ضُيِّق على المسلمين بمكة، وأُوذوا أشد الأذى، وحوربوا في أنفسهم وأرزاقهم، وعذبوا وقتلوا، وحرموا من أبسط حقوق الإنسان، بل كان القاتل إذا دخل مكة فهو آمن، ودور اللهو والخمر تعج بالساقطين والضالين، ورايات البغايا تعلن فوق الدور عن الفجور وانهيار الأخلاق وسقوط الإنسان، كل هذه الألوان من الفساد والانحلال في مكة تعيش في أمان واستقرار.
أما المؤمنون فلا أمان لهم، بل ولا بقاء لأنهم مصدر القلق، كما يدعي هؤلاء الطغاة..لقد أجبرت قريش المؤمنين على ترك أوطانهم والتضحية بأموالهم وبمصالحهمº لأنهم في نظرها نهب مستباح، وكل ذلك لأنهم قالوا ربنا الله..
قال ابن إسحاق: \"لما أذن الله - تعالى -لرسوله في الحرب، وبايعه الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه، وآوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أصحابه من المهاجرين من قومه وممن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: «إن الله قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها»، فخرجوا إليها أرسالاًº أي جماعات، وأقام- صلى الله عليه وسلم - بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة\".
بيوت المهاجرين خاوية:
وهكذا جعل المسلمون يهجرون مكة حتى خلت منهم ديارها وغلقت الأبواب، وغدت الرياح تصفر في جنباتها، وكان من هذه الدور، دار بني جحش، ودار بني مظعون، ودار بني البكير.. هذه الدور أسلم أهلها جميعًا وهاجروا رجالاً ونساء، كبارًا وصغارًا، والعجيب أن قريشًا فعلت ما فعلت بالمسلمين ثم بعد ذلك تلقي اللوم عليهم، بل وتحملهم المسئولية، وهذا أسلوب الطغاة في كل زمان ومكان، فهم يسرفون في الإجرام على عباد الله، ثم يحملونهم الأوزار، فالمستضعف والمظلوم المقهور مصدر القلاقل، وهو الإرهابي الخطر!! وعجبًا يرضى القتيل وليس يرضى القاتل، موازين مختلة وأوضاع عجيبة، يتضح هذا الأمر من هذه الحادثة.. التي روتها كتب السيرة.
لقد نظر المشركون بعد هجرة الصحابة إلى المدينة فإذا بديارهم التي كانت غامرة بمكة ومليئة بأهلها قد أقفرت والرياح تصفر في جنباتها.. فماذا قال الطغاة؟
ذكر ابن إسحاق: إن عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب، وأبا جهل بن هشام مروا وهم مصعدون إلى أعلى مكة، بدار بني جحش، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها بيابًا ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال:
وكل دار وإن طالت سلامتها * * * يوما ستدركها النكباء والحوب
ثم قال: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها! فقال أبو جهل، وهو يشير إلى العباس: هذا عمل ابن أخي هذا، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.
ولقد قص علينا القرآن الكريم ما كان من فرعون إزاء سيدنا موسى من مواقف مثل هذا تمامًا مما يقطع بأن طبائع الطغاة واحدة ممتدة على مدار التاريخ، وأن منطقهم تجاه حملة الرسالات واحد لم يتغير ولم يتبدل.
وهذه الحادثة في قوله تعالي: ?وَقَالَ فِرعَونُ ذَرُونِي أَقتُل مُوسَى وَليَدعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الأَرضِ الفَسَادَ? (غافر: 26).
يقول صاحب الظلال في التعليق على هذه الآية:
ولعله من الطريق أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى- عليه السلام -: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الأَرضِ الفَسَادَ}º فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال عن موسى رسول الله- عليه السلام -: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الأَرضِ الفَسَادَ?؟! }
أليست هذه بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟! أليست هي بعينها كلمة الباطل الطالح في وجه الحق الجميل؟! أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادي؟!
إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان مع توالي الزمان واختلاف المكان، فالقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين.
فأما موسى- عليه السلام - فالتجأ إلى الركن الركين والحصن الحصين، ولاذ بالجناب الذي يحمي اللائذين ويجير المستجيرين.
{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ, لَّا يُؤمِنُ بِيَومِ الحِسَابِ}.
ومثل هذا يفعله اليهود اليوم في فلسطين وهم لصوص وسفاكون وقتلة، جاءوا على حين غفلة وفرقة بين المسلمين، ودبروا مؤامرتهم، ومن ورائهم الناقمون على الإسلام وأهله، فإذا العالم كله يهجم على أهل الديار بالمال والنساء والسلاح، فلم يستطيع أهل الديار الذين أحاطت بهم الأهوال من كل مكان أن يقفوا أمام جحافل الشر، بعد أن أعطى المخلصون منهم كل ما في طاقة البشر من بذل وتضحية ودماء وشهداء.
لقد صنع التعتيم الإعلامي بالبطولات والتضحيات التي بذلها هذا الشعب المسلم الكثير حتى أماتها وغيبها، بل قلبها إلى مساوئ، ومازال المسلمون في هذا البلد المغلوب- ومعه الذين يظنون أنهم ملاقو الله- يصرون على جهاد أعدائهم وطرد أراذل الأرض من ديارهم.. وإنه لقريب بإذن الله.
والذي يهمنا أن صاحب الحق هام على وجهه في الأرض، واعتبر معتديًا إرهابيًّا وقاتلاً وسفاكًا، بينما المعتدي الظالم- اعتبر في العرف الدولي الخاطئ والضال- داعيًا للسلام وطالبًا للاستقرار، ووجد من يشجعه على ظلمه وعدوانه.
ولم يجد صاحب الحق من يقف بجواره ويرد عنه العدوان والبغي والإرهاب والقتل والتشريد.
إنها موازين مختلة لا يعيدها إلى وضعها الصحيح إلا الإسلام الذي جاء من عند الله ليكون المقياس الصحيح لكل شيء.
{إِنَّ هَـذَا القُرآنَ يِهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا كَبِيرًا} (الإسـراء:9).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد