بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإن الله - تعالى - لما أنزل على رسوله الإشارة بإكمال الدين وهي قوله - تعالى -: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3]. علم بذلك أن هذا الدين لا يحتاج إلى إضافة أو زيادة من أحد فقد بلغه سيدنا محمد فأتم البلاغ فجزاه ربه عن الأمة خير الجزاء ديننا والحمد لله كامل شامل بنيت عقيدته على التوحيد وتميز بالوضوح والنقاء وبنيت شريعته على العدل والإحسان وتميزت بالشمول والكمال وبنيت حركته على الدعوة والجهاد وتميزت بالرحمة والقوة مصادره ثابتة صافية لا اضطراب فيها ولا خلل ولا نقص ولا غموض لأنها مصطفاة من وحي رب العالمينº القرآن والسنة، والطريق إلى معرفة هذا الدين واضحة بينة، الطريق إلى معرفة هذا الدين هو العلم والتفكير وإعمال العقل لفهم التعاليم الربانية التي أنزلها اللطيف الخبير - سبحانه وتعالى - ديننا والحمد لله أحكمت آياته وفرائضه وسننه، وعقيدته وشريعته لا غموض فيه ولا طلاسم ولا مكان فيه للأهواء ولا للآراء أن تلعب فيه كما لعب أحبار اليهود ورهبان النصارى في دينهم.
إن صفتي الكمال والشمول من أعظم خصائص هذا الدين فإنه يبدأ بأعظم شيء وأعلى شيء وهو عقيدة لا إله إلا الله ثم ينظم بشرائعه وآدابه كل شيء في حياة الإنسان لا يترك صغيرة ولا كبيرة، ينتظمها كلها في حماه الواسع الكريم حياة كاملة كريمة، إن الدين ينظم جميع علاقات هذا الإنسان التي تتكون من شبكتها حياته اليومية بل حياته كلها وعمره كله تنظم علاقة هذا الإنسان بالخالق - سبحانه وتعالى - وعلاقته بالمخلوقين تنظم علاقته بالناس أفرادًا وجماعات يدخل في ذلك العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية والعلاقات السياسية والدولية والفكرية والثقافية تنظم ذلك كله بشرائعه وآدابه.
فما على الإنسان إلا أن يتعلم هذا الدين ويتعلم شرائعه وآدابه فيجد فيها ما ينظم به سائر شئون حياته، فقد وقي المئونة لا حاجة لهذا الإنسان إلى أن يحدث من البراهين ما ينظم به شئون حياته فإن في هذا الدين ما هو كفيل بذلك كله. ولكن أعجب ما في أحوال هذا الإنسان إعراضه عن تعلم هذا الدين وعن معرفة شرائعه وآدابه حتى إذا أعوزته الحاجة إلى ما ينظم به شئون حياته أو بعض شئون حياته ذهب يبتغي إلى ذلك سبيلاً غير سبيل الله الخالق الحكيم، والخالق أعلم بخلقه: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك:14] وأعجب من هذا الإنسان أولئك الذين سلكوا من أعظم المسالك خطرًا وهو الزيادة في الدين واستحسان ما لم يستحسنه الشارع الحكيم وهذا هو ما يسمى بالابتداع، فإن الابتداع في الدين هو إحداث أمر ديني على غير مثال سابق، ومعنى ذلك أن يحدث الإنسان قولاً أو فعلاً ينسبه إلى الدين وليس من الدين فلا حجة لديه تثبت أن الدين أمر بذلك أو أن الرعيل الأول فعلوه ومعنى أن ينسبه إلى الدين أي يعتقد أنه قربة مما يتقرب به إلى الله - تعالى - ويوهم الناس بذلك.
فالعبادة مثلاً بجميع صورها من صلاة أو صيام أو نسك أو غير ذلك قد بينها رسول الله بين فرائضها ونوافلها وشرح طريقة أداء كل منها وفصل ذلك وبينه أتم البيان لم يؤخر سيدنا رسول الله البيان عن وقت الحاجة فإذا جاء إنسان بعد ذلك فزاد عبادته وزعم أنها مما يتقرب به إلى الله فعليه أن يثبت الحجة أنها مما شرعه رسول الله أو فعله الصحابة الكرام وإلا فإن عبادته التي أتاها بدعة ضلالة وهو مبتدع ضال وإن كانت نيته صحيحة سليمة وهي التقرب إلى الله - تعالى - فإن النية هنا لا تشفع للمبتدع أبدًا.
أيها المسلمون إن الابتداع في الدين أمره خطير وضرره جسيم وذنبه عظيم، بل إن العلماء اعتبروا الابتداع في الدين ذنبًا أعظم من الكبائر، وقد يجر الابتداع في الدين أصحابه إلى الكفر والإلحاد وإلى مناصبة السنة العداء إن الابتداع في الدين من أشد الذنوب ضررًا بعد الإشراك بالله - تعالى - لأن ضرره لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى الأمة فيفسد عليها دينها ويشوش عليها عقيدتها ويشوش عليها شريعتها ولذلك كان الابتداع في الدين من أشد الذنوب ضرراً بعد الإشراك بالله - تعالى - وسوف نبين هذا الوجه في مسائل إن شاء الله - تعالى - نبدأ منها اليوم بالمسألة الأولى وهي أن في الابتداع في الدين إخلال بعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن فيها امتهان لسيدنا محمد رسول الله بأنه قصر في بلاغه، فبقي شيء من الدين لم يدل الأمة عليه وهذا نقض للركن الثاني من لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن شهادة المكلف بأن محمدًا رسول الله إيمان واعتقاد منه بأن سيدنا محمد نبي مرسل من ربه وأنه بلغ رسالات ربه وأدى الأمانة كاملة والتزام من المكلف بإتباع هذا النبي الكريم ففي الابتداع وفي الزيادة في الدين إخلال بركن المتابعة لهذا النبي الكريم وإخلال بالاعتقاد بأنه أدى الرسالة كاملة وبلغ أتم البلاغ.
قال الإمام مالك إمام دار الهجرة إمام هذه المدينة النبوية في عهد التابعين قال - رحمه الله -: من ابتدع في الإسلام بدعة يرى أنها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة لأن الله - تعالى - يقول: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة:3]. وما لم يكن يومئذ دينًا فما يكون اليوم دَيناً - رحمه الله - ما أحكم عبارته هذه ما لم يكن في حياة نبينا رسول الله والوحي يتنزل عليه من ربه فكيف يكون اليوم دينًا وقد انقطع الوحي وكثرت الفتن واشتدت الغفلة.
إن رسول الله ما أشد رحمته وشفقته بالأمة، والله ما ترك خيرًا إلا دلها عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه، وسكت عن أشياء رحمة بها وليس نسيانًا من الشارع الحكيم. قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها))[1] وصلى الله وسلم وبارك عليه.
ــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه الطبراني في الكبير (22/221-222) برقم (589) والدار قطني في سننه (4/183-184) وأبو نعيم في الحلية (9/17) والبيهقي في سننه الكبرى (10/12-13) وغيرهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد