دور المسنين ظاهرة يجب أن تختفي من مجتمعاتنا الإسلامية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

أهم المميزات التي تميز الأسرة المسلمة هو ذلك القدر الكبير من الترابط بين أفرادها.. الصغير يحترم الكبير.. والكبير يعطف على الصغير ويحنو عليه.. والمجتمع العربي أساسه القبائل والعائلات والأنساب والتجمعات الكبيرة والبيوت الكبيرة أيضًا.. فبيت العائلة يتسع للجميع، الأب والأم، ثم من يكبر من الأبناء يتزوج في نفس البيت.. ولكن مع انتشار نمط البيت الغربي الضيق وانشطار العائلة إلى أسر صغيرة كل أسرة تستقل ببيت أو شقة جعل الترابط الأسري يتلاشى ويختفي أو يقل على أحسن الفروض. وليت الأمر توقف عند هذا الحد فقد ساد الآن في مجتمعاتنا أن الأسرة الصغيرة التي يكون من حظها أن تعول الأب الكبير أو الأم المسنة.. أن ترسله إلى \'دار المسنين\'، أي تنفيه وتعزله عن الجو الأسري وتنفذ فيه حكم الإعدام ببطيء.. تهربًا من صحبته وهو في خريف العمر وفي أشد ما يكون إلى مؤانسة الأبناء والأحفاد ليخففوا عنه شيخوخته. فقد انتشرت هذه الأيام دور المسنين بشكل ملحوظ وكثرت حالات التخلص من الخير والبركة من الآباء والأمهات.

وفي محاولة لاستطلاع ما يدور داخل إحدى هذه الدور توجهنا إلى إحداها في ضاحية من ضواحي القاهرة.. وقد أقيمت الدار على ربوة عالية وسط حديقة جميلة.. وحينما دخلت اكتشفت أنها أعدت لتستقبل كبار السن من الأوساط فوق المتوسطة والعالية.

 

وحدة موحشة

رافقني أحد المشرفين في رحلتي وهو يعمل متطوعًا فترة بعد الظهر حيث أن الدار تتبع جمعية خيرية ويكثر فيها المتطوعون.. جلسنا في الاستراحة حيث وجدنا المهندس عبد السلام عبد الحليم الذي يبلغ من العمر سبعين عامًا، وكان في يوم من الأيام مدير إدارة.. ومازال وجهه العجوز يحمل ملامح الوجاهة والثراء.. وجهه مبتسم دائمًا.. يقضي أوقاته في قراءة الجرائد والمجلات ومشاهدة التليفزيون ثم الحديث مع رفاقه ورفيقاته الكبار.. لديه أربعة أولاد.. ولدان وبنتان.. بعد أن أفنى عمره في تربيتهم حتى أصبحوا رجالاً ونساءً.. كل منهم له مركزه المرموق.. لم يتحمل أحد صحبته، فبينما الذكور يتمنون أن يعيش معهم ولكن زوجتيهما ترفضان.. وأزواج البنات لا يقبلون.. قوى الرجل العقلية متزنة إلى حد كبير ويبدو أنه لم يدخل في صراع ليفرض نفسه وإنما آثر أن يبتعد في صمت ويتألم وحده.. فله معاش شهري يكفيه ليدفع اشتراك الإقامة ويزيد.

 أما الحاجة زينب 68 سنة فما أن لمحتنا نجلس في الاستراحة حتى أقدمت مستبشرة ومداعبة زميلها المهندس عبد السلام قائلة: \'أراك لم تستعجل لتكمل الزواج مني\' فرد عليها مازحًا\' ما زال العمر طويلاً.. فلماذا العجلة؟ \' ثم ضحك الجميع.

كانت السيدة العجوز بشوشة ومنطلقة في الحديث بشكل لافت للنظر.. فهي تضفي علي المكان جواً خاصًا ولا تترك أحدًا يجلس وحيدًا دون أن يتحدث.

تحدثت في كل شيء وعن أي شيء وضحكت ما شاء الله لها أن تضحك ولكني حينما سألتها لماذا جئت إلى هنا؟ وهل لك أولاد؟ تغير وجهها وتحول السرور والانشراح إلى كآبة ودموع وظلت الدموع تنهمر حتى انصرفنا.

هي ثرية، ولديها من الأموال الكثير، وأبناؤها تجار، كل منهم له بيته وزوجته وأولاده، لم يتحملوها.. ولكنها كانت مثابرة، أرادت أن تفرض نفسها وتجد لها مكانًا في هذا الدفء الأسري فلم تستطع، وكانت المفاجأة أن حملوها بالسيارة دون رضاها.. قالوا لها سنذهب بك إلى أفخم دار للمسنين.. بكت وقالت: بل أريد أضيق حجرة في أصغر شقة مع أحدكم أو إحداكن.. ولكنها كانت تكلم نفسها بعد أن أغلقت قلوب أبنائها دونها.

أما الحاجة حكمت فوضعها مختلف.. كان زوجها سفيرًا سابقًا وبعد وفاته ترك لها ولدان وابنة.. أحد الأولاد أستاذ في كلية الطب والآخر ضابط كبير، أما الابنة فهي مهندسة ملء السمع والبصر.. كل تزوج واستقل بحياته.. صحيح أن الحاجة حكمت تعيش في أرقى حي في القاهرة وشقتها التي تسكن فيها يزيد ثمنها عن مليون جنيه وهي مليئة بالتحف والأثاث الفاخر.. الشقة متسعة للغاية تكفي لثلاث أسر ليعيشوا فيها.. ولكنها تشعر داخلها بالكآبة والوحدة وتخاف من جدرانها.. ذهبت إلى دار المسنين ولكنها حنت إلى بيتها وذكريات أيام الشباب والأسرة فعادت مرة أخرى.. أخذت تبحث في أوساط البنات الجامعيات المغتربات عن إحداهن أو اثنتين منهن ليؤنسا وحدتها.. وفعلاً وجدت إحداهن لكنها سرعان ما تزوجت وعادت السيدة إلى وحدتها. تخاف أن تبيت وحدها أو تمشي وحدها تريد أي إنسانة تؤنسها.

اتصلت بابنتها التي لديها شقة على هذا المستوى قالت لها: أريد أن أزورك لأقضي معك بعض الوقت.. اعتذرت بأن لديها ضيوف سوف يشغلون الحجرة.

يتعلل أبناؤها بأن أمهم كثيرة الكلام لدرجة أنها تنسى نفسها وتسرح مع من تحدثه وربما تهذي في كلامها.. وإنها تقلق مَن تجلس معه.

 

صدور الأبناء يجب أن تتسع للآباء

ولكن الصورة ليست كلها بهذه الكآبة.. الشيخ أحمد سالم إمام وخطيب وخريج كلية أصول الدين.. تزوج وسافر مع زوجته حيث حصلت على وظيفة محترمة.. براتب كبير ومغر.. تاركاً أبويه في بلدته.. في بيته الذي بناه.. رغم أن لهما أبناء غيره لكنه يعتبر نفسه أحق بهما.. فجأة مات أبوه فعاد.. وترك زوجته وأولاده مع أمه.. حاولت زوجته كثيرًا وحاول أهلها أن يثنوه عن عزمه ليصطحب زوجته معه في سفره لتفر من رفقة أمه العجوز ولكنه لم يرض.. ووقف صلبًا وقال لن أتخلى عن أمي.. اعلموا ذلك جيدًا ولما رأوا تصميمه وعزمه تركوه.

أما المحاسب إبراهيم عبد اللطيف.. فقد تزوج حديثًا وله أخ وأخت.. ولكن أمه تعيش معه.. حينما ذهب ليخطب زوجته قالوا لابد من شقة منفصلة بك.. فأتى بالشقة، قالوا لا نريد أمك مع ابنتنا قال هاكم ابنتكم فلتظل معكم، أما أمي ففي سويداء القلب.. أمام إصراره رضخوا وزوجوه.. وبعد الزواج بدأت زوجته في تكدير أمه كي تجعلها تترك الشقة وتفر إلى ابنها أو ابنتها.. لكن إبراهيم يحكي عن تجربته ويقول: قلت لزوجتي حينما رأيت ذلك.. إن أمي أولاً وثانيًا وأنت ثالثًا.. وإذا خيّرت بينكما سأختار أمي فافسحي لها مكانًا سلمًا.. حتى لا أضطر إلى أن أفسح لها المكان عنوة.. أو أجعله لها هي وحدها.. ومن يومها وهي تشتري طاعة أمي.. وقد أنجبت ولدًا وبنتًا، وزوجتي تعمل ولولا أمي التي تفعل لنا كل شيء لكان وضعنا صعبًا.

وفوق ذلك تفتح بيتي ليزورنا الأهل والأقارب ببركتها.. ولو لم تكن موجودة معي لحرمت من هذا الجو العائلي.

 

غلبة المادية والأنانية

يقول د. علي عبد الهادي أستاذ علم الاجتماع: إن نمط الحياة المدنية الحديثة، والأسرة الصغيرة، وانهيار نموذج بيت العائلة، والإعلام الذي يؤكد هذا المعنى، وتحول مجتمع القرية هو الآخر تدريجيًا إلى مجتمع الأسر الصغيرة، كل ذلك ساهم في إيجاد المشكلة.

فالأم والأب لا يريدان لابنتهما إلا مسكنًا خالصًا لها، ولا يحضانها على حسن مصاحبة حماها أو حماتها.. وقلة الوازع الديني وعدم تقديم الآخرة على الدنيا.. وسيادة النمط المادي.. كل ذلك ساهم في وجود النزعة الأنانية التي تجعل كل إنسان لا يفكر إلا في نفسه.. وكل ذلك ساهم في إيجاد هذه المشكلة المخجلة.. فهل هذا هو جزاء من أفنى شبابه في خدمة أبنائه.. الذي كان يجوع ليشبعهم ويعرى ليكسوهم.. لقد كانت الأجيال السابقة أوسع صدرًا وأكثر احترامًا لمجتمع العائلة وتقديرًا له، فكانت زوجة الابن تتفانى في خدمة حماها وحماتها لدرجة أنها كانت تفضلهما على زوجها.

 

أما د. محمد عز الدين أستاذ الطب النفسي فيقول: إن إحساس الشيخ الهرم بأنه منبوذ وغير مرغوب فيه هو إحساس بشع وخطير يدمر نفسيته في وقت هو أحوج لأن يعيش في دفء الأسرة بين الأبناء والأحفاد ويندمج معهم وينقل لهم خبرته ويتألم بألمهم ويفرح لفرحهم.. وتزداد حاجته إلى هذا الجو العائلي كلما تقدم في السن.

فالجو العائلي في هذا التوقيت أقوى من أي دواء.. وإشراكه في أمور العائلة والأقارب وأصدقاء العائلة يخرجه بدرجة كبيرة من مشاكله وهمومه لينطلق إلى عالم أكبر. كما أن العناية الصحية.. سواء في الاهتمام بغذاء المسن أو إعطائه الدواء أو تنظيف ثيابه.. كل ذلك لا يمكن أن يتم على الصورة المطلوبة إلا في الجو الأسري.

 

ظاهرة يجب مواجهتها:

د. عزَّة كريم أستاذ علم الاجتماع بمركز البحوث والدراسات الاجتماعية تقول: في حالات من لا مأوى ولا نصير ولا سند له تصير دور المسنين أفضل علاج له، ولكن أن يطرد الأبناء آباءهم دون وازع من دين ولا غيره، يطردونهم، وهم يشهدون آخر مراحلهم في الدنيا، هؤلاء ينبغي أن نتصدى لهم بحزم، ويبدو أن الظروف الاجتماعية التي نمر بها هي التي جعلت فكرة دور المسنين متقبلة في الذهن من الأساس، قديمًا كان التكافل الاجتماعي أمرًا دينيًّا يقي المجتمع من عاديات كثيرة اليوم افتقدنا هذا!!، إذا كانت الدار له، أو لك، فأنت مأمور في الحالين بحسن معاملته، وأن تتذكر وأنت ابن أو ابنة ستدور الأيام عليك وتكون في موضع أمك وأبيك، هل تقبل أن يودعك أبناؤك دار المسنين؟! هل تشعر بمدى القهر والخيانة وأنت وحيد وسط غرباء بلا أهل؟!

وتضيف د. عزة: على المسن في هذه الحالة أولاً ألا يضعف في مواجهة هؤلاء العاقِّين، بل ينبغي عليه أن يتماسك، ويعيد ترتيب أوراقه، وألا يترك مكانه كي لا يشعر بالعجز أو الندم الدائمين مدى حياته الباقية.

 

عيب وقلة مروءة:

أما د. محمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر فيقول: إنه من العيب الشديد وقلة المروءة وضعف الدين أن نتخلى عن آبائنا وأمهاتنا بهذه الصورة البغيضة المنفرة.. فربما كان هذا الشيخ أو هذه العجوز هي باب أحدنا الذي يدخل به الجنة.. إن هذه الدور[دور المسنين] ليس مكانها بلادنا.. إنما مكانها بلاد الغرب. هذا الأمر قد يكون مقبولاً إذا لم يكن للمسن أحد يرعاه.. أما إذا كان له أولاد فخيرهم هو الذي يرعاه.. فهذه هي الرحم التي من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله.. فيجب أن يتسابق الأبناء لنيل رضا الآباء، هذا أمر.

 أما الحكم الشرعي فهو أن عقوق الوالدين ليس كبيرة فقط ولكنه من أكبر الكبائر. والله - تعالى - قول: [وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا].

فمجرد إظهار التأفف ناهيك عن النهر يندرج تحت العقوق.. فما بالك بمن يحمل أباه حملاً ويذهب به إلى دار المسنين تنفيذًا لأمر زوجته بإبعاد أبيه؟

فإذا كان الله يأمرنا بمصاحبتهما بالمعروف حال شركهما بالله فما بالنا إذا كانا مسلمين مؤمنين. يقول الله - تعالى -في الحديث القدسي: [إني خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته].

ونحن نعلم قصة ذلك الرجل الذي احتضر ولم يستطع أن ينطق الشهادتين فلما أُخبر الرسول الكريم بذلك قال آتوني بأمه.. فلما جاءت قال أكنت تأخذين عليه شيئًا..قالت: لا.ولكنه كان يقدم زوجته عليَّ.. فقال لها سامحيه. فقالت: لا. فقال آتوني بنار لنحرقه.. حينئذ قالت: لا. لقد سامحته وعندئذٍ, نطق الشهادتين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply