الغيرة بين الجاهلية والإسلام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم، وعنوان عرضهم، ولذلك فقد تفننوا في حمايتها والمحافظة عليها، و الدفاع عنها زوجة وأماً، ابنة وأختاً، قريبة وجارة، حتى يظل شرفهم سليماً من الدنس، ويبقى عرضهم بعيداً من أن ُيمس.

ولم يكن شيء يثير القوم كالاعتداء على نسائهم أو المساس بهن، ولذلك كانوا يتجشمون في الدفاع عنهنَ كل صعب، ولا يضنون بأي غال، لقد كانت الغيرة تولد مع القوم، وكأنَّهم رضعوها فعلاً مع لبان الأمهات[1].

وفي بيئة العرب التي قامت فيها الأخلاق على الإباء والاعتزاز بالشرف، كان لابد للرجال والنساء من العفة ومن التعفف، لأن العدوان على العرض يجرُ الويلات والحروب، وكان لابد من الغيرة على العرض حتى لا يخدش، والعفة شرطٌ من شروط السيادة، فهي كالشجاعة والكرم، وكان العرب أغير من غيرهم[2]، لأنَّهم أشدٌّ الناس حاجةً إلى حفظ الأنساب، ولذلك قيل: كل أمة وضُعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها، وقد وصل العرب في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يؤدون بناتهم مخافة لحوق العار بهم من أجلهنَّ.

وأول قبيلة وأدت من العرب ربيعة، وذلك أنَّهم أُغِيرَ عليهم فنُهبت بنت لأمير لهم، فاستردها بعد الصلح، وخُيرت رضاً منها بين أبيها ومن هي عنده، فاختارت من هي عنده، فغضب والدها وسنَّ لقومه الوأدَ ففعلوه غيرةً منهم، وشاع الوأدُ في العرب بعد ذلك.

ومن نخوة العرب وغيرتهم، أنَّهم يكنون عن حرائر النساء بالبيض، وقد جاء القرآن الكريم بذلك فقال - سبحانه -: ((كَأَنَّهُنَّ بَيضٌ مَكنُونٌ)) (الصافات: 49).

 وقال امرؤ القيس: (وبيضة خدر لا يرام خباؤها).

ومن نخوةِ العرب وغيرتهم أنَّهُ كان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال، والرغاء، ثم النساء إذا صدرت كل الفرق المتقدمة، حيثُ يغسلنَّ أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمناتٍ, ممن يزعجهن، فمن تأخر عن الماءِ حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل.

وكان للغيرة عند القوم مظاهرَ كثيرة [3] منها: حبهم لعفةِ النساء عامة، ونسائهم خاصة، ومنها حبهم لحيائهنَّ وتسترهنَّ ووفائهنَّ ووقارهنَّ.

وقد أشاد الشعراء بعفة النساء وتمنعهنَّ ووفائهنَّ، قال علقمة بن عبده:

منعمةً ما يستطاعُ كلامها ***على بابها من أن تزار رقيب

إذا غاب فيها البعل لم تفشِ *** سره وترضى إياب البعل حين يئوبُ [4]

وكان من مظاهرِ الغيرةِ عند العرب، سترُ النساءِ ومنعهنَّ من الظهور أمام الرجال

 

 يقول الأفواه الأودي:

نقاتلُ أقوماً فنسبي نساءهم ولم *** ير ذو عزٍّ, لنسوتنا حجلا [5]

على أنَّهم كانوا يفخرون بغضِّ البصر عن الجارات، ويعتبرون ذلك من العفة والغيرة على الأعراض، كان كشفُ الستر بجارح النظرات، وهتك الأعراض بخائنة الأعين، وفضحِ الأسرار باستراق السمع لا يترفع عنه إلاَّ كل عفيف، وما أجمل قول عروة ابن الورد:

وإن جارتي ألوت رياح ببيتها  *** تغافلت حتى يستر البيت جانبه [6]

وقول عنترة:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها [7]

أين هؤلاءَ من بعض الشباب اليوم الذين يتسكعون في الأسواق، أو يتلصصون حول الحرمات، وبعض وسائل الإعلام تعرضُ المسلسلات الماجنة، التي تدربُ الشباب على التحلل والعدوان.

لقد كانت عند العرب أخلاقٌ كريمة، بعث نبي الرحمة- عليه الصلاة والسلام - ليتممها، ويقوّم ما انحرف منها، ويسمو بها وبأمثالها.

لقد حمد الإسلام الغيرة، وشجع المسلمين عليها، ذلك أنَّها إذا تمكنت في النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ، حميةً ودفاعاً عن الأعراض، والمؤمنُ الحق غيورٌ بلا شطط، يغار على محارم الله أن تنتهك، وفي الحديث أن سعد بن عبادة- رضي الله عنه- قال كلاماً بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلَّ على غيرته الشديدة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني)) رواه البخاري.

هذه هي الغيرة، غيرةُ الإسلام على المحارم والأعراض، المنبثقة من غيرةِ رب العباد، والمتمثلةِ في خاتم المرسلين، وهي ليست بخافيةٍ, على أحدٍ, من الناس، قال - تعالى -: ((قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ)) (لأعراف: من الآية33).

ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن)) رواه البخاري.

ومن أجل أن يكون المجتمع المسلم نظيفاً، أمرَ الإسلام بعددٍ, من الأوامر والنواهي، ليحفظ هذا المجتمع طاهراً نقياً، وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية، ومن علامات هذا النقاء.

ولذلك فرض الله على المسلمات ستر مفاتنهنَّ، وعدم إبداء زينتهن، يقول - تعالى -: ((وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَو آبَائِهِنَّ أَو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو أَبنَائِهِنَّ أَو أَبنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَو نِسَائِهِنَّ أَو مَا مَلَكَت أَيمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيرِ أُولِي الأِربَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفلِ الَّذِينَ لَم يَظهَرُوا عَلَى عَورَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِنَّ لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)) (النور: 31).

((وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرٌّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً)) (الأحزاب: 33).

وحرم الإسلام كذلك الدخول على النساء لغير محارمهم، كما حرم الخلوة بهن، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إيَّاكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: \" الحمو الموت)) و الحمو أخو الزوج وما أشبههُ من أقاربه.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة إلاَّ مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله امرأتي خرجت حاجة، واكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: \" ارجع فحج مع امرأتك)) رواه البخاري.

تطهير وتحصين لهذا المجتمع الفاضل، فلا خلوة ولا ريبة، وحتى الجهاد يؤمر الرجل بتأجيلهِ من أجل أن يحج مع امرأته، فلا تُسافر وحدها، هذه روح الشر ع الحنيف، والمتأولون كل يومٍ, قد يطلعون علينا بجديد.

ومن لوازم هذه الغيرة: الحياء، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الحياء من الإيمان، و الإيمان في الجنة)) رواه ابن حبان.

ومن ذلك أيضاً: غض البصر، قال - تعالى -: ((قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضٌّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصنَعُونَ)) (النور: 30).

وقوله: ((وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَو آبَائِهِنَّ أَو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو أَبنَائِهِنَّ أَو أَبنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَو نِسَائِهِنَّ أَو مَا مَلَكَت أَيمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيرِ أُولِي الأِربَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفلِ الَّذِينَ لَم يَظهَرُوا عَلَى عَورَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِنَّ لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)) (النور: 31).

يقولُ سيد قطب - رحمه الله -: (إن الإسلام يهدفُ إلى إقامة مجتمعٍ, نظيف، لا تُهاجُ فيه الشهوات في كلِّ لحظة، ولا تستثارُ فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنعُ شيئاً إلاَّ أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاءِ مجتمعٍ, نظيف، هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع النظري العميق بين الجنسين سليماً) [8]

عرفنا ممَّا تقدم أنَّ الغيرة خلقٌ عربي أصيل، ارتفع به الإسلام آفاقاً عاليةً سامية، وقمماً شامخة، في ظل مجتمعٍ, وارف الظلال.

ثم بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين، مع ضعف الوازع الديني، وهجمة الغرب الشرسة، حتى بدت المظاهر المنحرفة عجيبة في العلاقات الاجتماعية والأخلاقية.

ابتعد كثيرون عن الواقع النظيف، وحتى غيرة أهل الجاهلية، انحدرت وتلاشت في كثيرٍ, من الأوساط، إذ أصبح الاختلاط (بين ما يسمى بالأسر التقدمية) شائعاً، حيث الأحاديث المشتركة، والموائد المختلطة.

كتب أنيس منصور في إحدى مقالاته في أخبار اليوم: إنَّهُ زار إحدى الجامعات الألمانية، ورأى هناك الأولاد والبنات أزواجاً أزواجا، مستقلين على الحشائش في فناء الجامعة، قال: فقلتُ في نفسي: متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط، لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه!! [9] أهل الصعيد لماذا؟ لأنَّهُ ما يزالُ لديهم بعض أخلاق المسلمين وحيائهم.

وفي المطارات ما يراهُ المسافر من مظاهر شائنة، لا تحرك غيرةً ولا رجولة، لقد جادلت بعض الأقلام الهابطة أن تنتزع عن الفتاة المسلمة كل خلق أو تقليد، حتى الحياءَ الذي كانت تتميز به الفتاة المسلمة الشرقية.

قال سيد قطب - رحمه الله - في هذا الشأن [10]: (وحين تكون القيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية كما هي في ميزان الله هي السائدة في المجتمع، فإنَّ هذا المجتمع يكون متحضراً متقدما، أو بالاصطلاح الإسلامي ربانياً مسلما، والقيم والأخلاق الإنسانية ليست مسألةً غامضة ولا مائعة، وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة.

إنَّ المجتمعات التي تسود بها القيم والأخلاق الحيوانية، لا يمكنُ أن تكون مجتمعاتٍ, متحضرةٍ, مهما تبلغُ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي!)، (وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسرُ المفهوم الأخلاقي، بحيث تتخلى عن كل ماله علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان، ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية، ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة رذيلةً أخلاقية، إنَّ المفهوم الأخلاقي ينحصرُ في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية، أحياناً في حدود مصلحة الدولة)، (مثل هذه المجتمعات مجتمعات مختلفة من وجهةِ النظر الإنسانية، وهي كذلك غير إسلامية، لأنَّ خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته..).

 

وأخيراً:

فإنَّ معايير الأخلاق قد اهتزت في عصرنا الحاضر، ولابدَّ من أن نوليها الاهتمام الكافي الذي يوجبهُ علينا ديننا.وإنَّ التطبيق الواقعي لهذه الأخلاق، في حياة المسلمين اليوم بات واجباً إسلامياً، ومنهجاً تربوياً دعوياً، طالما أُهمل في قطاعات كبيرة من مجتمعات المسلمين والناس عموماً في هذا القرن.

إلاَّ أنَّ الأمل كبير في الأجيال المؤمنة، لتقوّم الانحراف، وتزرع الفضيلة، وتكون قدوةً حسنة، وواقعاً حياً لما كان عليه سلف هذه الأمة.

 

----------------------------------------

 [1] المعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي: محمد محمود صيام 350.

 [2] انظر: بلوغ الأرب: الألوسي 1/140-143.

 [3] انظر: الحر في الحياة العربية، والمعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي

 [4] المفصليات رقم 119، ص391

 [5] الأغاني 1/165 ط الثقافة.

 [6] الديوان ص 30، ت عبد المنعم الملوحي، دمشق.

 [7] الديوان ص 185 شرح عبد المنعم شلبي.

 [8] في ظلال القرآن 4/2510

 [9] عن واقعنا المعاصر: ص 294-295 محمد قطب.

 [10] في ظلال القرآن 3/1258.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply