إياك والشائعات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن من الناس أناساً لا هم لهم إلا القيل والقال، والخوض فيما لا يفيد بحال، لم تألف نفوسهم الانضباط بتعاليم الشريعة، والتأدب بآداب القرآن والسنة، يتناقلون الأحاديث دون وعي أو تثبت، مطيتهم في ذلك: قالوا، وزعموا، وبئس مطية الرجل زعموا.

يفرح بكل شائعة، ويطير هنا وهناك، ولا يعنيه ما يقع له من جراء ذلك حين يتلقاها لسان عن لسان، وبيت عن بيت، كلمة عابرة، وفلتة لسان تجر من العواقب على الشخص ذاته وعلى مجتمعه ما لا يخطر على بال، وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال.

إن صاحب الهوى والأغراض لا يجد متنفساً لما في صدره إلا تلفيق الأكاذيب، وتزوير الأخبار، متناسياً شرف أمانة الحديث، وحفظ حقوق المسلمين، فهو قليل المروءة، صفيق الوجه، لا وازع من الدين يردعه، ولا تقوى يتحلى بها لنمنعه، والسماح بانتشار الشائعات وقبول كل خبر، وعدم الترويº يولد التحسس، وينبت التجسس، ويجر إلى تتبع العورات، والتطلع إلى السوءات، ذلك أن الباطل إذا كثر ترديده وطال التفكير فيه انقلب عند الناس في حكم الحقيقة، وحينئذ تقع الواقعة على المتهمين المظلومين.

والمتأمل في الكتاب والسنة وفي التاريخ يعلم يقيناً ما للشائعات من خطر عظيم، وأثر بليغ، فكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وحطمت من عظماء، وهدمت من وشائج، وتسببت في جرائم، وفككت من علاقات وصداقات، وكم هزمت من جيوش، وأخرت من سير أقوام.

ألا ترى أن الدول تهتم بها، والحكام يرقبونها، معتبرين إياها مقياس مشاعر الشعوب نحو أنظمتهم صعوداً أو هبوطاً، ويبنون عليها توقعات الأحداث، ونحن نجد في القرآن كيف صور الله لنا عظم خطر الشائعة وذلك في حادثة الإفك - والتي كانت مجرد فرية وإشاعة مختلقة، بين الله كذبها -، ولولا عناية الله لعصفت بالأخضر واليابس، ولما أبقت على نفس مستقرة مطمئنة، ولقد مكث مجتمع المدينة بأكمله شهراً كاملاً وهو يصطلي نار تلك الفرية، ويتعذب ضميره، وتعصره الإشاعة الهوجاء، فتفضل الله - عز وجل - على عباده ورحمهم فأنزل الآيات في صدر سورة النور تعالج تلك المأساة الفظيعة، ليكون درساً تربوياً رائعاً لذلك المجتمع، ولكل مجتمع مسلم إلى قيام الساعة.

وصدق الله ((لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم)) لقد بينت هذه الآيات الطريقة المثلى في التعامل مع الشائعة والفرية ((لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين ))، إنها أول خطوة ينبغي أن يتخذها من لامست الإشاعة سمعه، فيظن بالمسلمين من إخوانه وجيرانه وأقربائه خيراً فهم منه وهو منهم.

كما بينت الآيات خطورة تالية لذلك وهي مطالبة ناقل الشائعة بالدليل والبرهان ((لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون)).

إن مثل هذه الفرية التي تناولت أعلى المقامات مقام النبوة، وأظهر الأعراض زوج النبي - رضي الله عنها -، ما كان ينبغي أن تشيع بهذه السهولة دون تثبيت ولا بينة، ولا كان يليق أن تتقاذفها الألسنة، وتلوكها الأفواه دون شاهد أو دليل ((إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم))، لسان يتلقى عن لسان دون مرور بقلب ولا عقل ولا نظر ((ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم)) ((يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين)).

إن حق المؤمن أن يحمى ظهره وعرضه، وتصان كرامته، حتى يستبين بوضوح ما يستحق عليه المساءلة والمؤاخذة، وعلى الفرد والجماعة وكل مسؤول ألا يقبلوا ما يصل إليهم من أخبار أو أقاويل في المؤمنين إلا بعد التثبت والتبين حذراً من الإضرار بالناس في أنفسهم وسائر حقوقهم ومتعلقاتهم، فلا يكون المعتمد على مقالة داس، أو خبر مفتر يجلب لنفسه نفعاً، أو يوقع بغيره ضرراً ((يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..))، وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: \"كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع\".

وقع للمسلمين في العهد الأول شائعات اكتووا بنارها، وكان لها آثارها السيئة، فهذه حادثة الإفك من أعظمها وأشدها ضرراً.

فلما انتشرت شائعة أن كفار قريش أسلموا - وذلك بعد الهجرة الأولى للحبشة - رجع عدد من المسلمين إلى مكة، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل، وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان يفر منه.

وفي معركة أحد عندما أشاع الكفار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - قتل فت ذلك في عضد كثير من المسلمين حتى إن بعضهم ألقى السلاح، وترك القتال.

وأدت الشائعات الكاذبة ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى تجمع أخلاط من المنافقين، ودهماء الناس وجهالهم، وأصبحت لهم شوكة انتهت بقتل الخليفة بعد حصاره في بيته، وقطع الماء عنه.

وفي غزوة بني المصطلق لما انتشرت قالة السوء التي أطلقها ابن أبي رأس المنافقين - مستفيداً من المشاجرة التي وقعت بين المهاجري والأنصاري، حيث تداعوا بدعوى الجاهلية، فقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل -، وكادت تحدث فتنة عظيمة، اضطر معها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعالجة هذا الموقف علاجاً عملياً، فأمر بالرحيل فوراً، وسار بهم بقية يومهم ذلك والليل كله، ثم نهار اليوم التالي حتى آذتهم الشمس، ثم نزلوا وناموا من فورهم من شدة الإجهاد، كل ذلك لشغل الناس عن الخوض في حديث يمكن أن يؤدي إلى فتنة.

ولم يفتأ جدار الأمة المسلمة يدك بمعاول هذه الشائعات على مر التاريخ في دينها، وعقيدتها، وثوابتها، وعلمائها، وصلحائها، وفي عصرنا نجد لهذه الشائعات دوراً كبيراً ورواجاً لها في صفوف المسلمين وللأسف، ولا غرابة إن كانت الشائعة من أعداء الإسلام، ولكن المؤلم والموجع أن تكون من داخل الصف.

لقد نهى الله - عز وجل - عن أن يتكلم الإنسان فيما ليس له به علم فقال: ((ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً )) قال قتادة - رحمه الله تعالى -: \"لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله – تعالى- سائلك عن ذلك كله\".

إن منهج التثبت في القول والنقل والسماع لا يستغني عنه مسلم مهما كان مستواه من العلم والثقافة، فالعالم في تعليمه العلم لا بد له من التثبت فيما ينقل من العلم والأقوال والروايات.

والقاضي يتثبت من البيانات والشهود وتفاصيل القضايا، والداعية يثبت فيما يدعو الناس إليه بأنه الحق، وعامة الناس كذلك محتاجون إلى التثبت فيما يتناقلون من أخبار، ويسمعونه عن الأشخاص والهيئات والأموال، وبقية طبقات الناس من إعلاميين وتجار وساسة وعسكريين كلهم محتاجون إلى هذا المنهج الرباني الكريم - منهج التثبت عند ورود الشائعة -.

التثبت من صحة الكلام مسموعاً كان أو مقروءاً.

التثبت من صحة النقل من المنقول عنه.

التثبت من دقة فهم السامع واستيعابه.

إن الأخذ بهذا المنهج دليل على الإخلاص وحسن المقصد، وحسن الرأي، وقوة العقل، وعلامة الحزم.

لو أخذنا الناس بهذا المنهج - منهج التثبت - في التعامل مع الشائعة لماتت في مهدها ولم تجد من يحييها إلا من المنافقين كما جاء في التوجيه القرآني: (( ولولا إذ سمعتوه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ))، كما يجب على المسلم ألا يعوِّد نفسه على إشاعة الأخبار كيفما اتفق لاسيما فيما يتعلق بأمن المجتمع أو خوفهº بل يرد ما سمعه إلى أهل العلم والأمر كما قال تعالى: ((وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)).

إن محاصرة الشائعات بهذه الأمور يقود إلى تفادي آثارها السيئة المترتبة عليها ولم تبق مشكلة، إلا أنه يبقي إشكال في فئة من المؤمنين ابتلوا بقابلية لسماع الشائعات والرضى بها كما قال تعالى: ((وفيكم سماعون لهم)) أي في المؤمنين من يقبل من المنافقين ويستجيب لهم إما لظن مخطئ، أو لنوع من الهوى أو غير ذلك.

فالحذر الحذر من السماع لتلك الصيحات الهدامة والأصوات المغرضة، واحفظ أخي المسلم يدك ولسانك وسائر جوارحك عن أذى الناس، ولا تبع دينك بعرض من الدنيا قليل، ولا تبغ الفساد في الأرض، وكن مصدر خير وبر وإحسان

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply