قصة \ هرقل\ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم


  

بسم الله الرحمن الرحيم

خرج أبو سفيان مع رهط من قريش في تجارة إلى بلاد الشام، بعد صلح الحديبية، وهي الهدنة التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قريش، وقد يمموا وجوههم شطر غزة من أرض فلسطين.

وفي هذه الفترة ظهر قيصر ملك الروم على الفرس، وأخرجهم من بلاد الشام، واسترد منهم صليبه الأعظم الذي سلبوه إياه.

ولما تم له ذلك أحب أن يذهب من حمص حيث نزله إلى بيت المقدس ليؤدي صلاة الشكر، فكانت تبسط له البسط، وتُطرح عليه الرياحين، ولما وصل القدس أدى الصلاة شاكراً ربه على النصر الذي أحرزه على الفرس.

أصبح ذات غداة، وهو مهموم مضطرب، يقلب طرفه إلى السماء، ولاحظ بطارقته حالته هذه، فقالوا: أيها الملك، لكأنك أصبحت مهموماً، فقال: أجل. فقالوا: وما الذي أهمَّك؟ قال: رأيت في المنام في هذه الليلة أن ملك الختان قد ظهر. قالوا: والله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا اليهود، وهم تحت يديك، وفي دائرة سلطانك، فإن وقع في نفسك شيء منهم، فابعث في مملكتك كلها أن تُستأصل شأفتهم، فلا يبقى يهودي إلا ضُربت عنقه، فتستريح من هذا الهم.

وبينما كان بطارقة الروم يديرون الرأي فيما سلف، جاء رسول صاحب بُصرى، ومعه رجل من العرب، وقع في أيديهم، وتقدم رسول صاحب بصرى إلى الملك قائلاً: أيها الملك، إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدثك عن حَدَث كان ببلاده، فاسأله عنه، فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان ببلاده؟ فسأله فقال: هو رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبي، وقد اتبعه أقوام، وخالفه آخرون، وكانت بينهم ملاحم وعداوات، وقد خرجت من بلادي وهم على ذلك.

ولما انتهى الرجل من كلامه قال الملك لحاشيته: جردوه من ملابسه، فجردوه فإذا هو مختون.

فقال الملك: هذا والله الذي أُريته في منامي، لا ما تقولون. أعطوه ثيابه ودعوه ينطلق لشأنه.

وبينما كان أبو سفيان في الشام، جيء بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم يحمله دحية الكلبي إلى عظيم بُصرى، وأرسله عظيم بُصرى إلى هرقل، فقال هرقل لحاشيته: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، ودُعي أبو سفيان في نفر من قريش، فدخلوا على هرقل، وأجلسهم بين يديه، وقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقام أبو سفيان وقال: أنا. فقدموه وأجلسوه بين يدي هرقل.

فقال هرقل لترجمانه: سله، كيف حَسَبُه فيكم؟ أجاب أبوسفيان:

هو فينا ذو حسب.

هل كان من آبائه ملك، فاستلبتموه ملكه، فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه؟

لا

هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

لا.

ومن يتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟

ضعفاؤه، أما أشرافهم وذوو الأنساب فيهم فلا.

أيزيدون أم ينقصون؟

لا، بل يزيدون.

هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه كرهاً له؟

لا.

هل قاتلتموه؟

نعم.

كيف كان قتالكم إياه؟

تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً، يصيب منا، ونصيب منه.

هل يغدر؟

لا، ونحن منه في مدة هدنة لا ندري ما هو صانع فيها.

هل قال هذا القول أحد قبله؟ فهو يتشبه به؟

لا.

وهنا قال هرقل لترجمانه: قل له: إني سألت عن حسبه، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تُبَعث في أحساب قومها.

وسألتك: هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا. فقلت: لو كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك آبائه.

وسألتك عن أتباعه، أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل.

وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا. فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.

وسألتك: هل يرتد أحد من أتباعه عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ فزعمت أن لا. وكذلك الإيمان، إذا خالط بشاشة القلوب.

وسألتك هل يزيدون أن ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم.

وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً، ينال منكم، وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون له العاقبة.

وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر.

وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا. فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله.

ثم قال هرقل: بم يأمركم؟ فأجابه أبو سفيان: يأمرنا بالصلاة، والزكاة، وصلة الأرحام، والعفاف، قال هرقل: إن يكن ما تقول فيه حقاً، فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه سيظهر، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلصُ إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغنَّ ملكه ما تحت قدمي هاتين.

وواضح من كلام هرقل أنه قرأ ما جاء في الإنجيل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان مطابقاً لصفاته.

ثم دعا هرقل بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فإذا فيه: \"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تَسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين\"(1).

فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات في مجلسه، وكثر اللغط والجلبة والضوضاء، وأُخرج من المجلس أبو سفيان ومن معه من قريش، وراح أبو سفيان يقول لنفسه: \"لقد عظم وارتفع أمر ابن أبي كبشة\"(2)، إنه ليخافه ملك الروم\"، وازداد يقين أبي سفيان بأمر رسول الله أنه سيظهر، وبقي كذلك حتى شرح الله صدره للإسلام.

 

ــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) أي كبراء دولتك ورعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك.

(2) أي الرسول - صلى الله عليه وسلم – وأبو كبشة زوج حليمة السعدية التي أرضعته.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

.

08:59:47 2019-12-17

جزاكم الله خيرا