بسم الله الرحمن الرحيم
فهم يعرفون سبب زلزلة الأرض وأن وقوعها عند ملتقى كتلتين من اليابسة، أو أن طبقة تزحف على طبقة وذلك بموجب ما علمهم الله، لكنهم يقفون عند ذلك وحسب ((وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)).
أما من نور الله بصيرته بالقرآن، وملأ قلبه بالعرفان، وشرح صدره بالإيمان، فلا يشك أن هذه الكوارث لا تكون اعتباطاً، ولا تقع جزافاً، وأن أقدار الله لا تخلو من حكمة، فيأخذ من ذلك العبرة والدرس، وعندها تتجلى له حقيقة الإيمان، هي أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي قال تعالى: ((فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين))، وقال تعالى: ((فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)).
إن ما يحدث من الزلازل في الأرض ليس الأول على وجه البسيطة ولن يكون الأخير، إن الأمة في هذا العصر تتعرض لزلازل كثيرة، وهي مصداق ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل\" أخرجه البخاري، إنه وإن كان لهذه الزلازل أسباب أوجدها مسبب الأسباب، ويسر الله بالعلم معرفة بعض أسرارها، إلا أن العلم يبقى عاجزاً عن معرفة وقت تحركها ووقوعها، بمعنى أن البشر عاجزين عن كشف متى يمكن أن يقع العقاب الإلهي، ومتى يأذن الله للأرض أن تضطرب، فهو وحده - عز وجل - القادر على منعها، وتغيير مسارها.
عجباً لهذه الآية، بينما نجد الإنسان بين ولده وزوجه، قد بنى آمالاً، ورتب طموحات تمتد سنوات طويلة، إذا بالأرض فجأة ترتج تحت قدميه، فإذا بما على الأرض من بنيان قد تهدم، وأمل قد تهشم، وجسم قد تحطم، وما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال.
كم سمعنا وشاهدنا وقرأنا عن حوادث كثيرة من سقوط للطائرات، وغرق للباخرات، وتصادم للقطارات، وحوادث للسيارات، وحروب طاحنات، يموت فيها جماعات وجماعات، كل هذه الحوادث تحذير عام، ونذير لأولي الأحلام، حتى لا يستبعد الإنسان الموت، وليعلم أنه أقرب إليه من شراك نعله، فبأي شيء استعد، وعلى أي حال يلقى فيها ربه ((هذا بلاغ للناس ولينذروا به)).
إن هذه الزلازل من قدر الله، ولكن القدر يرد بالقدر، فالله سبحانه أمر أن تدفع السيئة - وهي من قدر الله - بالحسنة وهي من قدر الله، إذن.. فلندفع ذلك بالدعاء، والتوبة، والصلاة، والصدقة، والزكاة، وتحكيم شرع الله، ونبذ الدينونة لغير الله في أي شأن من شؤون الحياة، حتى في تقليد من التقاليد يدين الناس فيه لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد، إن مثل هذا الأمر قد خرج من كونه ذنباً ومعصية إلى ما هو أعظم، إنه دينونة لغير الله، وطاعة وخضوع فيما يخالف أمر الله، وقد قال الله - عز وجل -: ((وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون))، فلندفع ما يقدره الله من العذاب والهلاك بنبذ النظم الوضعية والقوانين البشرية، لندفع البلاء بمحاربة الغش والإهمال، والفساد والرشوة، لندفعه بإكرام من أكرمه الله من أهل القرآن والعلم والدعوة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والصالحين المصلحين ((وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)).
لقد أصيب إنسان هذا العصر بالهوس المعرفي، والغرور العلمي، حتى ظن أنه سيطر على العلم العلوي فضلاً عن السفلي، فقد صعد الفضاء، ونزل على سطح القمر، فتأتي آيات الزلازل لتعرفه عجزه وضعفه ومحدودية علمه، وأنه مهما بلغ من المعرفة فهو قزم أمام هذه الأقدار ((إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس)).
إننا كثيراً ما نلقي اللوم فيما يحل بنا من مصائب فردية وجماعية وهزيمة وتأخر على العوائق الخارجية كالغزو الفكري، وكيد الكفار المفسدين، ولا شك أن لذلك دور، ولكن ما كان لتلك العوائق أن تؤدي دورها لو أننا أصلحنا أنفسنا، قال تعالى: ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً))، نعم.. إن لدينا عوائق داخلية نحن بحاجة إلى إصلاحها ومعالجتها، لدينا تفريط كثير في جنب الله، لذا كان لزاماً أن نقف مع هذه العوائق وقفات صادقة ناصحة نحاسب فيها أنفسنا.
وقفة مع مساوئ القلوب وأمراضها، ووقفة مع أمراض الشرك الخفي من نفاق وغرور وحب للشهوة والظهور، وقفة مع حب الدنيا والركون إليها ونسيان الآخرة، وقفة مع المخالفات الشرعية في الهدي الظاهر في ملبسنا ومطعمنا ومشربنا ومنطقنا.
وقفة مع المنكرات في داخل بيوتنا، وإهمال تربية أبنائنا، وقفة مع التساهل في صلاة الجماعة، فضلاً عن ترك الصلاة كلية، وقفة مع هجران كتاب الله تلاوة وحفظاً وتدبراً وتحاكماً وعملاً.
وقفة مع شح أنفسنا، وأزمة أخلاقنا وتعاملنا مع الآخرين، قال تعالى: (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )).
فلنجعل من كوارث الزلازل وغيرها منعطفاً لتوبة نصوح، وإقبال على الله وشرعه، وهجر لما يخالف أمره، ويوجب سخطه.
وهنا يجب أن يكون للإعلام الإسلامي حضوره وتميزه، وأن يقول كلمته، فيربط الأسباب بمسببها، ويجلي الحكمة من أقدار الله، بمنهج إيماني يصحح المفاهيم المغلوطة ويرجع الناس على جادة الطريق، بدلاً من الاقتصار على إظهار المعونات وتقديم التعازي ثم يقف عند هذا الأمر دون تعريج على المصيبة وأثرها في دين الناس وسلوكهم.
إذا كان زلزال الدنيا رجفة أرض، وسقوط بنيان، يموت من يموت، ويحيا من بقي له في العمر بقية، فإن زلزلة الساعة شيء عظيم، تذهل فيها المرضع، وتضع الحامل، وتشيب الولدان، وترى الناس سكارى من هول الموقف والمطلع.
إن نوعاً من الذهول يصيب الناس بسبب زلزال الدنيا، فكيف بزلزال الآخرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:\"يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، قالت عائشة: يا رسول الله النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض\" متفق عليه.
لو تأملنا ما أحدثته الذنوب والمعاصي في الأمم السابقة لكان لنا في ذلك عبرة، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم بطوفان علا فوق رؤس الجبال، وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى تركتهم أعجاز نخل خاوية، وما الذي أرسل على ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم، وما الذي رفع قرى اللوطية حتى جعل عاليها سافلها، ثم أتبعوا بحجارة من السماء أمطرت عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمع على أمة غيرها، وما هي من الظالمين ببعيد، وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فأمطر عليهم ناراً تلظى، وما الذي أغرق قوم فرعون، وخسف بقارون، وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرهاً تدميراً، وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وسلط عليهم أنواع العقوبات، مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب تعالى ((ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب)).
ألا ما أهون الخلق على الله إذا هم أضاعوا أمره، سأل رجل أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقال: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة؟ فقالت: إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله - عز وجل - في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم.
وفي عهد عمر - رضي الله عنه - زلزلت المدينة، فقال: يا أيها الناس، ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم، لئن عادت لا أساكنكم فيها. وقال كعب: إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فترعد فرقاً من الرب - جل جلاله - أن يطلع عليها، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: أما بعد فإن هذا الرعب - يقصد الزلزال - شيء يعاتب الله - عز وجل - به العباد، ثم دعاهم إلى التوبة والصدقة.
إن مما يستدعي الحذر والحزن أن عذاب الله يأتي بغتة وفي حال غفلة الناس ولهوهم، كما قال تعالى: ((وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون)) أي في الليل، أو في وسط النهار وقت الاستراحة.
قال تعالى: ((أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )).
وقال تعالى: ((أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون)).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد