن

يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ». [البخاري 7024]

قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: قوله - صلى الله عليه وسلم - يعني من كذب في الرؤيا قال رأيت في المنام كذا وكذا وهو كاذب فإنه يوم القيامة مكلف أن يعقد بين شعيرتين، والمعلوم أن الإنسان لو حاول مهما حاول أن يعقد بين شعيرتين فإنه لا يستطيع ولكنه لا يزال يعذب ويقال لا بد أن تعقد بينهما وهذا وعيد يدل على أن التحلم بحلم لم يره الإنسان من كبائر الذنوب وهذا يقع من بعض السفهاء يتحدث ويقول: رأيت البارحة كذا وكذا لأجل أن يضحك الناس، وهذا حرام عليه. [شرح رياض الصالحين 4/197]

2- عذاب أليم: عن أبي هريرة - رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم». قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، قال أبو ذر - رضي الله عنه -: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». [مسلم 106]

وفي رواية لمسلم: وملك كذاب.

معنى لا يكلمهم الله: أي لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات بإظهار الرضى بل بكلام أهل السخط والغضب ولهم عذاب أليم أي عذاب مؤلم.

3- الكذب يؤدي إلى النار:

في الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وهذا مصداق لقوله - تعالى -: وإن الفجار لفي جحيم (14) يصلونها يوم

الدين (15) وما هم عنها بغائبين[الانفطار: 14 - 16].

يقول العلامة السعدي - رحمه الله -: الفجار: هم الذين قصروا في حقوق الله - تعالى –وحقوق عباده لفي جحيم، أي في عذاب أليم في دار الدنيا ودار البرزخ وفي القرار جهنم. [تفسير السعدي ص914]

أين مكان الكذاب في النار؟

عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له». [صحيح الترمذي 2315، صحيح الجامع 7136]

نلاحظ في هذا الحديث تحذير شديد لمن كان هذا خلقه، وهذه عادة سيئة منتشرة بين الناس، ونقول: إننا نمزح ولمن يريد أن يمزح كاذبًا يسمع إلى هذا التهديد والوعيد الشديد وشدة التأكيد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل» ثلاث مرات. الحديث.

ماذا نعرف عن ويل: قال عطاء بن يسار: الويل وادٍ, في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لماعت،

وقيل الويل: الهلاك.

وعن أبي عياض: ويلٌ: صديد في أصل جهنم. [تفسير ابن كثير 1/117]

العلاج

الكذب من الأمراض المدمرة، علينا أن نتخلص منه بكل الوسائل المتاحة حتى نعيش في أمن وأمان في الدنيا ويوم لقاء الرحمن.

ومن الوسائل المعينة على التخلص من هذه الآفة:

1- الاستعانة بالله - تعالى -: قال - تعالى –ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز». فاستعن بالله وتوكل عليه وجاهد نفسك في التخلص من آفة الكذب.

2- مصاحبة الصادقين:

قال - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين[التوبة: 119].

يقول العلامة السعدي - رحمه الله -: كونوا مع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم الذين أقوالهم صدق وأعمالهم وأحوالهم لا تكون إلا صدقًا خلية من الكسل والفتور سالمة من المقاصد السيئة مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة. [تفسير السعدي ص355]

وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم (2607)- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا».

البر: اسم جامع للخيرات كلها ويطلق على العمل الخالص الدائم. [فتح الباري 10/534]

معنى ذلك أن الصدق يفتح لك كل أبواب الخير الموصلة إلى الإخلاص الدائم في الأعمال الصالحة والإكثار منها.

يقول الشاعر:

اختر قرينك واصطفيه تفاخرًا * * * إن القرين إلى المقارن ينسب

ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبًا * * * إن الكذوب يشين من يصحب

3- الصدق في المزاح:

عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقًا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحًا، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه». [صحيح أبي داود 5/240، صحيح الجامع 1464]

ومعنى زعيم: أي: كفيل وضامن.

في مجتمعنا نسمع كثيرًا من الناس يتكلم بكلمات شبه مضحكة وهي في حقيقتها كاذبة بدعوى أننا نمزح ونفرح أنفسنا، وهم بذلك يقعون في شيء خطير، وذلك بحصد كثير من السيئات والافتراء على الأبرياء، لماذا نذهب بعيدًا عن قدوتنا أجمعين إلى يوم الدين كما حكم رب العالمين في قوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.

لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمزح: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا؟ قال: «إني لا أقول إلا حقا». [صحيح الترمذي 1990]

ومعنى تداعبنا: أي تمازحنا.

أخي المسلم: يا من تريد أن تمزح وتضحكº عليك بالصدق وأبشر ببيت في وسط الجنة إذا تركت الكذب في المزاح.

4- هجر الكاذب والكذابين:

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضا عنه حتى يحدث توبة. [صحيح الجامع 4675]

وهذا نوع من الهجر التربوي حتى لا يوافق المربي على الكذب ويصبح هذا الطفل والابن كذابا وحتى لا يظن أن الأب موافق على الكذب، وخير دليل على ذلك هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. [صحيح]

5- القدوة العملية: عن عبد الله بن عامر - رضي الله عنه - قال: دعتني أمي يوما ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة.

في هذا الحديث يضع لنا - صلى الله عليه وسلم - بيانا عمليا للتخلص من آفة الكذب وذلك بالصدق مع الأولاد بالكلام وفي الوعودº لأن بعض الآباء - إلا من رحم الله - ينهي ابنه عن الكذب ويكذب أمام ابنه ويأمر بالكذب،

وهنا الطامة الكبرى وانعدام الثقة في الأب واتخاذه قدوة غير صالحة.

فاحذر أخي المسلم من الكذب أمام الأولاد، ولا تظن أن الصغار يمكن أن تخدعهم على

الدوام.

ما يباح من الكذب

قال الإمام النووي - رحمه الله -: اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرما فيجوز في بعض الأحوال، إن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب جاز

الكذب، ثم إن كان تحصيل الكذب ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا وإن كان واجبا كان الكذب واجبا، فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وأخفى ماله وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخذها وجب الكذب وإخفاؤها، والأحوط في ذلك كله أن يوري، ومعنى التورية أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا الحال، واستدل العلماء: لجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم كلثوم - رضي الله عنها - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس الكذاب

الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا». متفق عليه.

وزاد مسلم في رواية: قالت أم كلثوم ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: تعني

الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.

[رياض الصالحين]

والحمد لله رب العالمين ,,,

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply