الخطبة الأولى:
أما بعد: ففي يوم الإثنين من رمضان من العام الأربعين من مولد سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه الوحي وظهر له جبريل - عليه السلام - فكان ذلك بداية مرحلة البعثة مدوية في حياته - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك إيذانا ببدء الاتصال بين السماء والأرض بين الملأ الأعلى وبين البشرية وما اختلفوا في ذلك الرجل الكامل الذي لم يوجد في البشرية أحد أكمل منه ولا أطهر ولا أحسن فصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما كثيرا، ظهر له رئيس الملائكة وسفير الله إلى رسله وأنبيائه وأمينه على وحيه جبريل - عليه السلام -، ظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أكمل حالاته وأفضلها يتعبد في غار حراء فظهر له جبريل - عليه السلام - وكان قد مهد لذلك من قبل كما بينا سابقا بعلامات وإرهاصات ومقدمات تهيئة لهذا الأمر العظيم كان منها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل أن يفجأه الوحي بستة أشهر أو أكثر في غار حراء بدئ له الوحي بالرؤية الصادقة فكان يرى الرؤيا الصادقة فتقع كفلق الصبح[1]، وكان مما رأى في منامه جبريل - عليه السلام - رآه في منامه يقدم له كتابا قد كتبت فيه الآيات من أول سورة العلق فقال له جبريل في المنام اقرأ، ثم هاهو جبريل يأتيه في اليقظة وسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء فيقول له اقرأ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنا بقارئ)). فغطه غطة شديدة حتى بلغ منه الجهد أو ضمه ضمة عنيفة حتى حبس نفسه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك به ثلاثة مرات في كل مرة يقول له اقرأ فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنا بقارئ))، أي كيف اقرأ وأنا أمي لا أكتب ولا أحسب. فقال له جبريل: \" اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم \" [العلق: 1-5]. فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآيات يرجف فؤاده مرعوبا مما رأى وشاهد وسمع، يرجف فؤاده من هول ذلك المشهد وجلاله فدخل على أم المؤمنين خديجة وهو يقول: زملوني زملوني فزملوه - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عنه الروع. فقال لأم المؤمنين خديجة: لقد خشيت على نفسي وأخبرها بالخبر. فقالت - رضي الله عنها - وأرضاها: لا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب بالكتاب العبراني يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله له أن يكتب وكان شيخاً قد عمي أي طعن في السن حتى ذهب بصره فقالت له خديجة - رضي الله عنها - يا بن عم اسمع إلى ابن أخيك. فقال ورقة يا بن أخي ماذا رأيت؟ فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر ما رأى في غار حراء. فقال ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ليتني فيها جذعا، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أو مخرجي هم)). قال: ما أتى رجل بمثل ما جئت به إلا أوذي وإن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا.
هذا هو خبر أول الوحي وبدء نزوله على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رواه الإمام البخاري في صحيحه. وفي هذه الواقعة العظيمة الشأن الجليلة دروس منها أن أمر الوحي وهو أمر عظيم جليل ثقيل مهيب إنه جاء في اليقظة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كامل حضوره النفسي والذهني وصفائه ونقائه وهو في أكمل حالاته وأحسنها - صلى الله عليه وسلم - وأما الذي جاء له ورآه - صلى الله عليه وسلم - وأحس به لما ضمه إليه ضما شديدا وسمعه هو عظيم الملائكة وسفير الله إلى خلقه وأمينه على وحيه جبريل - عليه السلام -، وإنما غط - عليه السلام - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي ضمه ضمة عنيفة ثلاث مرات لينبهه ليكون في كامل ترقبه لاستقبال تلك الآيات العظيمة التي جاءه بها من رب العالمين تبارك وتعالى، ولينبهه ويبين له أن هذا الأمر العظيم الذي يراه ويشاهده ويسمعه أمر حقيقي من أمور اليقظة ليس تخيلا ولا مناما ولا جنونا حاشاه - صلى الله عليه وسلم - بل هو أمر حقيقي من أمور اليقظة وفي هذا رد قوى واضح كالشمس على الغربيين وأسلافهم من المتفرنجين من صنوف المستشرقين الذين يتشدقون ويتحذلقون فيفلسفون زندقتهم وإلحادهم وتكذيبهم بما أنزل الله - تعالى - من الوحي على نبيه ومصطفاه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. ماذا يقولون وماذا يقول أذنابهم فيما بيننا ممن يتكلمون بألسنتنا من بني جلدتنا ممن أضلهم الله من أبنائنا من المتفرنجين من العلمانيين من الحداثيين من الزنادقة والملحدين. ماذا يقولون في أمر الوحي؟ إنه ليس أمرا حقيقيا أمر نفساني يتعلق بنفس محمد - صلى الله عليه وسلم - يقصدون أن هذا الوحي من قبيل الفيوضات النفسانية والعبقرية الشخصية، ولذلك يطلقون تلك العبارة الغامضة عبقرية محمد - صلى الله عليه وسلم -. يطلقون هذه العبارة بسوء نية ومقصودهم هذا المعني بكل ما يحمله من تكذيب بالوحي وإلا فالعبارة في ظاهرها صحيحة فسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في شخصيته الذاتية هو في كامل العبقرية، إنه يمثل الكمال البشري ولكن ما جاء به وحي منزل من رب العالمين تبارك وتعالى، نزل به الروح الأمين جبريل - عليه السلام - علي قلب سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
هذا هو أمر الوحي أمر حقيقي من أمور اليقظة ليس تخيلا ولا مناما ولا فيوضات نفسية ولا مجرد عبقرية ذاتية، إنه وحي من رب العالمين وقد جاءه جبريل بعد ذلك بعد فترة من فجاءة الوحي في غار حراء ظهر جبريل مرة أخرى لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذه المرة علي صورته الحقيقية العظيمة التي خلقه الله عليها ويحدثنا الصادق الأمين النبي المصطفي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه عن ذلك فيقول كما جاء في صحيح البخاري[2] من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا في السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله- تبارك وتعالى -: يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله - سبحانه -: والرجز فاهجر [المدثر: 1-5]))، وفي بعض الروايات[3] أنه رأى جبريل جالسا علي عرش بين السماء والأرض فسد الأفق.
هاهنا ظهر للنبي - صلى الله عليه وسلم - على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الملك الذي جاءني بحراء)) يدل على ترقبه - صلى الله عليه وسلم - لأمر الوحي وانتباهه له وحضوره بكامل حواسه وذهنه وذكائه - صلى الله عليه وسلم - فها هو يعرف الملك ويزداد تعرفا عليه إذ يراه هذه المرة بصورته الحقيقية، هذا هو الحق جاءه من ربه - عز وجل - لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [يونس: 94].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد